الدين والقانون، شروط القتال في الإسلام

من Jawdat Said

مراجعة ١٠:٤٨، ١٨ أغسطس ٢٠٠٩ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

الدين والقانون


Aldeenwalkanon.gif
تحميل الكتاب
المقدمة
أسس الدين والقانون من رؤية قرآنية
الإنسان في الدين والقرآن
وحدة النبوات
الرسل الذين لم يقصصهم الله علينا
العلماء ورثة الأنبياء
ختم النبوة
الخروج من الخوارق إلى السننية
ارتباط آيات الآفاق والأنفس بآيات الكتاب
كلمة السواء
لا إكراه في الدين
قانون النسخ
السلطة للجهاز العصبي
قصة آدم وزوجه
قصة ابني آدم
ما الدين وما القانون؟
السلام العالمي
شروط القتال في الإسلام
عصر الفتن


ربما أسلوب بحثي يصدم القارئ فيقول : كيف تفسر الحث الشديد والمتكرر في القرآن على القتال والجهاد ؟ كيف يمكن الانسجام بين اللاعنف ، وبين القتال والجهاد الموجود في القرآن بتكرارٍ وإصرارٍ ؟ لبحث هذا الموضوع لابد من الإحاطة ببعض الجوانب الأساسية وإلا فلن نفهم شيئاً .

أولاً لابد من التفريق بين :

1- المجتمع المبنيِّ على أساس القوة والعنف والإكراه ، فهذا المجتمع اللاشرعي واللاقانوني ، مجتمع الغاب مجتمع الأظفار والأنياب ، فهذا المجتمع هو المجتمع الذي جاء الأنبياء للقضاء عليه وإزالته ، لابد من التفريق بين هذا المجتمع وبين :

2- المجتمع المبني على أساس القانون والعدل والشرعية . وليكون هذا المجتمع شرعياً ينبغي أن يتكون بطريق سلمي ليكون شرعياً مبنياً من الأساس على السلام والشرعية والإقناع ، وعدم الإكراه فهذا المجتمع هو الذي يحمي أفراده .

وإذا استخدمنا المجتمع على المفهوم الذي يستخدمه ( أرنولد توينبي ) بمعنى الحضارة وليس الدولة ، فإن الحضارات كمجموعات بشرية ضخمة ، يمكن فرزها ككائنات متميزة ، ينبغي أن نعترف أن الحضارة المسيحية هي التي أبرزت الدولة السياسية الديمقراطية على كل علاتها . مولود جديد في الحياة البشرية ورصيدها الأساسي الوعي الشعبي ، وعلى قدر رسوخ هذا الوعي يكون رسوخ الديمقراطية أيضاً ، فالدولة الديمقراطية ليس فيها حق ( الفيتو ) والسلطة للإقناع الفكري وغن كان هناك تلاعبٌ يكون بالإقناع أيضاً ، وليس بالإرهاب أو الإكراه .

ومع بروز الديمقراطية داخل الدولة الواحدة فإن العلاقات بين الدول على أساس القوة إلى الآن ، ومع أن القوة فقدت مفعولها الواقعي إلا أنها لا تزال تقوم بدورها السحري .

ينبغي أن تتحول العلاقات الدولية إلى الإقناع والقبول الطوعي والتنافس على الإقناع وليس التهديد بالقوة ، علينا أن نرفع مستوى وعي الناس حتى تتحول الأمم المتحدة إلى مؤسسة ديمقراطية ؛ مؤسسة كلمة السواء .

إن الأمم المتحدة لا تزال كأي بلد مختلف ، يحكمه طاغية وحاشيته ولا قيمة لدستور ولا برلمان . ولكن الأمم المتحدة أسوأ ؛ لأن دستورها لا يوجد فيه حتى المساواة النظرية ، بل ينص على حق ( الفيتو ) . الأمم المتحدة ليست شرعية مهما سميت شرعية دولية ، لأنها تفقد المساواة ، ولا شرعية بدون مساواة . فالذين يقبلون كلمة السواء ينبغي أن ينشئوا مؤسسة السواء ، وإلى الآن لم يواجه العالم هذا الموضوع بجدية ، حيث أنه إلى الآن لا يوجد في العالم من يثق بكلمة السواء ، والناس عادة لا يدخلون في التجارب الجديدة إلا مضطرين ، وكأن الظروف العالمية لم تنضج بعد حتى يشعروا بضرورة الدخول إلى التجربة الجديدة .

ولبحث موضوع القتال المأمور به في القرآن ، نحاول أن نوضح شروطه التي تجيز القتال أو توجبه .

