نماذج من عمل الأنبياء

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

نماذج من عمل الأنبياء

في الصبر على الأذى دون أن يقوموا بأي أذى

عمل من يبني الحياة الإسلامية:

والآن أريد أن أذكر العمل الذي يقوم به من يريد أن ينشئ المجتمع الإسلامي المتميز، كما ورد في القرآن من حال الأنبياء كما قلت في المقدمة.

ففي كل المواطن التي يشرح لنا القرآن فيها الخصام والنزاع الذي حدث بين رسل الله وأقوامهم، يبين لنا أن سبب العدوان الذي لحق بالأنبياء، لم يكن إلا لأنهم يقولون: ربُّنا الله، ولم يكن لأنهم قاموا بضرب أو قتل أو اغتيال.

قال تعالى:

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(9)قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(10)قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(11)وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ(12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13)وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) ] إبراهيم 14/9-14 [.

فما جاء به الرُّسل هو البينات.

وموقف الأقوام أنهم ردُّوا أيديهم في أفواههم وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به.

وكان جواب الرُّسل:

(وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأتِيَكُم بِسُلطَانٍ إِلاَّ بِإِذنِ اللهِ وَعَلى اللهِ فَليَتَوكَّلِ المُؤمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَد هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيتُمُوُنَا) ] إبراهيم 14/11-12 [.

فاك ردُّ الذين كفروا لرسلهم:

(لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنَا أَو لَتَعُدُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوحَى إِلَيهِم رَبُّهُم لَنُهلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) ] إبراهيم 14/13 [.

والآن نريد أن يكون لنا أسوة بالأنبياء في طريقة دعوتهم: نعلن البينات التي جاء بها الرسل، فيكفرون بهذه البينات ويتوجهون إلينا بالأذى.

ونقول: (قَد هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيتُمُوُنَا) ] إبراهيم 14/12 [.

ويقول الذين كفروا: (لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنَا أَو لَتَعُدُنَّ فِي مِلَّتِنَا) فهنا يأتي أمر الله: (لَنُهلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) ] إبراهيم 14/13 [.

بيان هذا العمل في دعوة نوح (عليه السلام)

وهكذا كان نوح صريحاً جداً في دعوته حين أعلن لقومه طريقته، قال تعالى:

(وَاتلُ عَلَيهِم نَبأَ نُوحٍ إِذ قَالَ لِقَومِهِ يَا قَومِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيكُم مَّقَامي وَتَذكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلتُ فَأَجمِعُوا أَمرَكُم وَ شُرَكَاءَكُم ثُمَّ لاَ يَكُن أَمرُكُم عَلَيكُم غَمَّةً ثُمَّ اقضُوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونِ) ] يونس 10/71 [.

واضح هنا أن الذي كبر على قوم نوح لم يكن قيام نوح بعمل انقلابي أو عدواني، وإنما كان ذنبه هو مقامه وتذكيره بآيات الله. ولهذا قال: إن كان هذا العمل جريمة في نظركم فإني أتبل تبعة عملي:

(فَأَجمِعُوا أَمرَكُم وَ شُرَكَاءَكُم ثُمَّ لاَ يَكُن أَمرُكُم عَلَيكُم غَمَّةً ثُمَّ اقضُوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونِ) ] يونس 10/71 [.

ومعنى هذا أن نوحاً استمر في دعوته الطويلة استمراراً سليماً بحيث أنه رفض قومه هذه الدعوة وحاولوا أن ينالوا منه لم يعزم على قتالهم إنما عزم على الصبر إلى أن يقتل هو.

بيان هذا العمل في دعوة هود (عليه السلام)

(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُم هُوداً قَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ إِنَا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَومِ لَيسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِني رَسُولٌ مِن رَّبِ العَالَمِينَ * أُبَلّغُكُم رِسَالاَتِ رَبِي وَ أَنَا لَكُم نَاصِحٌ أَمِينٌ) ] الأعراف 7/65-68 [.

فهناك عرَّض نوح نفسه للموت، أما هنا فإن هوداً ينصح ويبيِّن وهذا يعني أنه مازال يأمل بإيمان قومه.

ومن هذه المقارنة البسيطة، يجب علينا أن نعلم نجاح الدعوات لا يمكن أن يكون إلا عن طريق التبليغ الكامل لآيات الله، سواء أقبلها الناس أم لم يقبلوها، مادامت في مرحلة التكوين. لأن الذي لا يقبل الرأي عن طريق الإقناع، قد تتمكن أن ترغمه على رأيك بالقوة، إلا أنه سينقض عليك حتماً متى سنحت له الفرصة ليثبت لك أنه لم يؤمن بفكرتك.

