من الذي يستحق البر والقسط في المجتمع القرآني

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

في أربعينات هذا القرن حين كنت أدرس وكان قد أوحي إلينا في بيئتنا أننا في آخر الزمان و أن الدين دائما في تراجع وأن كل يوم أسوأ من الذي قبله، خطر لي في ذلك الوقت كيف أننا نجند أنفسنا لخدمة مبدأ مستقبله هكذا! وأدى بي هذا التصور إلى بحث آخر وهو هل هذه الفكرة (فكرة آخر الزمان) موجودة في القرآن يا ترى؟ فقرأت القرآن على هذه النية فلم أجد فيه شيئا من هذا الذي أوحي إلينا من فكرة آخر الزمان وإنما وجدت فيه:{من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} ووجدت {من كان يظن أن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} ووجدت {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} ووجدت فيه {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد أمنهم خوفا} إلى غير ذلك من الآيات مثل {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} و {أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} وتبين لي بعد ذلك أن فكرة آخر الزمان فكرة تظهر في المجتمعات التي تشعر أنها لم يعد في مقدورها إضافة شيء جديد وأنهم قد أنهوا دورهم.

ومن سبيل هذا فكرة "نهاية التاريخ" وربما فكرة آخر الزمان لم تعد تحمل الحجم والثقل الذي كان لها منذ نصف قرن حين كنت فكرت في هذا في ذاك التاريخ، ومنذ ذاك التاريخ صرت أرجع إلى القرآن في قضايا أخرى فخطر لي مرة، أو أن الجو الذي نعيش فيه أوحى لي أن أفكر و أتمنى أن أرى من بَحَثَ في القرآن الذي هو مرجع المسلمين ودستورهم ماذا يعطي هذا الكتاب وماذا يمنع هذا الكتاب لإنسانٍ يعيش بين أهل القرآن سواء كان من المسلمين أو غير المسلمين فلم يحصل لي أن عثرتُ على مواجهة هذا الموضوع بوضوح وتقصد واعٍ فقرأت القرآن على هذه النية، فوجت فيه ما يمكن أن يطالب به أي إنسان في مجتمع القرآن وهو من غير أهل القرآن سواء كان مؤمناً أو ملحداً أو من أي دين آخر فإن من ترك أمرين أو محرمين فإن هذا الكتاب يوجب له البر والقسط، أي الإحسان والعدل وهذان المحرمان في القرآن هما: (قتل الناس وتهجيرهم أو مظاهرة من يفعل ذلك لأجل تصوراتهم)، إن كل إنسان يقبل العدل والسلام، فإن هذا المجتمع الذي يدعو إليه القرآن يحمي ذلك لإنسان من غير أن يسأل عن اعتقاده ودينه لأن هذين الذنبين هما المحرمان على المجتمع القرآني سواء كان آمن بالقرآن أو لم يؤمن، فقد جاء في القرآن في سورة الممتحنة {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم، لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأُولئك هم الظالمون} وفي سورة النساء {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلكم وألقوا إليكم السَلَمَ فما جعل الله عليكم سبيلا، ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما رُدُّوا الى الفتنة أُركِسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السَلَمَ ويَكُفُّوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقِفتموهم وأُولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً} وبعد هذا بثلاث آيات {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناُ تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا}.

هذه النصوص قد تكون واضحة لمن يفهم اتجاه التاريخ وما وصل إليه بعض البشر في حماية عقائد الناس وآرائهم ما لم يلجؤا الى قتل وتهجير من يخالفهم وقتل وتهجير من يخالف في الاعتقاد ويدن الذين كفروا برسالة الرسل والأنبياء، والأنبياء يحرمون الدخول إلى ملة هؤلاء، في القرآن {قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} فكان جواب الرسل {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} ملة الرسل ومجتمع الرسل وأمة الرسل هم الذين يحمون اعتقادات الناس ما لم يلحقوا إلى قتل وتهجير من يخالفهم.

وإذا تكون ملة الأنبياء وأمتهم هذه الأمة عليهم أن يحموا مجتمعهم من القتل والتهجير ويساعدوا الناس الذين يعيشون القتل والتهجير لمخالفيهم إن لم يمكن منعهم من ذلك بغير القتال فهذا هو القتال الجائز أو الواجب على ملة الأنبياء أو هذا هو الجهاد في سبيل الله وأنا أعلم جيداً أن هذا المفهوم صار غائباً جداً عند المسلمين بل قد وجِد فيهم من أباح دم على ابن أبي طالب وقتلوه فعلاً وهم يحسبون أنهم يتقربون بذلك إلى الله.