أولاً - لا يجوز القتال ولا القتل لأجل فرض دين بالإكراه من أيٍ كان ، دولةً أو أفراداً ، وأي تهديد أو إكراه لمطالبة إنسان بقبول رأي أو فكر بالقوة مرفوض في الإسلام رفضاً باتاً . ليس في الإسلام فقط بل عند كل الأنبياء كما بينا ذلك لأن التوحيد هو رفض طاعة من يأمر بقتل أحد من أجل أفكاره . يقول القرآن : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا ) ] البقرة : 2/256 [ . بل يحرم الدفاع عن النفس قبل تكوين المجتمع الذي يحمي كل الأديان ، ويحرم قتل أي إنسان من أجل العقيدة ، فحرية العقيدة شيء أساسي بل هو التوحيد ؛ لأن التوحيد كما بينا سابقاً ليس مسألة لاهوتية ، وإنما مسألة اجتماعية سياسية ، ويُعلّمُ التوحيدُ أتباعه أولاً أن لا يكونوا أداة لمن يريد أن يفرض دينه بالقوة ، وأن يرفضوا أن يقبلوا ديناً بالقوة والإكراه ، فالنفس الإنسانية محرمة ولا يجوز قتلها من أجل الأفكار ، فقتل الإنسان لأجل الأفكار محرم ، ويصف القرآن عباد الرحمن المؤمنين بأن من صفاتهم :

( لَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) ] الفرقان : 25/68 [ .

( مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) ] المائدة : 5/32 [ .

هذا ما جاء به الأنبياء جميعاً والتزموه ، وهذا ما وصلت إليه الديمقراطية بعد تجارب التاريخ المريرة في تقرير حرية العقيدة مبدأً أساسياً في كل دستور ديمقراطي .

ثانياً - حين يتكون مجتمع حرية العقيدة ، وينتج هذا المجتمع مؤسساته السياسية ، إن مؤسسة هذا المجتمع ينبغي أن تحمي حرية التدين بين الناس . وتحمي أموالهم ودمائهم بالعدل ، بكلمة السواء ، فالقرآن يخاطب هذا المجتمع الذي تكون بالقبول الطوعي لمبدأ ( العدل والسواء ) أن يقيم العدل والسواء داخل هذا المجتمع ضمن الشريعة والقانون ، ولا يجوز تفسير الشريعة والقانون بغير العدل يسوي بين الناس . وكثيراً ما يعترض الناس هنا بأن كل الناس يفسرون شريعتهم وقانونهم بأنها العادلة ، وللرد على هذا الاعتراض علينا أن نكرر أيضاً :إن تفسيرنا أو تفسير الآخرين لن يتمكن من التلاعب بالعواقب والنتائج والثمار التي تنتجها تفسيراتهم ، لأن العواقب هي التي ستشهد على صحة التفسير ، وكثرة التفسيرات الخاطئة ينبغي أن لا تؤدي بنا إلى اليأس والعدمية ، وما أكثر الذين يستسلمون إلى اليأس والعدمية عند هذه العقبة . فلهذا حرم تكوين وصنع المجتمع بالعنف ؛ لأن المجتمع الذي يصنع بالعنف ينبغي أن يجيز للآخر ما أجازه لنفسه ، فيكون قبل شريعة الغاب لا شريعة القانون ، ومجتمع العدل الذي تكون وقبل به المجتمع طوعاً . إذا خرج عليه من يريد أن يفرض شريعة الغاب فلهذا المجتمع الشرعي حق منع عدوا من يحاول الخروج على شريعة العدل ، وهذا ما يقرره القرآن ولو بالقتال إن لم يمكن منعه بغير قتال ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ] الحجرات : 49/9 [ .

فالقتال من قبل مجتمع العدل لإيقاف الذين يقتلون الناس ، ويُهجِّرونهم لأجل أفكارهم أو أعراقهم ، واجبٌ . ومجتمع العدل لا يهم ما اسمه - لأن الأسماء لا تغير الوقائع - وإنما أن يؤمن العدل بين الناس هو الهدف ، فمن يؤمن بهذا فهو مؤمن إيماناً يُمنِّه في نفسه وماله ، ( تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) ] النساء : 4/94 [ .

لأنه يؤمن بالعدل وهو موحدٌ لله عملياً ؛ لأن التوحيد رفضُ الطاغوت والظلم ، فمن يكفر بالطاغوت الذي هو الإكراه ، ويؤمن بالله الذي هو اللااكراه ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها . والأنفس من يؤمن بالطاغوت وبالإكراه فهو مشرك بالله ، وهو الذنب الذي لا يغتفر ، لهذا بعد آية اللاإكراه في الدين يقول :

( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) ] البقرة : 2/257 [ .

فالموضوع ليس بالكلمات والرموز ، فالموضوع علم فلك وعلم مجتمع وليس لغات . فإذا سمينا الكفر إيماناً والإيمان كفراً لا يتغير الكفر والإيمان ، وإذا سمينا الطاغوت إيماناً والعدل كفراً لا تتغير المسميات . هذا هو القتال المسموح به داخل المجتمع الواحد الذي يسلم بكلمة السواء ، فإذا خرج في هذا المجتمع من يريد أن يفرض بالإكراه والعنف ، فيوقف - الخارج على القانون وكلمة السواء - بالقتال إن لم يكن إيقافه بغير قتال ، من أي دين كان هذا المعتدي . ويطلق عليهم في المصطلح الإسلامي ( الخوارج ) و ( البغاة ) .