بيان هذا العمل في دعوة موسى (عليه السلام)

يقصُّ الله علينا في سورة غافر الدعوة التي قام بها موسى (عليه السلام) بقوله:

(وَلَقَد أَرسَلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرعَونَ وَ هَامَانَ وَ قَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُم بِالحَقِ مِن عِندِنَا قَالُوا اقتُلُوا أَبنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاستَحيُوا نِسَاءَهُم وَمَا كَيدُ الكَافِرينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ * وَقَالَ فِرعَونُ ذَرُوني أَقتُل مُوسى وَليَدعُ رَبَّهُ إِني أَخَافُ أَن يُبَدلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الفَسَادَ * وَقَالَ مُوسى إِني عُذتُ بِربِي وَرَبِكُم مِن كُلِ مُتَكَبِرٍ لاَّ يُؤمِنُ بِيَومِ الحِسَابَ) ] غافر 40/22-27 [.

بعد هذه المحاورة:

يتدخل مؤمن من آل فرعون ليوضح أهداف موسى ويجعل منها التهمة الموجهة إليه، ويثبت أن تلك التهمة لا يجوز أن تؤدي به إلى القتل:

(وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤمِنٌ مِن ءَالِ فِرعَونَ يَكتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِي اللهُ وَقَد جَاءَكُم بِالبَيِنَاتِ مِن رَّبِكُم وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَليهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصُبكُم بَعضُ الَّذِي يَعِدُكُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهدِي مَن هُو مُسرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَومِ لَكُمُ المُلكُ اليَومَ ظَاهِرينَ فِي الأَرضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأسِ اللهِ إِن جَاءَنَا) ] غافر 40/28-29 [.

لقد وضَّح الرجل المؤمن أهداف موسى (عليه السلام) ودافع عنها، واستطاع أن يؤكد للملأ المجتمعين أمام فرعون، أن التهمة الموجهة لموسى لا يجوز أن تكون تهمة ! لأنها دعوة واضحة وأهداف سامية يدعو الناس إليها، ثم وضَّح هذه الأهداف بأنها انتقال من عبادة فرعون إلى عبادة الله.

فلو أن لموسى ذنباً غير قوله ربي الله، لما دخل الرجل المؤمن الميدان ليدافع عن موسى أمام أعظم طاغية على وجه الأرض.

ولو نظرنا في آية:

(ذَرُوني أَقتُلْ مُوسَى وَليَدعُ رَبَّهُ إِنِي أَخَافُ أَن يُبَدِلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِر فِي الأَرضِ الفَسَادَ) ] غافر40/26 [.

لوجدنا فيها معانٍ كثيرة وترشدنا إلى أهمية دعوة موسى السِّلميَّة، وترينا تأثيرها في نفوس الناس عامة، وفي نفس فرعون بصورة خاصة. فلو أن فرعون استطاع أن يوجه تهمة القتل لموسى أو أنه استطاع أن يثبت أن لموسى ذنباً يدينه لما احتاج إلى أن يقول: ذروني أقتل موسى، أي أنه لما احتاج أن يلتمس رضا بطانته وموافقتها على تنفيذ حكم القتل على موسى.

ولكن موقف موسى (عليه السلام) البعيد عن كل التهم، دفع فرعون، مع غطرسته، أن يستشير بطانته في هذا الموضوع الذي أصبح خطيراً، لأنه واجه الضمير الإنساني ودخل إلى أعماقه على مشهد من فرعون وبطانته.

ففرعون، هذا الذي جُرِّد من كل مسوِّغ للقيام ضدِّ موسى لم يجد شيئاً يتَّهمه به، لذلك اضطر أن يواجه الحق بالباطل صراحة، فقد فُهِمَ من كلام فرعون على موسى أن آراء موسى وأفكاره خطيرة لأن مثل هذه الآراء قادرة على تغيير نظامه.

