مواجهات سلمية في وجه الطاغوت
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
أكتب هذه المقالة بعد سماعي أن رئيس يوغوسلافيا غادر مع أسرته إلى موسكو. أطاح المجتمع اليوغسلافي بالدكتاتور، سلوبودان ميلوزوفيتش، بثورة سلمية بعد أن حاول تغيير نتائج الانتخابات لصالحه. ونادى رئيس المعارضة بالعصيان المدني، وأضرب عمال المناجم ولحق بهم الآخرون، وأقفلت الحوانيت وعلق بعضهم على أبوابها "مقفل بسبب السرقة"، يقصدون سرقة أصواتهم في الانتخابات.
أريد أن أقارن بين شارع بلغراد وشارع إيران وشارع الجزائر لنكشف قانون الفلك الذي حرك هذه الشوارع. نحن ننظر إلى هذه الأحداث وكأنه لا تنظمها قوانين، كأن الظلام يحيط بها، وكأن نهارها ليل دامس. لا قدرة لنا على فهم سنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل. إن سنة الله في الليل والنهار قانون ثابت كذلك قانون وعي الناس وتغيير ما بأنفسهم ثابت. لما أدندن حول بلال كنموذج وحول أبو ذر الغفاري وعلي بن أبي طالب فإن هدفي هو كشف القوانين التي تجعل نظام المجتمع يخضع لقانون كما الفلك يخضع لقانون.
حين نمرر المغناطيس على برادة الحديد تنتظم هذه البرادات بشكل منتظم دقيق كما تتجه إبرة المغناطيس إلى الشمال. ومثل وضوح قانون المغناطيس فإني أحس أن مفاهيم النبوات واضحة المعالم أيضا تضيؤها آيات الأفاق والأنفس.
وأنا أزعم أني أرى وأسمع الأحداث بالقانون الذي جاء به الأنبياء. إن احتجاجات المعارضة اليوغوسلافية على تزوير الانتخابات يمكن فهمها على أساس قانون الأنبياء، وعلى أساس كلمة السواء وكلمة الله وكلمة التقوى وكلمة أن لايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً. إن قانون المجتمعات أو قانون الأقوام مثل قانون الفلك.
كم خدع سير الفلك الناس والتبست عليهم حركة الشمس. إن قانون الفلك لم يتغير، والشمس لم تكن تدور حولنا كما انكشف للناس. لما أقول إن قانون الفلك مثل قانون المجتمعات فإني أعتمد على قانون "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ليس الفلك الذي يغير نظامه وإنما ما بنفس البشر هو الذي يتغير.
لم أكن أفهم الحوار الإبراهيمي مع النمرود ولا حوار إبراهيم مع أبيه. فإبراهيم تحدث مع الذي آتاه الله الملك إذ قال ربي الذي يحيي ويميت قال النمرود أنا أحيي وأميت قال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر. عندها فهمت أنه كما أن قانون الله واحد في حركة الفلك، في الشمس والأرض، كذلك قانون المجتمع واحد سواء إعترفنا أم لم نعترف. يا أيها الإنسان إن كنت لاتعترف بقانون الفلك فأتي بالشمس من المغرب وإن كنت لاتعترف بقانون الأقوام غيِّر الواقع البشري من غير أن تغير ما بأنفس البشر من تصورات وإيمان وفكر. إن الالتباس العظيم في فهم الفلك يشبه الالتباس المعاصر في فهم المجتمع. فميلوزوفيتش لم يتنازل عن طيب خاطر، كما أن أمريكا لن تتنازل عن حق الفيتو. وكلينتون أمر بأن ينفض مجلس الأمن ولا يتخذ قرار في شأن انتفاضة القدس، أي (ينبغي أن لا تقرروا شيئاً من دون موافقتي ولاتضطروني لإستعمال حقي في إلغاء الرأي العالمي). إن كلينتون الآن في مكان الكنيسة التي حكمت على برونو وجاليلو بالهرطقة. ميلوزوفيتش لم يغير ما بنفسه حتى تغير الشارع اليوغوسلافي ولن يغير كلينتون حتى يتغير شارع الكرة الأرضية، ويغير الناس ما بأنفسهم ويدركوا بأن حق الفيتو عار على البشرية كلها، كما أن ميلوزوفيش عار على يوغوسلافيا وكما كان الشاه شاه إيران عار على إيران حتى غير الشارع الإيراني ما بنفسه.