فلهذا سمى المسلمون الخلفاء الأربعة بعد الرسول ( راشدين ) ؛ لأنهم لم يأخذوا الحكم بالسيف والقهر ، ولم يجعلوا الحكم بعدهم لأولادهم بالوراثة . ولم يسمّ المسلمون خلال تاريخهم كله أحداً من الحكام بعد ذلك راشداً ، لأنه من ذلك التاريخ إلى يومنا ها ، بقي الحكم بالسيف في كل العالم الإسلامي . فهم وإن عجزوا عن إعادة الرشد عملياً في حياتهم الواقعية ، إلا أنهم لم يضيعوا معنى الرشد ، وفهموا الرشد ليس على أنه صنع إنساني ، وإنما على أنه صنع إلهي ، أكرم الله به الرسول وأصحابه ، فهذا هو خطأ المسلمين وخطأ العالم المعاصر لهم والسابق عليهم . ولم يتحول الرشد إلى صنع إنساني إلا في الديمقراطيات الحديثة المتأخرة جداً ، فالقرآن رسخ في أذهان الناس أن الحاكم الذي يأتي بالإكراه لا يكون راشداً ، إنما هو طاغوتٌ وغير شرعي ، ولكنهم عجزوا عن فهم إمكانية إعادة الحكم الشرعي بغير عنف ، فرجعوا إلى قبول العنف في صنع الحكم ، ودخلوا في دائرة شريعة الغاب مرةً أخرى ، ولم يخرجوا منها إلى يومنا هذا ، وربما يمكن أن نقول إن : تركيا وحدها قبلت التحدي الديمقراطي في العالم الإسلامي ، وهو البلد الذي قلد الغرب ونبذ الدين بثورة شبيهة بالثورات الغربية ، ولكن الآن هذا البلد الذي سبق العالم الإسلامي كله في إلغاء الإسلام والحكم الإسلامي غير الراشد ، يعيد نفس هذا البلد الرشد ، أو صنع الحكم على طريقة الرشد ، ويمكن إذا تعمق هذا الاتجاه أن يعود الرشد إلى العالم الإسلامي كله ، كما تدخل أوربا الغربية إلى الاتحاد بالرشد .

هذه الأحداث التاريخية أحداث مهمة ونمو في الحركة الإنسانية . وعلينا أن نستبشر بها لنُسَرِّع من حركتها ، لا أن نتوجس منها ونخاف ، لأن الذين يخافون منها خشية أن يفقدوا امتيازاتهم ، ليست في محلها ؛ لأن هذا التقدم الذي يحصل في العالم لصالح الجميع ، ومن لا يفهم هذا ينبغي أن نساعده في فهم ذلك ، ومهما كان فهم ذلك صعباً ، فعلى أهل الفهم والعلم أن يبينوا حتى لأصحاب الامتيازات أنهم لن يخسروا شيئاً غير الخوف الذي عندهم وسيكسبون الأمن ، وليس علينا إلا الفهم والتفهيم .

ثالثاً - علاقة هذا المجتمع ؛ مجتمع العدل وكلمة السواء مع بقية المجتمعات . القرآن لا يريد من بقية المجتمعات في العالم إلا أن يتركوا أمرين اثنين فقط :

1- قتل الناس لأجل دينهم ، أي من أجل أفكارهم وعقائدهم وتفسيراتهم وصورهم الذهنية مهما كانت هذه الصور .

2- تهجير الناس من ديارهم للأسباب السابقة نفسها .

فإذا تركت المجتمعات هذين الأمرين فقد استحقت الإحسان والعدل . يقول القرآن :

( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ) ] الممتحنة : 60/8-9 [ .

ويقول القرآن أيضاً - مخاطباً مجتمع العدل - عن المجتمعات الأخرى :

( فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً … فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ) ] النساء : 4/90-91 [ .

هذا هو دستور القتال والجهاد في القرآن ، فكل مجتمع لا يمارس القتل والتهجير لأجل الأفكار ، فهذا المجتمع حمى نفسه وماله بحسب شريعة القرآن ومجتمع القرآن . وكل قتال خارج هذه الشروط ، فهو قتال الطاغوت وقتال الجاهلية ، ليس القتال الذي سمح به القرآن . ويقول القرآن : ( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ] النساء : 4/76 [ .

وما دام هناك قتل للناس وتهجير لهم من ديارهم لأجل آراءهم ، فقد أعطى القرآن لمجتمع العدل - الذي صنع نفسه بالشرعية - سلطاناً مبيناً ليوقف هذا القتل والتهجير بكل الأساليب التي توقف هذا القتل والتهجير بأقل الوسائل كلفة ، وبالقتال الشديد إن لم يمكن إيقافه بغير القتال . فهذا هو القتال المشروع في القرآن ، فكل الآيات التي تأمر بالقتال متوجهة إلى المجتمع الذي يلتزم بهذه الشروط .