ومادام يبغي تغيير الأوضاع، فإن فرعون لا ينظر إليه بأنه يريد تغيير هذه الأوضاع بالقوة، وإنما ينظر لموسى بأنه قادر على تغيير هذه الأوضاع لأنه لا يجد في نظامه قوة تستطيع أن تواجه الأفكار التي يبيِّنها، وكذلك لا تستطيع مواجهة ضمائر الناس وعقولهم، التي كادت أن تقنع بأفكار موسى الربانية تاركة نظام فرعون الفاسد وراءها ظهرياً. لذا وجد فرعون أن استمرار هذه الأفكار يعني انهياراً لنظامه ودينه وبالتالي سقوطاً لحكمه. لذا طلب فرعون قتل موسى قبل أن يبلغ ذروة أهدافه.

إن الإحساس بقوة الحجة في نفوس الناس هو الذي حمل فرعون ويحمل كل الذين يخافون على نظمهم في كل مكان وزمان من قوة الحجة أكثر من خوفهم من قوة السلاح، بل إنهم يتمنون أن يحاربهم الدعاة ليبطشوا بهم دون تردد.

وإننا نرى أن كل الطواغيت عندما يريدون أن يحكموا على أي داعية يلجؤون إلى اتهامه بالإرهاب أو الاغتيال، فهم يفتشون دائماً في سجله التاريخي لعلهم يجدون فيه ما يدنيه.

وفرعون نفسه لم ينسَ أن يرجع إلى سجل موسى التاريخي علَّه يتمكن من العثور على شيء يدينه به، فلم ينس أن يلوح أمام الناس بفعلة موسى حيث قال:

(أَلَم نُرَبِكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثتَ فِينَا مِن عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلتَ فَعْلَتَكَ الَّتي فَعَلتَ وَأَنتَ مِنَ الكَافِرينَ * قَالَ فَعَلتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِينَ) ] الشعراء 26/18-20 [.

ففرعون لم يكن نموذجاً غريباً فنحن لا نزال نرى حجة فرعون إلى يومنا هذا حيث يقولون: كيف تكون ضدَّ نظامنا وأنت تغذَّيت من خيرات الوطن؟

كيف تكون ضدّنا وقد أنعمنا عليك فأطعمناك وكسيناك ومنحناك الوظائف ثم تجحد هذه النعمة وتكفر بها؟

ألم نربِّيك فينا وليداً؟ ولبثت فينا من عمرك سنين؟

وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين؟

فهذه الأمور بذاتها التي يمنُّ بها على الإنسان وتؤخذ حجة لإدانته سواء في عهد فرعون أم في عهد غيره على مرِّ التاريخ.

فكأن الإنسان إذا أكل وشرب ولبس تحت ظل نظام ما فلا بد له أن يطيع هذا النظام ويتعبد به. إلا أن هذه المسلَّمة التي لم يسلم بها الأنبياء، والتي لا يجوز أن يسلَّم بها عاقل هي التي أساسها يُستعبد البشر على طول التاريخ.

ولهذا ردُّ موسى حازماً واضحاً حين أنكر منه فرعون عليه حيث قال: (وَتِلكَ نِعمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَن عَبَّدتَّ بَنِي إِسرَائِيل) ] الشعراء 26/22 [.

وقد أجاب موسى على الشطر الثاني من التهمة الذي يتمثل بحادثة القتل التي وقعت من موسى خطأ في ما مضى من تاريخه:

(قَالَ فَعَلتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِينَ * فَفَرَرتُ مِنكُم لَمَّا خِفتُكُم فَوَهَبَ لِي رَبِي حُكماً وَجَعَلَنِي مَنَ المُرسَلَينَ) ] الشعراء 26/20-21 [.

يريد بهذا أن القتل حدث من موسى من الوكز، أي أن القتل حدث خطأ، وأن هذا الأمر ليس له علاقة بالحادث الجديد وهو الدَّعوة الجديدة التي هي موضع النزاع.

ومن هذا العرض الموجز لابد لنا أن نقول:

إن على المؤمن الداعي تكوين الجو الصافي الذي يبعد عنه تهم أعدائه بأشياء لا يؤمن بها ولا يدعو إليها، بحيث إذا أصرُّوا على إدانته لا يستطيعون أن يدينوه إلا بالفكرة التي ينادي بها ويعتز بأن يُقتل من أجلها. فحين يثبت المؤمن الداعي على مبدئه ويعرضه على الآخرين دون لبس أو غموض يهلك من هلك عن بيِّنة ويحي من حيَّ عن بيِّنة.

