هل بقي من أمر النبوات من شيء يمكن كشفه

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم

هل غادر الربانيون شيئا من أمر النبوات؟ هل بقي شيء على السابقين من أتباع الأنبياء لم يبحثوه من أمر النبوات؟ هل ندّ على المتصوفة والعشاق شيء يمكن كشفه من أمر تراث النبوة ؟ هل يمكن أن نجد في النسخة الأخيرة ما يمكن أن يهدينا إليه مما فقدته البشرية؟ هل توقف الخالق جلّ علاه من أن يخلق شيئاً في خلقه، شيئاً جديداً لم يحلم به السابقون؟ هل الكون لا يزال يخلق ويزاد في خلقه في الزيادة في الخير والأبقى؟

أظن ذلك وإن قعد بالناس خفاء أحداث الخلق المتدفق المتفجر، إنه وعدُ الله أن يرينا آياته في الآفاق والأنفس حتى يتبين لنا أنه الحق. ولكن حب الاستطلاع لن يثور إلا إذا بدت للعيان عملية التغير الاجتماعي واضحةً وضوحاً ساطعاً قوياً، إذ بدون هذا التطلع المثير الخلاق تبقى أعظم رموز التاريخ تأثيرا خرساء لا تحدث أثرا لأن العيون التي تنظر إليها لاترى فيها شيئاً بل ترى فيها الجنون والإنكار ((كذلك ما أتى اللذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به أم هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)) ما هذا القول؟ هل التاريخ مطبق على أن ما جاء به الأنبياء والرسل سحر وجنون؟ ما هذا القول؟ هل في هذا الكلام ما يثير حب الاستطلاع لكشف تأويل الأحداث والأحاديث؟ هل بقي من رمز يمكن تأويله أو لمّا يأت تأويله بعد؟ هل الرسل والأنبياء جاءوا بالسحر والجنون أو جاءوا بما يدعو للاستهزاء؟ هل لا نزال في موقف يدعو إلى الحسرة ؟ هل أحداث التاريخ خرساء لا تدل على تغيير وإبداع؟ هل توقف خلق الكون وترك لعوامل التّحات والتعرية أم لا يزال يخلق ويزاد في خلقه ويرينا - إن كنا قابلين للرؤية - آياته في الأفاق والأنفس، من أن الزيادة في الخلق في تفجر عجيب؟ هل من شيء يدعو للتأمل في الحسرة على العباد من أنهم ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون؟ ما هذا الذي جاء به الأنبياء والرسل مما وصفه بأنه سحر وجنون وسخف يدعو إلى الاستهزاء؟ ما هذا التوحيد الذي جاء به الأنبياء؟ ما معنى ((الله أحد))، هل بقي من قول لم يقل فيه بعد يمكن أن يبعث الحياة في الموات وينفخ الروح؟ هل يمكن أن نكشف النار من جديد؟ هل يمكن أن نمسك بالصاعقة لتكون الخادم الأمي ((وكأي من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)).

هل البشرية في مرحلة الطفولة التي لا تعرف فيها كيف تنظف نفسها أو يمكن أن تبلغ رشدها وتؤتى الحكمة ؟ هل لنا في أن نتساءل أم انتهى عهد التساؤل؟ هل قمع فينا حب الاستطلاع إلى هذه الدرجة؟ هل كفت الأرحام من أن تقدم مخلوقات مبدعة مبتكرة مبتدعة تلح في السؤال إلى درجة الملل والإملال، كل طفل يمر بهذه المرحلة المبدعة في حب الاستطلاع فحين يفتح عينه على هذا العالم الذي يحتاج إلى تفسير، يبدأ في السؤال والتساؤل عن كل شيء إلى أن نتمكن من قمعه بحيث لا يعود يسأل عن شيء.

هل يمكن أن نتأمل هذه المرحلة في الأطفال؟ هل يمكن في ذلك الوقت أن نقدم لهم معرفة تساعدهم على أخذ فكرة عن الإنسان والكون وأن هذا الكون ليس عبثا وأن هذا الإنسان ليس باطلا إن هذا العجز الذي نمارسه أو هذه الفرصة التي لا نغتنمها هو الذي يولد السخط والنحر والانتحار ولكن هل فاقد الشيء يمكن أن يمنحه للآخرين ؟ ((إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون)) إنه قد أغلق الباب بإحكام على إبقاء حب الاستطلاع واضحا وضوحا ساطعا وقويا. إن محاولة الأنبياء فك رموز هذا الكون والإنسان هو الذي جعلهم ينظرون إليهم على أنهم سحرة ومجانين وجدير أن يستهزأ بهم وجاءوا بشيء عجيب من الجنون ((أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب)) ((ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة)) ((إن هذا إلا اختلاق)) ((كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون)) ((يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون)).