ويمكن أن نقول : القتال المشروع في القرآن يحتاج إلى شرطين :

1- شرط للمجتمع الذي يمارس الجهاد أن يكون صنعَ مجتمع القانون بطريق سلمي شرعي .

2- شرط للمجتمع الذي يُمارسُ القتالُ ضده وهو أن يكون هذا المجتمع يقتل الناس ويُهجِّرهُم من ديارهم . ومن دون هذه الشروط لا يوجد قتال شرعي في القرآن . وإذا لم يوجد مجتمع يقتل الناس ويهجرهم من ديارهم ، فقد يكون القتال توقف في العالم ويكون الناس دخلوا عالم السواء ، وتكون الحروب قد ألغيت غير مأسوف عليها ، ودخل الناس في السلم كافة .

وهذا العالم لم يعد خالياً بل صار ممكناً ، لا بل صار ملحاً وضرورياً ، فكما ألغي الرق الذي كان نشأ نتيجة الحروب ، ستلغى الرب ، وستوجه كل الطاقات للتنافس في ابتكار الوسائل للمهمات الكبيرة والعاجلة ، لإيصال خلاصة دروس جهد البشرية خلال تاريخهم إلى أدمغة الناس ، وإن شئت قل إلى عقولهم أو نفوسهم ؛ لأن غياب خبر الأحداث عن الناس هو الذي يدفعهم إلى الفهم الخاطئ وإلى السلوك الخاطئ ، أي إلى الكراهية ثم إلى سفك الدماء .

نرجو أن نكون وضحنا بهذا دستور القرآن والأسماء والآمرين بالقسط من الناس في شأن القتال ، وإذا عرفنا هذا ، يمكن أن يساعدنا على فهم ما حدث للمسلمين كما حدث للأصح السابقة ، حيث كتب المسلمون ثقافتهم حول القرآن بعد أن فقدوا الرشد وتكيفوا مع الغي ، فأجازوا أخذ الحكم بالعنف ، ولم يتمكنوا من فهم تغيير المجتمع بالإقناع ، وإنما تغييره بالعنف والقوة ، مع حنينهم الدائم إلى الحكم الراشد ومنهج الأنبياء . ولكن الحضارة الغربية جاءت أيضاً بجواز صنع الحكم بالعنف والقتل ، فكان هذا الخطأ مساعداً على استمرار خطأ المسلمين ، فهم يقومون الآن بإعادة الرشد بالثورة ، بينما ينبغي أن يصل المجتمع إلى درجة تحريم العنف ليتمكنوا من صنع الرشد أو الديمقراطية . فيعيش العالم الغربي في تناقض كما يعيش المسلمون في تناقض ، ولابد من العودة إلى منهج الأنبياء بتحريم العنف والإكراه في فرض الدين والسياسة . وينبغي أن يعترف الجميع بمبدأ الأنبياء في عدم جواز العنف لفرض الدين ولفرض السياسة ، وعند ذلك سيسقط الطواغيت الصغار مع الخمسة الكبار ، ليبدأ العالم نظاماً عالمياً جديداً بحق وعلى كلمة السواء . وعلى مثقفي العالم أن يكشفوا إلى أي درجة ابتعد العالم جميعاً عن الدين وعن نصرة الديمقراطية ، حيث يفهمون الدين على أنه قهر وإكراه وحيث يقبلون الامتيازات على إنها قانون . فكما الإكراه يلغي الدين ، كلك الامتيازات تلغي القانون ، ولا تزال دعوة الأنبياء في حاجة إلى نوع جديد من أهل العلم ليستعيد العالم الثقة بالدين ، وبالقانون وبالإنسان ، حيث تعيش الإنسانية أزمة ثقة . فإذا كان العالم جميعاً يسكت على تشويه معنى الدين والقانون ، فإن التاريخ لا يبالي بالذين يتجاهلون عِبَر التاريخ ، ويطبق عليهم قانونه الذي انطبق على الماضين .

( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) ] هود : 11/102 [ .

والقرآن يقول عن الذين لا يعتبرون بالتاريخ : سيجعلهم عبرة للمعتبرين ، هؤلاء لن تبكي عليهم الأرض ولا السماء ولن تتوقف حركة التاريخ من أجلهم .

( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) ] الدخان : 44/28-29 [ .

( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) ] المؤمنون : 23/44 [ .

( وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) ] سبأ : 34/19 [ .

والتاريخ لا يزال سيره على توقعات الملائكة ، حيث إن البشرية لا تزال في عهد الفساد في الأرض وسفك الدماء ولم تحقق بعد ما علم الله فيها .

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ … قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَالا تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ ) ] البقرة : 2/30-31 [ .

