«مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الخامسة»: الفرق بين المراجعتين

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
سطر ٧٩: سطر ٧٩:
 
ولا بد للعالم الإسلامي أن يتقبل ولادة فكرية تؤهله للدخول في هذه الحياة الجدية، التي لم يكن سابقاً لأحد بها من علم، لأنها كانت مما أخبر عنه الله بقوله: (وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعلَمُونَ) ] النحل 16/8 [، ولم ينته الخلق، وسوف يستمر خلق الله لما لا نعلم، وعلى المسلم أن يدرك هذا وأن يتفهمه، دون أن يشعر يتناقض مع دينه، بل عليه أن يمتلئ شعوراً بأن دينه هو الذي قرر هذه الحقيقة، قبل أن يتمكن أحد من تصورها.
 
ولا بد للعالم الإسلامي أن يتقبل ولادة فكرية تؤهله للدخول في هذه الحياة الجدية، التي لم يكن سابقاً لأحد بها من علم، لأنها كانت مما أخبر عنه الله بقوله: (وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعلَمُونَ) ] النحل 16/8 [، ولم ينته الخلق، وسوف يستمر خلق الله لما لا نعلم، وعلى المسلم أن يدرك هذا وأن يتفهمه، دون أن يشعر يتناقض مع دينه، بل عليه أن يمتلئ شعوراً بأن دينه هو الذي قرر هذه الحقيقة، قبل أن يتمكن أحد من تصورها.
  
لقد كان الناس فيما مضى لا يعلمون عن خلقهم ونموهم شيئاً يذكر، فكانوا معذورين في تصورهم الحياة ثابتة جامدة، حتى إنهم لم يستطيعوا أن يتصوروا إعادة الحياة الراشدة إلى الأمة الراشدة التي تستطيع أن تصنع جهازها الراشد للحكم. فضيعوا الخلافة الراشدة، واستسلموا استسلاماً عجيباً للأوضاع، ولم يعرفوا لمعالجتها طريقاً غير الهرج وشريعة الغاب، ورأوا في سرة الرسول أمراً خارقاً، لا يحدث إلا لرسول، ولم يروا فيها سنة تتكرر نتائجها لكل من أخذ بها.
+
لقد كان الناس فيما مضى لا يعلمون عن خلقهم ونموهم شيئاً يذكر، فكانوا معذورين في تصورهم الحياة ثابتة جامدة، حتى إنهم لم يستطيعوا أن يتصوروا إعادة الحياة الراشدة إلى الأمة الراشدة التي تستطيع أن تصنع جهازها الراشد للحكم. فضيعوا الخلافة الراشدة، واستسلموا استسلاماً عجيباً للأوضاع، ولم يعرفوا لمعالجتها طريقاً غير الهرج وشريعة الغاب، ورأوا في سرة الرسول ص أمراً خارقاً، لا يحدث إلا لرسول، ولم يروا فيها سنة تتكرر نتائجها لكل من أخذ بها.
  
 
ولئن عجز آباؤنا عن أن يتصوروا طريقاً لإعادة الأمور إلى نصابها غير طريق الهرج، فإن العصر الذي نعيش أرانا من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، طرقاً أخرى مكنت كثيراً من المجتمعات بناء أجهزة حكمها بأساليب أقرب إلى الرشد من الأساليب التي اتبعها المسلمون ولا يزالون يتبعونها حتى الآن.  
 
ولئن عجز آباؤنا عن أن يتصوروا طريقاً لإعادة الأمور إلى نصابها غير طريق الهرج، فإن العصر الذي نعيش أرانا من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، طرقاً أخرى مكنت كثيراً من المجتمعات بناء أجهزة حكمها بأساليب أقرب إلى الرشد من الأساليب التي اتبعها المسلمون ولا يزالون يتبعونها حتى الآن.  
سطر ١٠١: سطر ١٠١:
 
أما الموضوع الآخر الذي تناوله محمد إقبال، وأوضح لنا فيه كيف جمَّد المسلمون ما هو متحول مما يدخل في إطار قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعلَمُونَ) ] النحل 16/8 [، وكيف أنكروا ـ غيرة منهم على الدين ـ كل تجديد في أحكام الفقه التي وضعها الرعيل الأول من الفقهاء، فبالرغم من كوني لست متخصصاً في هذا الموضوع، فإني ـ بحسب معلوماتي الضئيلة ـ أشعر بأننا لسنا مقودين بمقود لا قدرة لنا على الفكاك منه، ورؤية ما حولنا لاختيار ما هو أقرب للعدل.  
 