وقد اختلط -بعد المنعطف الأخطر في تاريخ المسلمين منذ أن فقدوا الرشد- جهاد الأنبياء بجهاد الخوارج، كان هذا المفهوم واضحا للراشدين لهذا لما خرج على علي ابن أبي طالب الخوارج قال علي لأصحابه: لا تقاتلوهم حتى يسفكوا دماً حراماً. أي بدؤوا بقتل الذين يخالفوهم في الاعتقاد فعند ذلك قاتَلهم ولكن بعد أن قُتل علي ابن أبي طالب تحول العالم الإسلامي من ذاك التاريخ إلى مذهب الخوارج، وهذا الذي نعيشه الآن من ذاك التاريخ، وهذا الذي يجعلنا نكثر من محاولة صنع السلام بين العرب والمسلمين مع إسرائيل ولا يستطيعون أن يفكروا لماذا لا يتمكنون من صنع السلام بين العرب والمسلمين، فالصراع الفكري مباح وواجب كذلك واجب عدم كتمان المعرفة وواجب عليّ أن أبين ولا أكتم ما أنزل الله وأنا لا أريد أن أفرض فهمي على أحد وما دمت لا ألجأ إلى فرض ما أفهم بالقتل والتهجير وإنما فقط أُبين للناس أنهم يمكنهم العيش متعاونين على البر والتقوى حين لا يُدخِلونَ في الدين الإكراه بالقوة، وهذا هو الرشد وهذا هو عروة الله الوثقى التي لا انفصام لها ومن لا يقبل هذا فلينظر إلى التاريخ الماضي ماذا فعل الله للذين آمنوا بالإكراه في الدين وإن لم يكف ما حدث في الماضي فانظروا ماذا سيحدث في المستقبل وأصل هذه التصورات هو إبعاد الإكراه في مجال الأفكار والاعتقادات وابعاد العنف والإكراه في صنع الاعتقاد وكذلك في صنع السياسة فإن السياسة التي تأتي بالإكراه لا يمكن أن تكون رشداً وهداية وتعاوناً على البر والتقوى وإنما هو غي وبغي وتعاون على الإثم والعدوان إن تحييد الإكراه والعنف وابعاده عن مجال الأفكار هو الرشد فإن جنس الإكراه لا يوجد في عالم الأفكار ولكن حين يدخلون الإكراه في صنع الاعتقاد وبضرب الأجساد وقتل النفس التي حرم الله فكأنما قتل الناس جميعا، لهذا الأنفس كلها معرضة للقتل ولا يمكن أن يحمي الانسان نفسه من القتل والتهجير إن لم يعرف ما هو الذنب الذي عليه أن يجتنبه حتى يكون في أمن وحماية فبمجرد أن يدخل الإكراه في الدين لم يعد أحد في أمان، فمن هنا فكأنما قتل الناس جميعا فإذا أجزت قتل الانسان لأفكاره فإن هذا الذي أجزته يرجع عليك أيضاً لأن الآخر يراك كما تراه فلم يعد أحد في أمان حيث لا يجوز الاختلاف في الرأي والدين لأن كل المختلفين يجيزون قتل بعضهم فلهذا لا بد من أن يوجد من يحمي عالم الأفكار حتى يمكن البدء بحماية الناس وإلا لا حماية لأحد، لهذا لا حماية لأحد من العرب الآن، فهم يخافون من أن يصير أحد منهم قوياً فيبيح إزالتهم بالقوة. هذا موضوع خفي جداً وواضح جداً وسيضطر الناس جميعاً أن يقبلوا الاختلاف في الآراء والعقائد والمذاهب والقادر على الإقناع هو الذي يكسب الرهان والرهان الحقيقي هو أن تأتي بما ينفع الناس لأن قانون الله أن الزبد يذهب جفاء من المعتقدات والمذاهب ويمكث في الأرض ما ينفع الناس جميعا، ومن هنا يمكن أن نقول أن العبادة التقليدية التي تقال كثيراً "من أنكر شيئا معروفاً من الدين بالضرورة يستتاب فإن تاب وإلا قتل".إن هذه الفكرة جبن في الإيمان وظن سيئ في الله ودينه، و إلى هذا تحولنا يوم أن ودعنا الرشد وليس فقط بل وصلنا إلى حالة حتى إن رأينا سبيل الرشد لا يمكن لنا أن نتخذه سبيلا {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية لا يؤمنون بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا}.