وبدأ يراود بعض المثقفين نوعٌ من العلاقات الإنسانية السوية والغيرية في بدايةٍ لمعارضة جذرية للثقافة الغربية ، بل ثقافات العالم جميعاً . حيث هناك تصور تجربة أصلية تقع خارج التاريخ ، لم يسبق أن سُجِّلَ في التاريخ بشكل عملي في مجتمع يسيطر على هذه العلاقة بوعي ، وإن بلغ بعض الأفراد كنوع شاذ من البشر . وإن الذين استطاعوا أن يلمحوا هذا النوع من العلاقات ويرونه محكوم عليها بالفشل ، فعباراتهم تتحدث عن هذه العلاقة الجديدة بأنها فاشلة ، إن لم ينعتوها بأنها خالية ومثالية ، بل يرون أن أصحابها ذهبوا ضحية أفكارهم حيث قتل ابن آدم ، وسقراط والمسيح ، وغاندي ، ولا ينتبهوا إلى أن بذرتهم التي بذروها واعتنى بها الأنبياء ، الآن التاريخ بدأ يعتني بها وصارت الدعوة على الألسنة ، ويدينون العنف وإن كانت إدانتهم مثل الذي يبحث عن القذى في عين الآخر ، وإن كانوا لا يبصرون الخشبة التي في أعينهم . وإن القتل لم يعد بطولة ولا يبعث على الإعجاب ، حيث بدأ العلم يتلمس بقرون الاستشعار أن الجهاز العصبي قابل للفهم وليس علاجه كسره وسفك دمه .

إن دم ابن آدم الأول الذي سُفك لم يذهب سدى . إن صراخ دمه لا يزال يقرؤه الملايين من الرجال والنساء والأطفال وإن كانوا لا يفهمون معناه . فمنهم يقرؤون في الكتب المقدسة : « أن قايين قام على هابيا أخيه وقتله فقال الرب لقايين أين هابي أخوك ؟ فقال لا أعلم أحارس أنا لأخي فقال ماذا فعلت ؟ صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دمَ أخيك من يدك … قال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يُحْتَمَل » تكوين ( 4 : 8-14 ) .

وفي القرآن الذي يحفظه الملايين عن ظهر قلب ، ويقرؤه مئات الملايين في صلواتهم اليومية ، يقرؤون قصة ابني آدم ، وإن كانوا لا يعرفون التقنية العجيبة في هذه الحادثة ، تقنية الجهاز الجديد ، الجهاز العصبي الإنساني القابل لاستيعاب معطيات التطور في التاريخ . يقول :

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ، إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ ، لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ ) ] المائدة : 5/27-31 [ .

نحن ربما أبناء القتلة بيولوجياً ، ولكننا بدأنا نعرف كيف سنكون أبناء الجهاز العصبي ، الذي استوعب عِبَر التاريخ ، وكما كان علماء الفلك يفهمون الفلك على أساس مركزية الأرض ، ربما علماء الإنسانيات يفهمون الإنسان على أساس مركزية الإنسان ، لا على أساس مركزية التاريخ ، فيخطئون في التفسير . والخطأ في التفسير شأن الجهاز العصبي الإنساني ، ولكن التاريخ يصحح التفسير الخاطئ في الفلك ، والطب الجسدي ، والتربية السيكولوجية والعلاقات الاجتماعية .

إنَّ المشكلة ليست في النصوص ولا في الإنسان ، ولكن المشكلة في تقديم المعرفة التاريخية بتسلسل غير منقطع . أتمنى أن نفهم التاريخ على أساس متصل في التطور وليس على أساس منقطع وخلال عمر موضوع الدراسة ، لا على أساس لحظة من عمرها .

إن باستور لما كان يبحث في زجاجات الخل ، ليعلم كيف ينتقل الفساد في الكائنات العضوية ، كان الناس يموتون بالجدري والكلب وأنواع الأمراض المعدية ، ولكن الذين يبحثون في زجاجات الثقافات ، ليعلموا كيف ينتقل الفساد خلال الكائنات الثقافية ، سيكتشفون الكائنات الفكرية الدقيقة المبثوثة في أغذيتنا الفكرية وثقافاتنا المقدسة ، لنتمكن من كشف قوانين الصحة الفكرية ، وكما أمكن كشف قوانين الصحة الجسدية ، وتعقيم المواد الثقافية من الجرثوم الذي يؤدي إلى قتل الناس بأيدي إخوانهم ، لابد من كشف وسائل التحذير النفسية حتى لا تكون الجراحات مؤلمةً لنزع الخلايا السرطانية أو القضاء عليها .

لما كنا نجهل الكائنات العضوية التي تنقل الأمراض ، كما يمكن أن ينقل إليك المرض شخص يحبك ويقبلك ويبكي عليك حين تموت . الآن نحن كذلك ؛ كان الناس يعلمون في الكنيسة صباح الأحد أحبوا أعداءكم ، ولم يكن متناقضاً مع ما يعظون به من حب العدو أن يحرقوا بالنار من لا يفهم بعض الأمور بشكل مختلف . هل يمكن أن نضع تحت المجهر نوع هذا الجرثوم الفكري الذي يقوم بهذا الدور ؟ ونوع المناخ الثقافي الذي يمكن أن ينتشر فيه هذا الجرثوم ؟ أظن أننا نخصص مبلغاً معيناً لمرض ( الإيدز ) و ( السرطان ) للسيطرة عليهما ، ويهتم عامة الناس بأخبار ذلك الجهد وما وصلوا إليه ، ولكن هل في مقابل ذلك يوجد وعي متطور واهتمام شعبي متابع للصحة الفكرية ؟ في منظمة الصحة العالمية يشكُون ويقدمون بيانات بصور متعددة في الإنفاق الذي يخصص للتسلح بسخاء هنا ، وإقتار هناك .