في النسخة الأخيرة من كتاب النبوات تلخيصات عجيبة في وحدة النبوات وأن ملة الأنبياء واحدة وأن الأمم التي واجهت الأنبياء ملة واحدة أخرى مواجهة ((كان الناس أمة واحدة (= ملة واحدة) فبعث الله النبيين)) والتاريخ يقول لنا: كان الناس أمة واحدة ولا يزالون وهذه الأمة الواحدة والملة الواحدة هي ملة المستكبرين والمستضعفين ، مستكبرون يخافون من أن يفقدوا استكبارهم ومستضعفون يتمنون بتلمظ أن يحين لهم وقت يكونون فيه مستكبرين (تبادل المواقف في ملة واحدة) فبعث الله النبيين للخروج من هذه الملة إلى وضع لا يكون فيه استكبار ولا استضعاف، إن الكرة في ملعب المستضعفين وليست في ملعب المستكبرين. كيف نكشف نون الأنبياء؟ يقول مرسلُ الأنبياء السحرة المجانين المُستهزأ بهم لآخر رسله أن يقول لنا ويبلغنا ويعظنا بشيء واحد:

((قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة )) إنهم مكتشفو الطاقة المودعة في الإنسان الذي إن كشف نفسه لا يمكن أن يستهومه بجعله هائما على وجهه أو يوقعه في الوهم بل يبقى حاملا ولاءه لمبدعه الذي سخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه.

إن ميشيل فوكو له بحوث في العقل والجنون يقول في كتابه (نظام الخطاب): لقد كان الأحمق ابتداء من القرون الوسطى هو ذلك الذي لا يتداول خطابه كما يتداول خطاب الآخرين فقد يعتبر حديثه فارغاً ولا قيمة له حديثاً لا يمتلك أية حقيقة ولا أية أهمية، حديثاً لا يمكن أن يكون محط ثقة من طرف العدالة، ولا يمكن أن يؤخذ كشاهد على صدق عقد أو ميثاق – ويقول في سخرية لاذعة – ولا يمكن حتى أن يسمح له بممارسة القربان في القداس وأن يجعل من الخبز جسدا وقد يحدث أيضا في مقابل ذلك أن تنسب له قدرات غريبة بالتعارض مع كل الباقي، أي القدرة على الجهر بحقيقة مخفية والقدرة على التعبير عن المستقبل وعلى الرؤية الساذجة كما لا يمكن أن تدركه حكمة الآخرين. ومن الغريب أن نلاحظ أن كلام الأحمق قد ظل لعدة قرون في أوروبا كلاما لا يسمع وفيما إذا استمع إليه فإن يستمع ككلام يعبر عن الحقيقة وإما أنه يسقط في العدم ويرفض حالما يتلفظ به وإما أن يكشف فيه عن عقل ساذج أو ذي دهاء عن عقل أكثر معقولية من عقل العقلاء'.

إن العالم الغربي الآن يعتبر النبوات من كلام الحمقى لهذا لا يجرؤن بجدية أن يتناولوا الحديث عن النبوات والأنبياء والأديان فينزهون أنفسهم مثل ميشيل فوكو من أن يذكروا أو يدخلوا في هذا العالم الذي اختلط فيه الجنون بكلمة الله وعمل الجنون الأعظم كما في كتاب مسيرة فلسفية.

لقد كان تعرفي على محمد إقبال لحظة أرخميدسية أو زرادشتية فهو الذي يقول :

ومزقت الجيوب وأنت خالي جنوني لا ألومك في قصور

يعني إني أمزق جيوبي وأنت غافل ، والسبب في ذلك أن جنوني لم يبلغ الكمال حتى أتمكن من أن أنقل العدوى إليك . ويقول إقبال عن جلال الدين الرومي:

صيّر الرومي طيني جوهراً من غباري شاد كوناً آخرا

والرومي يقول في مثل هذه الحالة التي نحاول مقاربتها في أن نكشف شيئاً في النبوات لا يزال قصيا عن تناول العقول -

يقول الرومي :

رأيت الشيخ بالمصباح يسعى لـه في كل ناحيـة مجـال

يقـول مللت أنعامـاً وبهما وإنسان أريد فهـل ينـال

فقالـوا قد بحثنـا ذا محـال قـال ومنيتي هـذا المحـال

وأنا أقول ومنيتي أن أقول شيئاً عن النبوات بشكل مختلف لم يفت أوانه بل ولتعلمن نبأه بعد حين..