وعلمتني من تأويل الأحاديث

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

أتمنى أن نتعلم تأويل الأحداث التي أمامنا، والتأويل هو فهم الحدث، أي ربط الحدث بسببه الحقيقي، لأن الحدث نتيجة لما قبله، وسبب لما بعده.

إني أريد أن يتمكن العربي والمسلم من تأويل الأحداث وفهم ما فيها من سنن واعتبار، وكشف هذه السنن والاستعانة بها على حل مشكلاتهم ونزاعاتهم وتدابرهم وتخاصمهم. أتمنى أن نتمكن من فهم هذه السنن بشكل واضح مبين بحيث نتمكن من إيصال فهم وتأويل الأحداث الكثيرة التي تحدث أمامنا وتحت أسماعنا وأبصارنا وأمام أعيننا.

ويكون التأويل بمعنى ما ستؤول إليه الأمور أي بفهم العاقبة والمصير وبفهم السنة. وفهم السنة يخرج من الجهل إلى العلم ومن الظن إلى اليقين والسنة ثابتة لا تتغير، "ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً". ويقصد الله سنة التاريخ وسنة المجتمعات البشرية لما يقول: "سنة الله في الذين خلوا من قبل". عندما يفهم الناس سنن المجتمعات وقوانينها وأن الله خلق الإنسان وصنعه على قدرة معينة سيتأملون الأسباب والنتائج ويتمكنون من تسخير سنن المادة والحياة وقدرات الإنسان وإمكاناته. وبهذه القدرات صار الكون كله قابلا للتسخير. وطاقات الكون كلها قابلة للتسخير ولكن الإنسان هو أعظم الطاقات التي خلقها الله، حيث طاقات الكون كلها مسخرة له.

نحن نرى بأعيننا في هذا العصر كيف أن باب التسخير انفتح بشكل لم يسبق له مثيل فيما سبق من التاريخ، لا أن الباب انفتح فقط بل تدفقت إمكانات التسخير. وإن لم يتسخر للإنسان الكون فلا يلومن إلا نفسه. نحن نرى هذه الأمور، ولكن لا نحسن تأويلها ولا نعرف مصيرها، والأمر ملتبس وضبابي ولا بد من الوصول إلى وضوح بحيث لا يستطيع أحد أن يضحك علينا ويشككنا ويصرفنا عن الصواب إلى الضلال ويغمم علينا تأويل الحركة الاجتماعية. إن الذين يقودون العالم ويهيمنون عليه يمثلون جزءا صغيرا مترفا ومستكبرا منه. فنحن نعيش في عالم يستهلك 20% من سكانه أكثر من 80% من دخل العالم، و20% من سكانه لا ينالهم إلا 1%. ومواجهة هذا الوضع لا يكون بالحرب وإنما بالعلم، ليس المهم أن نطردهم من بلدنا، لقد طردناهم بالحرب من الجزائر وطردنا الأمم المتحدة والولايات المتحدة من الصومال وطردناهم من حصار بيروت.

هناك حقيقة كبيرة: الشعوب تستطيع أن تحرر نفسها من الاستعمار بالقوة المادية ويمكنهم أن يكتشفوا الوسائل المتاحة لذلك، وقد طردت شعوب لبنان والصومال المستعمر من دون أن تكون لها حكومات وجيوش وأسلحة متطورة.

ولكن هذه الشعوب لم يكن لديها العلم في كيفية صنع مجتمع لا أرباب فيه أي مجتمع عادل بدون مستكبرين ومترفين. طردوا العدو الخارجي وأصبحوا رهائن لمستكبري بلادهم. المشكلة أن العالم جميعاً على مذهب واحد، على مجتمع واحد، مجتمع الاستكبار والاستضعاف، لأن المستكبر فيه يخاف أن يصير مستضعفاً والمستضعف فيه يتمنى أن يصير مستكبراً.

فهما نموذج واحد لا يتغير شيء عندما يتبادلان المواقف. ولهذا أكرر كثيراً أنه ليس هناك من ينتقد حق الفيتو بإيمان وجدية. وليس عند الشعوب وعي واضح في إمكان صنع مجتمع ليس فيه حق الفيتو، لهذا لا يوجد من ينكر حق الفيتو كما لا يوجد بالأولى من يتنازل عن حق الفيتو. وامتلاك هذا الحق لم يعد له قيمة كما هو الحال في فرنسا وبريطانيا وقد لحقت بهم روسيا والصين أيضاً. ولكن يتمنى البعض في أن يصير للمستضعفين حق الفيتو، ومن هنا أقول إن ما جاء به الأنبياء لم ينزل بعد إلى الأرض كفكرة واضحة واعية شفافة. إن الناس لا يستطيعون فهم "تعالوا إلى كلمة سواء…أن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً". ولا يفهمون "ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكن عنه" ولا يفهمون أيضاً "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم…أفلا تعقلون" وأيضاً "لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".