أما الموضوع الآخر الذي تناوله محمد إقبال، وأوضح لنا فيه كيف جمَّد المسلمون ما هو متحول مما يدخل في إطار قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعلَمُونَ) ] النحل 16/8 [، وكيف أنكروا ـ غيرة منهم على الدين ـ كل تجديد في أحكام الفقه التي وضعها الرعيل الأول من الفقهاء، فبالرغم من كوني لست متخصصاً في هذا الموضوع، فإني ـ بحسب معلوماتي الضئيلة ـ أشعر بأننا لسنا مقودين بمقود لا قدرة لنا على الفكاك منه، ورؤية ما حولنا لاختيار ما هو أقرب للعدل.  
  
فالإيمان والإسلام، كما حدده الرسول لجبريل ـ الذي طلع على المسلمين وهم جلوس عند رسول الله في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وطرح على النَّبي أسئلته بقصد تعليم المسلمين دينهم(1) ـ ليسا موضع نزاع في العالم الإسلامي، فالإيمان مبني على الاقتناع (لاَ إِكرَاهَ فِي الدِّينِ) ] البقرة 2/256 [، والإسلام مبني على الاتباع.
+
فالإيمان والإسلام، كما حدده الرسول ص لجبريل ـ الذي طلع على المسلمين وهم جلوس عند رسول الله ص في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وطرح على النَّبي أسئلته بقصد تعليم المسلمين دينهم(1) ـ ليسا موضع نزاع في العالم الإسلامي، فالإيمان مبني على الاقتناع (لاَ إِكرَاهَ فِي الدِّينِ) ] البقرة 2/256 [، والإسلام مبني على الاتباع.
  
 
إنما موطن الاجتهاد والنزاع في التشريع الذي يطلق عليه (المعاملات ونظام العلاقات بين البشر، وحقوق العباد)، وهذا كله مبني على تحري العدل، وحيثما تحقق العدل فثم شرع الله، وكلما كان العدل أقرب إلى الكمال، كان أقرب إلى الشرع (وَإِذَا حَكَمتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوُا بِالعَدْلِ) ] النساء 4/58 [.
 
إنما موطن الاجتهاد والنزاع في التشريع الذي يطلق عليه (المعاملات ونظام العلاقات بين البشر، وحقوق العباد)، وهذا كله مبني على تحري العدل، وحيثما تحقق العدل فثم شرع الله، وكلما كان العدل أقرب إلى الكمال، كان أقرب إلى الشرع (وَإِذَا حَكَمتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوُا بِالعَدْلِ) ] النساء 4/58 [.

مراجعة ٠٨:٣١، ٣٠ يوليو ٢٠٠٧

كتب جودت سعيد

مذهب ابن آدم الأول


Mazhabibnadam.jpg
تحميل الكتاب
مقدمات للكتاب
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الأولى
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الثانية
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الثالثة
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الخامسة
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الرابعة
عناوين
نصوص في مذهب ابن آدم
ملاحظات
نماذج من عمل الأنبياء
عمل القاضي غير عمل الداعي
البلاغ المبين
موقف المسلم من الكفر البواح
تهمة الإرهاب
شبهات حول مذهب ابن آدم
مزايا مذهب ابن آدم
مفاهيم في العمل الإسلامي
خاتمة


تقديم الطبعة الخامسة لكتاب مذهب ابن آدم الأول ومقدمة لطبعة لسلسة سنن التغيير

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى والآمرين بالقسط من الناس.

كيف أجد نفسي، إذا التفت إليها، بعد حوالي ثلث قرن من شبه الحضور والمعاناة لهموم المسلمين، ومن محاولة الإسهام في بحث المشكلة الإسلامية؛ مشكلة الرجل المريض أو الحضارة المريضة؟!

وماذا يمن أن أقول، حين يطلب مني التقدم لطبعة معادة لما كتبت خلال هذه الحقبة؟!

سألني أخٌ، كان قد شاركني معاناتي منذ البدء، قائلاً: هل من جديد؟ قلت: لا جديد، غير أن الأولاد قد كبروا، وظن أني أتحدث عن الأولاد، فقلت: الأفكار هي التي كبرت؛ امتدت جذورها عمقاً وتشعبت فروعها، وبسقت أغصانها، ولا جديد من الوصفات لأمراض المسلمين لديَّ، ولا من التحليلات لمشكلاتهم.