قد يقول من يتابع هذا البحث إنني أتلاعب بالنصوص ، نعم أنا لا أنكر أنني أتلاعب بالنصوص . النص كله تلاعب ، إن لم نرجع إلى الموضوعات التي تتناولها النصوص ، لأن كلمة الحب ليست حباً ، وكلمة النار ليست ناراً ، ولكن إذا رجعنا إلى الموضوعات فهناك نستطيع أن نصحح التلاعب .

وهناك سنعلم أن ( الدش ) البارد ليس هو الدافئ ، لقد تلاعبنا خلال التاريخ كله بالكلمات وبالنصوص ، إلا أن التاريخ لم يبال بتلاعباتنا ، وظلت سنن التاريخ كما هي ولم تتغير ولم تتبدل . ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) ] فاطر : 35/43 [ . وأنا لا أعول على النصوص وحدها ؛ لأن تجربتنا مع النصوص كبشر وكعالم إسلامي قابلة للدراسة ، ولن ترجع للنصوص قيمتها إلا بعد أن نتعلم التعامل مع الموضوعات ، وعند ذلك ترجع للنصوص وظيفتها بدور إيجابي .

فقد قال النبي (ص) في ذلك :

« يوشك أن يُرفع العلمُ … وذاك عند ذهابِ العِلْمِ فقال : زياد بن لبيد يا رسول الله وكيف يَذْهبُ العلمُ أو يُرفع العِلمُ ، ونحنُ قرأنا القرآن وعلَّمناه أبناءنا وأبناؤنا يُقرئون أبناءَهم ، فقال رسول الله (ص) ثَكِلَتْك أَمُّك يا ابن لبيد ، إن كُنتُ لأراكَ من أفقه رجُلٍ بالمدينة ، أو من أفقهِ أهلِ المدينة ، أو ليستِ التوراةُ والإنجيلُ بأيدي اليهودُ والنصارى فما أغنى عنهم حينَ تركوا أمر الله ، أو قال الرسول ، أو ليست هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراةَ والإنجيل ولا ينتفعونَ مما فيهما بشيء » .

( هذا الحديث من مسند أحمد وصححه ابن كثير في تفسيره للآيات 59 - 66 من سورة المائدة ) .

في هذا الحوار الذي دار بين النبي (ص) وصاحبه ، نرى حواراً موضوعياً وعلمياً بكل معنى الكلمة ، هنا لا يتحدث النبي محمد عن غيبٍ ، وغنما يتحدث عن واقع معاشٍ ، وحين يحتج صاحبه : إن العلم لن يفقد مع وجود النصوص ، لا يحاول النبي هنا أن يتكلم على أساس أن هذا من الله ، أو من النبي الذي يُقبلُ منه قوله من غير برهانٍ موضوعي ، وإنما يرده إلى مجتمع مشاهدٍ يعيش معهم فقد الاستفادة من النصوص ولم تغنِ عنه شيئاً حين أهمل النظر إلى الواقع ، وأكثر من ذلك أنه يعرض الموضوع كقانون وسنة اجتماعية في المجتمعات التي تفقد التعامل مع الوقائع الموضوعية ، وتتمسك بالنصوص وكلماتها ودلالاتها من غير التفات إلى موضوعاتها . فالكلمات تقبل أن تحمل أو لا تحمل ، فكلمة السماء والأرض بقيتا كما هي في كل لغات العالم ، مع أن معانيهما وما يخطر في بال الناس عنهما تغيرت ، وسأحاول إيضاح الموضوع ببعض الأمثلة ، كيف أن المجتمعات تتلاعب بالنصوص ، بل وعندها القدرة على حذف بعض النصوص من التداول ، أو أن يكون لها أي معنى ، وتخلق نصوصاً جديدة أو تعيد المعنى القديم أو تُحدثُ معنّى جديداً للنصوص القديمة ، لأن المشكلة ليست مشكلة نصوص ، وإنما مشكلة فهم وتفسير وتعامل مع ظواهر الوجود ، من فلك وحياة وإنسان ومجتمع وتاريخ . فالنصوص التي عَبّرت عن هذه الظواهر ليست هي الوقائع ذاتها ، فالنص ، والكلمات ، والحروف من مخلوقات الجهاز العصبي ، هي رموز لتداول المعلومات كما خلقت المجتمعاتُ ( العِملةَ ) وهي لا معنى لها ، ونحن باتفاقنا نعطي لها قيمة لتداول السلع ، وكذلك حين نكتب عليها ( في الله ثقتنا ) ولكن لا تزال ثقتنا في العضلات وليست في الجهاز العصبي ، وفي الذهب وليست في الله .

