الجانب المهم هو التغيير الذي يقوم به القوم
من Jawdat Said
والأمر الذي يجب أن نوليه اهتمامنا هو واجب التغيير الذي يخصنا ، كقوم وكمجتمع .
هذا التغيير الذي ينبغي أن نقوم به ، يتعلق بما بالأنفس . وهنا نواجه وجهاً لوجه ، مشكلة الإنسان بكل ثقله وبكل تبعاته ، نواجه مشكلة مستقبله وتاريخه ، مشكلة تخلفه ورقيه . فلقد منح الله الإنسان القدرة على أن يغير ما بنفسه وينتقل من حالة إلى حالة أخرى .
محتويات
انتقال الإنسان إلى الأفضل هو الأمانة
والانتقال من الحالة الدنيا إلى الحالة العليا ، هو المقصد من الأمانة التي جاء ذكرها بقوله تعالى :
« إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً » الأحزاب - 72 - .
ظلموماً إن فهم هذا ولم يعمل به . وجهولا إن ظل قانعا بجهله دون أن يتعلم وهو يستطيع أن يتعلم لو أراد . وعلينا أن ننظر إلى المجتمع على أنه كائن له كيانه الخاص به ، له ذكاؤه وله اجتهاده ، لأن مصيره ومستقبله كمجتمع في هذه الحياة ، متعلق بمقدار تهيئة نفسه للقيام بهذه المهمة ، مهمة تغيير ما بالأنفس . من هنا يتبين لنا أن الجهد المجدي للبشر ، في محاولتهم تغيير المجتمع من الشر إلى الخير أو بالعكس ، منطلقهُ الأنفس .
القرآن اهتم بموضوع التعامل مع النفس ولم يهتم بكشف حقيقتها
ولكن ما هذه الأنفس ؟
إن القرآن الكريم لم يهتم بكشف الحقيقة عن كنه النفس ، لأنه على ما يظهر ليس محل جدوى ، إنما اهتم بموضوع التعامل مع الأنفس لتغيير ما بها .
وهنا يرد التساؤل : هل بالنفس شيء ابتداءً ؟ أم يوضع فيها كل شيء ؟ وكيف يرفع ما بها ؟ وكيف يستبدل بغيره ؟ وما مقدار الصعوبات التي تقابل الإنسان في هذا المجال ؟
إن الله تعالى يقول عن الإنسان إنه يستطيع أن يزكي النفس وأن يدسيها :
« قَدْ اَفلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَد خَابَ مَنْ دَسَّاهَا » الشمس – 10 - .
فما هي مبادئ تَزكيةِ النفسِ التي تَجلبَ الفَلاحَ ؟ وما عوامل تدسية النفس التي تجلب الخيبة ؟
على حسب ما يظهر ليس في النفس ابتداء ، إلا القابلية للفجور والتقوى ، وهذا هو الخلق العجيب الصنع ، الذي أبدعه الله تعالى على هذا الاستعداد العظيم من القابلية للفجور والتقوى . يقول الله تعالى في هذا :
« وَنفسٍ وَمَا سَوَّاها فَألهمَهَا فُجُورها وَتَقْواهَا » الشمس - 8 - .
إن الله خلق النفس وسواها تسوية عجيبة فألهمها فجورها وتقواها ، هذه التسوية وهذا الإلهام من عمل الله تعالى ، ثم قال :
« قَدْ أَفلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا » .
هذا العمل عمل الإنسان ، إن الله نسب التزكية والتدسية للعبد ، ونسب التسوية والإلهام للفجور والتقوى له سبحانه . وما نُسب إلى العبد كذلك ، إنما باقدار منه تعالى بمنه وكرمه .
وقوله تعالى :
« حَتَّى يُغَيِّروُا مَا بِأَنفُسِهِم » .
يفيد أنه يمكن أن توضع في النفس الأفكار ابتداء ، كما يمكن أن يرفع ما فيها من مفاهيم ويوضع فيها أخرى ، وهذا أهم ، في عملية التغيير ، من إنشاء الأمر ابتداء ، ومع ذلك أسند الله للبشر هذه القدرة في إزالة المفاهيم واستبدال غيرها بها .