بيان هذا العمل في دعوة شعيب (عليه السلام)

(قَالَ المَلأْ ُالَّذِينَ استَكبَرُوا مِن قَومِهِ لَنُخرِجَنَّكَ يَا شُعَيبُ وَالَّذِينَ آمِنُوا مَعَكَ مِن قَريَتِنَا أَو لَتَعُودَنَ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَو كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افتَرينَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِن عُدنَا فِي مِلَّتِكُم بَعدَ إِذ نَجَّانَا اللهُ مِنهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيءً عِلمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلنَا رَبَّنَا افتَح بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بِالحَقِ وَأَنتَ خَيرُ الفَاتِحينَ) ] الأعراف 7/88-89 [.

فإن هذا التهديد من الملأ المستكبيرن من قوم شعيب لشعيب بالإخراج من قريتهم أو الرجوع إلى ملَّة قومه، لم يكن إلا بسبب مفارقته لهذه الملة أو إعلانه لهذه المفارقة، ولهذا كان جواب شعيب حاسماً إذ قال بكلِّ قوة وجرأة:

(قَدِ افتَرينَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِن عُدنَا فِي مِلَّتِكُم بَعدَ إِذ نَجَّانَا اللهُ مِنهَا …) ] الأعراف 7/79 [.

وهكذا كان عيسى (عليه السلام)

قال الله تعالى عن عيسى (عليه السلام)

(وَيُعَلِمُهُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَالتَّورَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُلاً إِلَى بَنِي إِسَرائِيلَ أَني قَد جِئتُكُم بِآيَةٍ مِن رَّبِكُم أَنِّي أَخلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيَرا بَإِذنِ اللهِ وَأُنَبِئُكُم بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم إِنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّورَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعضَ الَّذي حُرِمَ عَلَيكُم وَجِئتُكُم بِئَايَةٍ مِن رَّبِكُم فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ رَبِي وَرَبُّكُم فَاعبُدُهُ هَذَا صِراطٌ مُّستَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنهُمُ الكُفرَ قَالَ مَن أَنصَارِي إِلى اللهِ قَالَ الحَوارِيُّونَ نَحنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَا بِاللهِ وَاشهَد بَأَنَّا مُسلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِما أَنزَلتَ وَاتَّبَعَنا الرَّسُولَ فَاكتُبَنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ] آل عمران 3/48-52 [.

فهكذا دعوة عيسى (عليه السلام):

جاء بالآية من ربه وشهد هو والحواريون بأنهم مسلمون ومؤمنون بما أنزل الله، فمكر الكافرون، ومكر الله، والله خير الماكرين.

ولقد ورد في إنجيل متَّى الإصحاح 26:

« … وإذا واحد من الذين مع يسوع مد يده واستلَّ سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه فقال له يسوع ردَّ سيفك إلى مكانه لأن كل الذين يأخذون السيف يهلكون » (54).

« لا تظنون أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه … » (متَّى 10-34)

بيان هذا العمل في دعوة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)

وهنا ينبغي أن نذكر ملاحظة موجزة ـ وإن كانت تستحق التفصيل ـ وهي أن المؤمن الداعي عليه أن يلتزم الدعوة والبيان لا يتجاوزها إلى تطبيق الحدود حتى يسلم المجتمع له.

وأوضح ما يكون العمل في حالتيه في دعوة الرسول (ص):

فقبل أن يتكون المجتمع الإسلامي المتميز لم يأمر أصحابه بشيء من أعمال العنف بالقتال أو القتل. وإنما كان ذلك حين تكوَّن المجتمع المستقبل المتميز الذي خضع لحكام الإسلام وسيطر على المجتمع فنفَّذ أمر الله بهم وعليهم.

وهنا ينبغي أن نذكر ملاحظة موجزة ـ وإن كانت تستحق التفصيل ـ وهي أن المؤمن الداعي عليه أن يلتزم الدعوة والبيان لا يتجاوزها إلى تطبيق الحدود حتى يسلم المجتمع له.

وبعد أن يسلم المجتمع له أيضاً، لا يكون الأمر فوضى بحيث يقتل من يشاء، وإنما يحرم الإسلام قتل من لفظ الإسلام ولو كان بمجرد اللسان، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها حديث كحديث الذي قطع اليد ولاذ بشجرة، وحديث أسامة الذي جاء فيه: هلا شققت عن قلبه، وآيات من القرآن مثل قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا اللَّذينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبتُم فِي سَبِيِلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَن أَلقَى إِلَيكُمُ السَّلامَ لَستَ مُؤمِنًا تَبتَغُونَ عَرَضَ الحَيَةِ الدُّنيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيكُم فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيراً) ] النساء 4/94 [.