بل ويظن البعض أن الأنبياء قالوا ما لم يفعلوا لأنه لم يكن عندهم سلطة وقوة –حسب الذين لم يفهموا ولم يتذوقوا دعوة النبوات- كانوا سلميين عند الضعف ولما صار لهم قوة تحولوا إلى جبابرة. هكذا يقيّم كتّاب كبار الموضوع. ولكن هكذا فهم أتباع الأنبياء أيضاً الموضوع، حيث تحولوا في وقت مبكر جداً إلى مستكبرين وضاع الرشد منهم ولم يعرفوا كيف يعيدون الرشد بالرشد، وظنوا أنه يمكن إعادة الرشد بالغي. وظن من ظن أن وضع الرسول وصنعه للرشد بدون أن يلجأ إلى الغي والبطش كان معجزة وإكراماً للنبي. ولم يفهموا أنه سنة وقانون.

إن لم يكن البشر قادرين على كشف سنة الأنبياء واتباع سبيلهم فإن الأنبياء ليسوا قدوة. وما جاء به الأنبياء وإن كان لا يزال غير واضح بعد فإن التاريخ وما ينتج عن مجتمع الاستكبار والاستضعاف من فساد وعذاب ودمار سيرغم الناس على اكتشاف ما جاء به الأنبياء من مجتمع السواء، الذين تتكافؤ دماؤهم. فمجتمع الأنبياء يعيش فيه كل الذين يقبلون العدل والسلم ويتركون القتل والتهجير. ومجتمع الأنبياء لا يحاسب الناس عند الاختلاف في الفهم على فهمهم ولكن يحاسب الناس على القتل والتهجير لمخالفيهم.

سيكشف البشر في المستقبل ما جاء به الأنبياء رغماً عنهم بعد أن يذوقوا العذاب الأليم وسوف يدركوا معنى قوله تعالى "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون". وأول ظاهرة في التاريخ البشري على كلمة السواء هي ظاهرة الاتحاد الأوربي.

إنهم يتَّحِدون على كلمة السواء وليس على أساس الاستكبار والاستضعاف. وحتى لو كان السواء فيما بينهم فإن هذا تقدم في التاريخ، أي في آيات الأنفس. هذه ظاهرة جديدة قد لا نستطيع فهمها، وقد يحملنا بغضنا لهم وعلاقاتنا القديمة والتنافس الكبير بيننا وبينهم أن نبخس قيمة ما يعملون ونحقر ما يعملون، ولكنني أتمنى من كل أعماق قلبي أن يتمكن العرب والمسلمون أن يعملوا مثل ما يعمل الناس في أوربا من اتحاد دون إكراه وعلى كلمة السواء، على الأقل لن تذهب أموالنا ومصالحنا سدىً.

كثير من المسلمين لا قدرة لهم على تأويل الوحدة الأوربية، يعيبونه ويقولون أنهم يتحدون على المصالح. فهل الاتحاد على المصالح عيب؟ يا ليت العرب والمسلمين يتحدون على مصالحهم وعلى كلمة السواء فيخرجون من الذلة والصغار الذي يعيشون فيه.

يقص الله علينا في سور القرآن أخبار القرون الماضية وخاصة في سورة الشعراء ويذكر مآل الأمم التي كذّبت الأنبياء وكذّبت المساواة والعدل بين الناس حيث وظيفة الأنبياء والرسل والآمرين بالقسط من الناس هو شيء واحد يقول الله: "ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" والله يقول في نهاية كل قصة في سورة الشعراء، "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم". وإني لأقول إن في اليابان آية في أنهم صاروا قوة من نوع فريد في مقدمة العالم الصناعي. وإن في الاتحاد السوفييتي لعبرة في أنهم كانوا يقولون، من أشد منا قوة، فأتى بنيانيهم من القواعد فخروا وتمزق اتحادهم لأنه كان على أساس الاستكبار.

وإن في الاتحاد الأوربي آية في أنهم يتحدون على كلمة سواء من غير أن يخسر أحد منهم شيئاً ويربح الجميع، وليسوا في حاجة إلى أن يفتحوا جيرانهم بالعسكر والحرب، بل جيرانهم يقولون لهم ضمّونا إليكم. وإن في العالم الإسلامي آية في عجزهم عن فهم وتأويل ما يحدث في العالم. "وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضين".

اللهم علمنا تأويل الأحداث وعلمنا كيف نعلم الناس تأويل الأحداث.