« يا مراؤون حسناً تنبأ عنكم أشعياء قائلاً : يقترب إلي هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً » متى ( 15 : 7 ) .

كأن هذا الجهاز العصبي لا ينادي :

« ألعل الحكمة لا تنادي ، والفهم ألا يعطي صوته : أنا الحكمة أسكن الذكاء وأجد معرفة التدابير … ثمري خير من الذهب ومن الإبريز وغلتي خير من الفضة المختارة ، في طريق العدل أتمشى » أمثال ( 8 : 12 - 19 ) .

« طوبى للأمم الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم لأن تجارتها خير من الفضة وربحها خير من الذهب الخالص … وكل جواهرك لا تساويها .. وكل مسالكها سلام ، الرب بالحكمة أسس الأرض ، أثبت السموات بالفهم ، يا بني لا تبرح هذه من عينك … فيكونا حياة لنفسك ونعمة لعنقك … إذا اضطجعت فلا تخاف بل تضطجع ويلذ نومك » أمثال ( 3 : 21 - 24 ) .

فإذا نحن فرقنا بين الصور التي داخل جماجمنا وبين الوقائع الخارجية ، وفهمنا نوع العلاقة بينهما ، وعرفنا الميزان الذي تزن به صحة ما في أذهاننا ، نكون اقتربنا من حل المشكلة الإنسانية . وإذا تمكنا من تلقين الأجهزة العصبية البشرية ، بموازين أو مراجع أكثر موثوقية وأقرب إلى الموضوعية ، نكون وضعنا الإنسان على طريق لا نقول الحق - بسبب المعنى الجامد .. الذي اتصفت به كلمة الحق - ولكن نقول : الأنفع لمدة أطول .

إذن لابد للبشرية من أن تعزل النصوص عن السيادة ، لتتحول السيادة إلى الوقائع التي قوانينها خارج أذهان البشر ، ومراجعتها دائماً بالعودة إلى الموضوعات وعواقبها ، فإذا فهمنا النص على هذا الأساس ، وهو أن النصوص حاملة المعنى وليست المعنى ، عند ذلك يمكن فهم معنى الإيمان بأن الكون ليس باطلاً ، بل سيرى الإنسان الكون إبداعا مكافئاً لاستثارة حب الاستطلاع والتسخير عند الإنسان ، إن مشكلة العالم الإنساني هي في معاناة التكيف مع التاريخ الذي يسبق الإنسان ويتخلف عنه الإنسان . وهذا راجع إلى أن سير المعرفة تلقائية وليس مسيطراً عليها . والمعرفة في طريقها إلى ممارسة هذا التدخل ، إن الأنبياء عرفوا كيف يستفيدون من طبيعة الجهاز العصبي الإنساني في فهم معنى الوجود بينما المثقف - وريث الأنبياء - لم يتكيف بعد ، فقد ضيع المثقف معنى المقدس والخير في الوجود ، علينا أن نتنافس في ابتكار الأسلوب الأبسط والاقتصادي لنقل الذين عندهم قدرة على تأمل الموضوعات إلى حالة الوعي ، حتى نصنع الخميرة البشرية التي ستجدد النموذج الإرشادي ، على الطريقة التي يعرض بها ( توماس كوهن ) في بحثه للعلاقة ببين النماذج الإرشادية ، في كتابه ( بنية الثورات العلمية ) .

فمشكلة الأمم المتحدة مع العالم المتفرقة في الغرب والشرق : مستويات في التكيف مع العالم الجديد الذي تطورت إمكاناته ، وتخلقت قدرته على التكيف مع العالم الذي يتسارع في تقديم وسائل تقنياته ، ولا يتمكن من متابعة التطور . فالأمم المتحدة تعاني قصور التكيف مع العالم ، أما الدستور الأمريكي فهو للتعامل الداخلي ، وغن كان لهذا الدستور مشاكله الخاصة فهو غير الأمم المتحدة .

كذلك العالم الإسلامي يعاني مشكلة التكيف مع هذا العالم المتطور ، فلا يتمكن من الاهتداء إلى أسلوب التعامل معه ، فيلعب لعبة فات أوانها حيث الجميع يلعبون لعبة عدم التكيف مع العالم ، حتى في مستوى التسلح ، فقد فات جدوى حل المشكلات بالتسلح في العالم فيلعبون لعبة كتم المعلومات ، أو يستغلون عدم وصول المعلومات حين يبيعون وحين يشترون سلعة فقدت مفعولها ونفعها . لا يوجد وعي في العالم ولا من يريد أن ينشر الوعي ، بل من يستغل فقدان الوعي .