ففي هذه الآية توبيخ واتهام اللذين لم يكبحوا دوافع العدوان، ولم يخضعوا ذلك لأمر الله، فقد اتهمهم الله بسوء القصد بأنهم يبتغون عرض الحياة الدنيا، ومثل هذا العمل يليق بالجاهلين لا بالمسلمين.

وهذا معنى قوله تعالى:

(كَذَلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيكُم).

بل لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت أوامر الرسول صريحة في الوقت الذي لم يسيطر المجتمع فيه على نفسه فنهاهم عن أن يقوموا بأي بسط لليد بقصد الأذى أو حتى رد العدوان.

وقد قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:

(أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُم كُفُّوا أَيدِيَكُم وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنهُم يَخشَونَ النَّاسَ كَخَشَيةِ اللهِ أَو أَشَدَّ خَشيَةً) ] النساء 4/77 [.

قال ابن كثير: كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة.. وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرَّقون ويودون لو أُمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم. ولم يكن الحال إذ ذلك مناسباً لأسباب كثيرة.. الخ.

ثم قال: عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي بمكة فقالوا يا نبيَّ الله: كنّا في عزة ونحن مشركون فلما آمنّا صرنا أذلة قال:

« إني أُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ».

فلما حوَّله الله إلى المدينة أمره بالقتال. هذا ما قاله ابن كثير.

وقال الشيخ رشيد رضا:

« والظاهر أن الآية في جماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء، ولاشك أن الإسلام كلفهم مخالفة عاداتهم في الغزو والقتال لأجل الثأر، لأجل الحمية والكسب، وأمرهم بكفَّ أيديهم عن الاعتداء، وأمرهم بالصلاة والزكاة ناهيك بما فيهما من الرحمة والعطف، حتى خمدت من نفوس أكثرهم تلك الحمية الجاهلية، التي حلَّ محلَّها أشرف العواطف الانسانية. وكان منهم من يتمنى لو يفرض عليهم القتال.. ورأوا تركه ذلاً فطلبوا الإذن به.. الخ »، والقصد مما سقناه من كلام الله ومما ورد في التفسير إثبات الأمر من الله للمؤمنين بكف اليد. فإن هذا الأمر ثابت وإن اختلف في التعليل. وقد ذكر غير واحد من المفسرين غير وجه واحد من التعليل.

وقد تبين مما سبق ذكره، كما هو مقرر في كل المجتمعات البشرية: أن القاعدة التي بمقتضاها احتاج الناس إلى قانون، تستند إلى إقناع أولاً وإلزام ثانياً، وأن القانون في حاجة إلى إقرار وموافقة المجتمع، وأن الإلزام به إنما يكون بعد إقراره من قِبَل المجتمع.

فلا بد من الحصول على الموافقة للإقرار قبل الإلزام، وهذا الذي عبرنا عنه بالدعوة إلى إنشاء المجتمع الإسلامي أو إصلاحه أولاً. ثم بتمثيل المجتمع الذي أقرَّ وخضع وتميَّز ثانياً، ومن علاقة هذا المجتمع المتميز بالمجتمعات الأخرى.

(إلاَّ أن الأخير ليس موضوع بحثنا هنا) وهذا الذي حاول أن يذكره الأستاذ المودودي معقِّباً على مؤامرة اغتيال رئيس وزراء باكستان لياقت علي خان حيث قال:

« إنه ليس شيء أشأم لقطر من الأقطار، من أن تنتزع فيه صلاحيات القضاء والحكم، من العقل والعلم والحجة والرأي العام، وإن الأمة لا تكون عدوا لنفسها، ولا هي مجنونة مشوشة الحواس، لا يمكن أن تكون من السفاهة والحمق، بمكان أن تكون من السفاهة والحمق، بمكان يسلم فيها الحكم إلى قاضي السف المسلول، الذي هو أعمى بمعنى الكلمة. ولئن كنا لا نريد أن نجعل مستقبلنا مظلماً حالكاً، فحتم علينا الوقوف بكل ما نملك من قوة، دون انجراف البلاد في هذا الاتجاه الخطر المهدد لكيان البلاد … »(1).

