أشيروا علي أيها الناس

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
مقالات ذات صلة
......................
انقر هنا لتحميل المقالات (Doc)

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

إن الظواهر خادعة. فأوضح شيء في الوجود الشمس، السراج الوهاج، ودليل ظاهرة الليل والنهار، خدعت الناس. ظل الناس يفهمون حركة الفلك خطأ، حيث كان الناس يظنون أن الشمس تدور حولنا إلى درجة أن من فهم سبب حدوث الليل والنهار بأنه دورة الأرض وليس دورة الشمس أُجبر على التراجع.

والحركة خادعة، لأن الإنسان يخيل إليه حين يركب مركباً متحركاً أن العالم هو المتحرك وأنه هو الثابت، كما يحدث في حركة قطارين، حين يشتبه على راكب أحدهما أيهما المتحرك، ويحتاج لمراقبة شيء ثالث حتى يتمكن من إعادة الوعي وإلى إزالة الالتباس.

لما أشار القرآن إلى حركة الظل، ولو شاء لجعله ساكنا، قال إنه جعل الشمس عليه دليلا، وقال لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض. حقا لو أن الشمس كانت تدور حول الأرض لترتب عليه فساد نظام الكون وهذا دليل الوهم المركزي وثبات الراصد. إن أوضح شيء في الوجود كان أخفى شيء في الوجود. الوضوح والخفاء في الظواهر الفلكية والاجتماعية تتشابه في خداع الإنسان ويخيل للإنسان أن الثابت يتحرك. والذي يجعلني أعيد هذه القواعد الأولية الأساسية هو أني أريد بحث موضوع الشورى.

لم أكن أفهم قول الرسول (ص) في أول حرب قام بها المسلمون: "أشيروا على أيها الناس"، تحقيقا للأمر الإلهي: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين".

لماذا ألح الرسول (ص) في طلب المشورة وقال للناس قبيل اتخاذ قرار الحرب "أشيروا علي أيها الناس"، وتحدث كل من أبي بكر وعمر؟ ثم تحدث المقداد وقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولم يكتف الرسول، بل ظل يكرر "أشيروا علي أيها الناس"، يريد رأي الأطراف المختلفة من المهاجرين والأنصار، خشية أن يكون لهم رأي آخر في تفسير المواقف. فتحدث سعد بن معاذ فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك … وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوا الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، إنا لصُبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله: فلما سمع رسول الله ذلك سـُرّ بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. بل من كان عنده ملاحظة يبين رأيه بمبادرة منه ويشعر أنه واجب مقدس وعليه أن يدلي برأيه لمصلحة المجتمع، ويسمع له رسول الله ويغير من قراره الذي اتخذه في نفسه ليأخذ بما أشار به الحباب بن المنذر وهو أحد الجنود.

هذه الحوادث كلها تفقد قيمتها ومعناها عندنا الآن لأننا نغفل عن شيء أساسي وهو قانون الله وقانون الوجود الإنساني وهو أن الإنسان يعطي أفضل ما عنده بالإقناع وليس بالإكراه والتجاهل وإشعاره بأنه آلة مسلوبة الإرادة. وأفضل ما نزل من السماء هو التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان على الإنسان الـنـبوي والمسارعة في الخيرات والكف عن المنكرات. يطلب الرسول المشورة ويلح في ذلك لأنه يعلم أن هؤلاء الجنود هم الذين سيقاتلون وينبغي أن يكون القرار صادرا عنهم وليس مفروضا عليهم. وهذا الموقف هو تزكية للإنسان بينما اتخاذه آلة تدسية له. هذا هو شأن الدين في المجتمع النبوي والمجتمع الراشد. وبعد أن طلب الرسول المشورة ومبادرة المسلمين بالنصيحة لله ولرسول وللناس عامة بما يرونه السداد والرشاد، ورأى الرسول استجاباتهم الصادقة وأنهم يطرحون أراءهم بصدق وإيمان، عند ذلك استبشر رسول الله.

فهل نحن نشم رائحة الشورى في السلم والحرب؟ أم أننا على رأي القائل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود.

الشورى عند المسلمين في موضع الاحتقار والازدجار، ويحيط به الغموض والنفي والإبعاد والإنكار أن يكون له وجود في حركة التاريخ. حتى لما كشف التاريخ أهمية الشورى وتحول إلى مؤسسة لها قواعدها تتسع وتتعمق كل مرة وكل يوم في حياة البشر بقينا نحن المسلمين نستخف بالشورى، بحيث بقيت قزما مشوها وولدا معاقا غير قابل للنمو لا يزيد في خلقه بعكس نظام الوجود. ونظام الحكم عندنا معاق أيضا وحياتنا الاجتماعية معاقة، وكأن العالم لا يحصل فيه شيء، ونظن أن العالم في آخر الزمان وأن التاريخ في نهايته وليس في بدايته. حتى لما استعار العالم الإسلامي البرلمان أتى به مفرغا من المعنى، مشوها، وهيكلا بلا روح ولا حياة، وإنما زينة وخرزا للإيهام بأنه على شيء، ويعلن المسلمون أن نتائج الشورى ليست ملزمة وإنما معلمة فقط، وأنه يمكن أن تلقى بها كسقط المتاع، بل الأمر أبعد من ذلك، حيث وصل الأمر إلى أن ليس لأحد أن يبدي رأيه وتصوره أمام "التصور الأوحد"، ولا يجوز الإيمان بشيء ولا فهمه ولا بحثه إلا بإذن منه. نعم لا علم ولا فهم ولا تصور إلا بإذنه. هذا إعلان لاغتيال العقل والفهم. هذا ما قاله الذي حاج إبراهيم في ربه لما قال إبراهيم: "ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت".

وكما قال الذي حاج موسى عليه السلام في ربه للذين آمنوا برب موسى وهارون: "آمنـتم له قبل أن آذن لكم – إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ـ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى". لا يسلبك رأيا معينا وإنما يسلبك أن يكون لك رأي وتصور. يسمح لك فقط بالتبعية المطلقة. والمجتمعات لها قدرة على سلب قوى الإدراك والفهم وتعطيل السمع والبصر. علينا أن نكدح ونقوم بالبلاغ المبين لأنباء المرسلين، "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين".

والعجيب أن المفاهيم تنطمر وينسى الناس ما ذكروا به. وإلا فما معنى أن يكون في القرآن سورة اسمها "سورة الشورى" وما معنى أن يوصف المؤمنون الذين استجابوا لربهم من أنهم "استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم"، بينما يحرص العالم الإسلامي مستنفرا على تفريغ الشورى من معناها، ويجتهد أن لا تصل الشورى إلى هدفها في معرفة ما يريده الناس؟ لماذا نصادر إرادة الناس؟ لماذا ضاع مجلس أهل الذكر في العالم الإسلامي؟

إننا نستخف بالإنسان لهذا يستخف الناس بنا. إن العواقب ستفرض علينا أن نستيقظ وعلينا أن نبذل الجهد لفهم سنن الله في الآفاق والأنفس، ونبلغ رسالاته ولا نخشى أحدا إلا اللـه وكفى بالله حسيبا.