وجدير بنا أن نعمل الفكر والنظر في هذه المهمة المنسوبة للبشر وعلينا أن نبصر ونتبصر ، والله تعالى يقول لنا :
« وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ » الذاريات – 21 .
وكيف لا نولي هذا الموضوع اهتمامنا . وهو مشكلة المسلمين ، بل ومشكلة البشر عامة ، لأن الأمر ليس بناء النفس الآن ابتداء لأنها لم تعد على الفطرة ، بل هي في حاجة إلى هدم ثم بناء في آن واحد ، فإن مواريث القرون الماضية قد غمرت النفوس بكثير من الآصار والأغلال ، فلا بد من إزالتها ، وأن يحل محلها غيرها . كما لابد من إعادة الصفاء والوضوح للنفس حيث تراكم عليها الصدأ والرين :
« كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » المطففون – 14 - .
فلم تعد تقدر على أداء مهمتها ، بل هي تقوم بمهمة العطالة .
إن النفس في أصلها سليمة ليس فيها إلا الاستعداد ، مسواة وملهمة فجورها وتقواها ، إلا أن بعض الأفكار تطرأ على الأنفس في وقت مبكر جداً ، في عهد الطفولة الأولى ، فتنزل إلى أعماق النفس لتقوم بدورها في صياغة سلوك الإنسان . وفي هذا الصدد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه » والعقائد المذكورة في الحديث والأبوان ليست للحصر ، إنما الأمر يشمل كل عقيدة ، وكل وسيلة ومؤثر ، لإعطاء عقيدة أو فكرة .
معنى الفطرة
ومعنى الولادة على الفطرة، هو المعنى الموجود في قوله تعالى: « ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها » : الشمس 7-10 . وليس معناه أنه يولد مسلماً ، فهو يولد مسلماً بالاستعداد ، أما تحويله إلى مسلم بالفعل ، إنما يكون بعملية تزكية النفس ، لام الإنسان الوليد لو ترك وشأنه منعزلاً لما صار مسلماً ، بل جعله مسلماً أيضاً في حاجة إلى عمل البيئة والأبوين ومن يقوم مقامهما كما هو مشاهد .
ومعنى الفطرة بشكل أدق ، هو استعداد للميل إلى الحق ، وهذا الاستعداد يجعله يختار الحق ، حين تترك له حرية الاختيار ، على ألا يلحق هذا الاستعداد تشويه .
فإذا عُرض أمران على شخص خالي الذهن ليس عنده هوى سابق ، فانه يميل بفطرته إلى الحق ، فلو عرض السلام وغيره من العقائد ، على إنسان خالي الذهن ليس عنده مواريث سابقة ، فإنه يختار الإسلام ، كما هو مشاهد في مجالات التبشير وحوادث التحولات إلى الإسلام .
ولكن معنى خلو الذهن من المؤثرات أمر دقيق . وهذا دليل على أن النفس التي تأثرت بالمؤثرات السابقة لم تعد على الفطرة ، وفي هذا المعنى حديث مسلم : « إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم » .
ولابن تيمية بحث عن الفطرة قال :(1) « والعلوم الفطرية الضرورية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها . وقد يعرض للفطرة ما يفسدها ويمرضها فيرى الحق باطلاً » . وقال أيضاً « والناس إذا تنازعوا في المعقول ، لم يكن قولُ طائفةٍ منها ، مذهبٌ حُجَّةً على الأخرى ، بل يُرْجَعُ في ذلك إلى الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوى »(1) .
وقال في مكان آخر « والله خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها وبعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه . فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشرعة المنَّزلة . وهؤلاء الفلاسفة بدَّلوا وغيروا فطرة الله وشرعته ، خلقهُ وأمرهُ »(2) .
وفي الأساس للزمخشري .. « فطر الله الخلق وهو فاطر السموات مبتدعها – وكل مولود يولد على الفطرة – أي على الجبلة القابلة لدين الحق » .