وكما ثبت فيما سبق، أن الأمر بكفِّ اليد في تلك الحالة التي لم يتهيأ فيها للدعوة مجتمع متميز مسلم بها، كذلك جاء الأمر بالإذن بالقتال حين تهيأ للدعوة المجتمع الذي يقرُّ بها ويخضع لها. وهذا الذي كان يسعى إليه الرسول (ص) حين كان يعرض نفسه على القبائل.

فكان واضحاً من حياة الرسول (ص) وأقواله وواقع دعوته، أنه في أثناء تكوين المجتمع الإسلامي لا محل لأن يجعل الإنسان نفسه قاضياً لتنفيذ الأحكام ولاسيما الأحكام المتعلقة بالدماء والحدود.

وقد جاء الإذن قبل أن يأتي الأمر:

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا وَأَنَّ اللهَ عَلَى نَصرِهِم لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) ] الحج 22/38 [.

فقد لحق بهم الأذى ولم يكن لهم ذنب إلا أن يقولوا رُّبنا الله وقد علم الجميع أنه لم يكن من شان المسلمين استخدام السلاح قبل أن يتكون المجتمع الإسلامي، حيث بقي المسلمون يصبرون على الأذى حتى تكوَّن لهم المجتمع الذي أُذن له بالقتال.

ولم يكن أهل الجاهلية أرحب صدراً، ولا أقل تطلباً لحجج يمكن أن تدين المسلمين، في أية مخالفة في استخدام السلاح، فلم يكن للجاهلين أية حجة في ذلك، وإن عدم اتِّهام المسلمين بذلك، ليس بسبب أن الجاهليين كانوا لا يرون مثل هذه الحجة أمام الناس، بل لأن المسلمين لم يسمحوا بأقل تساهل في هذا الموضوع حتى يمكن اتهامهم بذلك.

أما كان الجاهليون هم الذين هبوا وطاروا فرحاً ولوحوا باستنكارهم في حادثة قتل ابن الحضرمي؟!

فلم تكن قريش أزهد في التشهير بالمسلمين من أبناء هذا العصر لو وجدت فرصة مناسبة، لذا قالت قريش: (لقد استحلَّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، وكان ذلك بعد بدر الأولى).

فأنزل الله في هذا:

(يَسئَلُونَكَ عَنِ الشَّهرِ الحَرَامَ قِتَالٍ فِيهِ قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفرُ بِهِ وَالمَسجِدِ الحَرَامِ وَإِخرَاجُ أَهلِهِ مِنهُ أَكبَرُ عِندَ اللهِ وَالفِتنَةُ أَكبَرُ مِنَ القَتلِ) ] البقرة 2/216 [.

أي أن الصد عن سبيل الله أكبر عند الله من قتل من قُتِلَ، والفتنة أكبر من القتل، قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردُّوه إلى الكفر بعد إيمانه.

« فذلك أكبر عند الله من القتل »(1).

ثم ألا يستحضر المسلم حال المسلمين الذين كانوا يعذبون في مكة؟ فحين كان يعذب بلال كما جاء في السيرة:

« وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في ذلك البلاء: أحدُ أحدُ، وكان ورقة بن نوفل يُمر به وهو يعذُّب بذلك وهو يقول أحدُ أحدُ، فيقول أحدُ أحدُ يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف … فيقول أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذته حناناً »(2).

فلو كان في الإمكان توجيه أي تهمة لهؤلاء، فما كان أيسر قتلهم، ولكن لم يكن لهم ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله، يؤمنون بالله ويكفرون بالأصنام ويقولون: أحدُ أحدُ.

توحيد الله والدعوة إليه ليس في حاجة إلى غير هدى الله

في بدئه ونموه واستمراره فهو يحمل رصيده في نفسه

هذا ما يقصُّه الله علينا في سورة الجن: من أن عبد الله لما تجمعوا عليه لبداً لم يكن له من ذنب إلا أنه يدعو ربَّه، ولم يستعن بشيء إلا بالتبليغ والبيان:

قال تعالى:

(وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً * وَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبدُ اللهِ يَدعُوهُ كَدُوا يَكُونُونَ عَلَيهِ لِبَداً * قُل إِنَّمَا أَدعُوا رَبِي وَلاَ أُشرِكُ بِهِ أَحَداً * قُل إِني لا أَملِكُ لَكُم ضَراًّ وَلاَ رَشَداً * قُل إِني لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَن أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلتَحَداً * إِلا بَلاغاً مِن اللهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً * حَتَّى إِذا لرَأَوا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعلَمُونَ مَن أَضعَفُ نَصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) [الجن 72/18-24]