في الشهر الأول من عام 1978 م نشر الشاه مقالاً يستخف فيه بعلماء الإسلام بعنوان (إيران والإستعماران الأسود والأحمر) يعني الشيوعية والإسلام. في ذلك اليوم قامت مظاهرات في مدينة قم في إيران قتل فيها 200 شخص وبعد أربعين يوم من ذاك التاريخ قامت مظاهرات في مدن إيران على أثر ذكرى الأربعين لشهداء قم وقتل في تبريز 500 شخص وتصاعدت المظاهرات حتى كان يوم 8-9-1978 في طهران فقتل مايزيد على 4000 شخص وكان ذلك بعد رمضان في ساحة الإجتماع التي سميت بعد ذلك ساحة الشهداء حتى إذا جاء شهر محرم إمتلأت شوارع طهران ومدن آخرى بالجماهير المصممة على الشهادة لأنهم يشهدون للحق لايخافون في أداء الشهادة لومة لائم. وخرج الناس وهم يرتدون الأكفان إستعداداً للموت في سبيل الشهادة للحق بالحق فتقدم الناس رجالاً ونساءً في صفوف متراصة نحو فوهات البنادق الرشاشة الموجهة نحوهم وأدت إلى مذبحة كبيرة. وبعد مرور عام على مظاهرات مدينة قم إضطر الشاه أن يغادر البلاد في منتصف الشهر الأول في عام 1979م كما اضطر ميلوزوفيتش أن يغادر.
إن مثل هذه المواجهات السلمية مع الطغاة تذكر بقصة السحرة الذين تحدوا فرعون فهددهم بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم في جزوع النخل حيث إتخذوا قرار الإيمان بالحق دون إذن فرعون (أمنتم له قبل أن آذن لكم ……قالوا لاضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا إن كنا أول المؤمنين). إن ما حدث قبل أيام في يوغسلافيا من آيات الله في الآفاق والأنفس ومن آيات الله في إنتصار اللاعنف على العنف. عندما نادى رئيس المعارضة اليوغسلافي، كوستونيكا، بالإضراب قال للشعب اليوغسلافي أنه يستطيع أن يعمل ثورة ديمقراطية، متحضرة، حكيمة، لاعنفية. المواجهة السلمية من طرف واحد تقلب الأمور، وتعيد احترام العالم. فدول الناتو (NATO) تعد الآن يوغسلافيا بالمساعدات والدعم وهي التي قصفت العاصمة اليوغسلافية من عامين. واضطرت أمريكا أيضا إلى الاعتذار من الشعب الإيراني بعد عشرين عاما من دعمهم للشاه بعد أن أيقنت أن عليها أن تتعامل مع إرادة الأمة.
وأريد أن أقارن هذه الأحداث مع نموذج الجزائر الجريحة التي دفعت ما يزيد على 100 ألف من الضحايا من الطرفين ولم يلح في الأفق الخروج من المأزق، بينما قتل في إيران خلال عشرين سنة نحو ستين ألف من الشهداء في الحق دون أن يلجأوا إلى مواجهة العنف بالعنف، وأقل من هذا بكثير في يوغسلافيا حتى الآن. إن رصيد المواجهة السليمة في الخروج من عبادة الإستكبار هو تحدي العنف باللاعنف. خروج أحد الطرفين من لعبة العنف المتبادل يهيئ لميلاد الشرعية في الحكم ولن يترسخ الحكم الشرعي إلا بتسليم الأطراف جميعاً في أن لا يلجأوا إلى العنف وإنما إلى إقناع الناس لاإلى إكراههم. إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. إن القانون الفلكي الأول في الحياة الإنسانية هو أن البشر يعطون على الإقناع ما لا يعطون على الإكراه ومن لايفهم هذا لايمكن أن يدخل إلى إستثمار الإنسان.
يا عالم عربي! اعتبروا بأحداث العالم! اعتبروا باليابان التي تحررت بدون حرب تحرير لطرد المستعمر المحتل، وبدون مواجهة مسلحة، وصارت قوة عظمى في العالم تحت سمعنا وبصرنا. وكل الذين من جيلي يذكرون إستسلام اليابان ثم كيف صارت قوة عظمى، ليس بقوة الإكراه وإنما بقوة الفهم والتفاهم. وإن في إتحاد أوربا لعبرة يا عرب! يمكن اختزال التاريخ. أوربا تتحد من غير أن يخسر أحد شيئا ويربح الجميع، ونحن يمكن أن نفعل هذا إذا فهمنا أنه ليس من الضروري أن ندفع قرابين بشرية و خسائر في الأموال. إذا فهمنا إمكانية ذلك وأنه يحدث في الأرض أمام أعيننا تغييرات سلمية، فعندها لن نفرح بالذي سيوحد العرب بالقوة والإكراه والابتلاع كما كان ميلوزوفيتش يريد توحيد منطقة البلقان بالعنف والقرابين البشرية.
إن الحل في الدماغ وليس في العضلات.