كما نحن نعجز عن دراسة النصوص ، لأننا نجهل التعامل مع موضوعات النصوص ، ولا تزال السيادة للنصوص بدل الوقائع . كذلك نقع فغي الوهم في تفسير الموضوعات والأحداث بنفس الخطأ في النصوص : فمثلاً ظاهرة اليابان والاتحاد السوفيتي وعوامل الاتحاد الأوربي ، فصعود اليابان وتمزق الاتحاد السوفيتي وعوامل الاتحاد الأوربي وبروز جزر في جنوب شرق آسيا ، يختلف الناس في إيجاد أسماء لها ، كل ذلك يدل على أن الذكاء الإنساني أو الجهاز العصبي هو الذي له السيادة ، لا العضلات ولا السكاكين ولا القنابل . هذا واقع غير مرئي ومن الذي ستمكن من جعله مرئياً لكل الناس ؟ أمّا ظَنُّ أنَّ عضلات أمريكيا تمكنها من السيطرة على العالم فخداع ، تقبله أمريكا وكأنها تحرص على استمرار هذا الوهم ، ولا تشعر أن هذا أمر مخجل .

في الإنجيل يصف عيسى عليه السلام بأن الباب ضيق والطريق مكرب :

« ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون الذين يجدونه » متى ( 7 : 14 ) .

ولكن القرآن يذكر موقف موسى من السامري :

( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداًَ لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) ] طه : 20/88 [ .

قال له موسى : ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ، قَالَ : فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً .. ) ] طه : 20/95-97 [ .

إن المثقف الذي أوكِلَ إليه دورُ النبي لم يقم بعد بدوره ، وبم يتمكن وعي جهازه العصبي بالتاريخ أن ينطق بكلمات موسى . انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً .

(محمد إقبال ) ألف ديواناً بعنوان ( ضَرْبُ الكَليم ) وإعلان الحرب على العصر الحاضر . إنه كان يهجس بمشاكل العصر ويحلم بالمثقف الذي يقوم بدور موسى ، ليس بالتجديف على الأنبياء ولكن بتحليل العصر الحاضر ليزلزل مسلماته ويعريه من تمويهاته المقنعة .

زارتني فتاة متخرجة من مؤسسة ثقافية عالية ، تريد أن تعرف فيما إذا كان السحر موجوداً ، حيث تظن أن حماتها سحرتها ، فقلت لها : نعم إن السحر حقيقة موجودة وعالمية ، ومثقفو العالم هم الذين يقومون بهذا السحر حين يتركون الناس في سحر القوة العنيفة ، ولا يكشفون أن هذه القوات العنيفة ، من حبال وعصي ، قدت مفعولها مهما خيل للناس أنها تسعى ، والقرآن يصف سحرة فرعون بأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم ، ليسحروا بها الناس .

( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) ] طه : 20/66 [ .

وفي مكان آخر يصف القرآن هذا المشهد ويقول :

( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) ] الأعراف : 7/116 [ .

ذكرت قبل قليل أن النبي محمداً (ص) قال : إن الناس إذا فقدوا العلم لا ينتفعون مما في الكتب بشيء ، إن القرآن يرفع من معنى الأمي بأنه ليس الذي لا يعلم القرآن ، ولكن الذي يقف عند حروف الكلمات :

( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلأَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلأَّ يَظُنُّونَ ) ] البقرة : 2/78 [ .

وكان القرآن والنبي محمداً (ص) يعلمان الناس ، انه لا يجوز استخدام العنف لصنع مجتمع المساواة ، ومجتمع كلمة السواء ، وأن مجتمع كلمة السواء لا يجوز له أن يستخدم العنف ، إلا مع الذين يقتلون الناس ويهجرونهم من ديارهم من أجل عقائدهم ، عن لم يمكن منعهم بغير قتال .

وكل عنف يحدث خارج هذه الشروط فهو شريعة غاب ، الحق فيه للعضلات وليس للجهاز العصبي ، وأن العنف بغير هذه الشروط يحول الحياة كلها إلى عبادة الطاغوت ، وهو خروج من عبادة الله التي هي مهمة كل الأنبياء :

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ] النحل : 16/36 [ .

( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) ] البقرة : 2/257 [ .

وهناك كلمات من النبي محمد (ص) وفق هذه الشروط ، من أنه يقدس السلاح مرة إلى درجة أنه يقول : « إن الله لَيُدخِلُ ثلاثةَ نفرٍ الجنةَ بالسهمِ الواحدِ ، صانِعهُ وحامِلَهُ والرامي به » . وذلك حين تتوفر الشروط ، وفي مقابل ذلك حديث يأمر بنزع وإتلاف السلاح من طرف واحد ويأمر بالتخلص منه ، ويقول أيضاً : وإذا حدث قتال خارج هذه الشروط لا تشارك فيه - وهو قتال الفتنة والبغي في مصطلحات الفقه - ويقول عند ذلك : اِكسر قوسك واقطع وتره واضرب سيفك بالحجارة واكسره وإن أمكنك أن تفر إلى الجبال أو الصحارى مع إبلك وغنمك أو زراعتك فافعل ، فقال له صاحبه : يا رسول الله إن لم يكن عنده ما يلجأ إليه ؟ قال يلزم بيته ويغلق على نفسه بابه ، فقال له صاحبه : يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ، فقال له رسول الله (ص) كن كابن آدم الذي قال لأخيه : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين . وقال الرسول : وإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبؤ بإثمك وإثمه .