كيف سأشرح وأقرب هذه الأفكار؟!

يقول محمد إقبال: « ولحرف واحدٍ ألف مقال».

وكذلك الفكرة الواحدة؛ كي تستوي على قدميها تحتاج إلى ألف مقال.

منذ ذلك التاريخ طرحت فكرة مذهب ابن آدم الأول.

ما قصة (ابن آدم الأول) هذا؟ وما علاقته بمشكلة العالم الإسلامي أو الإنساني؟! وما معنى أن أطرح هذه الفكرة بالذات؟ ولماذا ابن آدم الأول؟ وماذا تعني كلمته التي قالها في مطلع التاريخ البشري؟ ماذا تحتوي هذه الجينة الموقفية في تاريخ البشر؟ وما معنى أن يطرح الإنسان فكرة في فهم العالم الإنساني؟! وكيف سيختار الكلمة لهذه الفكرة الجديدة؟ وما العلاقة بين الكلمة والتصور؟ وما العلاقة بين التصور وما يتصور؟ وما هذا الـ (ما يتصور)؟.. لا شك أن الـ (ما يتصور) كان الأول ميلاداً، إلا أن هذا التصور لا يتولد من فراغ.. في أي مناخ تولد؟! إنه مناخ التاريخ (الحدث).. الأحداث التي يعيشها الإنسان.. كيف يعيش الإنسان التاريخ؟!

أظن أنني اقتربت من الطريق المسدود، أو أنني اقتربت من رأس النبع.

إن انقطاع الوحي في التاريخ البشري يمثل مرحلة انعطاف أو انتقال، مثل مرحلة الولادة الجسدية.. إنها مرحلة انتقال أكثر من هائلة.. هذا الجنين الذي كان في الرحم؛ غذاؤه، نَفَسُهُ، وجودُه، كلُّه في داخل جسد الأم، يرتبط بها بقناة وحيدة، لو انقطعت قبل الأوان فهو الموت المحتم، أما بعد الولادة فلا بد أن تقطع.

إن العالم كان يعيش في الرحم الفكري، فلما نزلت (اقرأ)، وُلد العالم الجديد، وخرج الإنسان من جسد التاريخ والمجتمع الذي كان خياله يتغذى منه.

هل نحن، حقيقةً، قد وُلدنا ولادة فكرية، أم أننا لا نزال في مرحلة الحمل، نخاف أن ننتقل إلى مرحلة الميلاد؟!

هل نرغب أن نولد؟ من منا يتمكن أن يقبل ذلك؟

وكيف يكون هذا الميلاد؟

أظن أن التاريخ الذي عشتهُ؛ حياةً وقراءةً ومعاناةً، أشعرتني بضرورة أن أخرج من الرحم. وما هذا الرحم؟

إنه هو:

رحم ما وجدنا عليه آباءنا

رحم معرفة الحق بالرجال

رحم عالم الأشخاص

إن المخاض الذي قذف بي خارج هذا العالم، هو تلمسي بما يشبه قرون الاستشعار، حركة التاريخ. كيف تلمست هذا.

لا أعرف كيف يمكن أن نساعد الإنسان على الحياة، حتى يستطيع أن يتنفس برئته، ويتغذى بواسطة معدته، ويفكر بواسطة دماغه.

ولئن كان من السهل أن يدخل الإنسان عالم التنفس المباشر لأن الهواء متوافر من حوله يحيط به من كل صوب، فإن الدخول المباشر إلى عالم الغذاء ليس بهذه السهولة، ولا بد له من مرحلة انتقالية تمتد إلى سنة أو سنتين، يتغذى فيها من ثدي أمه، قبل أن يتعلم تناول الغذاء الذي يصلح له، مباشرة.

ولكن ما شأن الدماغ؟ كيف نهيئه لتقبل غذاء الأفكار؟!

كيف نستطيع أن نخرجه من عالم (إِنَّهُمْ أَلَفَوْاْ ءَابَاءَهُم ضَالِينَ * فَهُم عَلَى ءَاثَارِهِم يُهْرعُونَ) ] الصافات 37/70 [ ؟!

إن مشكلة الفطام هي أهم واجب إنساني، فكما أن الطفل لا يفطم عن ثدي أمه حتى يشتد جسده، فكذلك فكره لا يمكن أن يفطم حتى تصير لديه معلومات صحيحة عن تاريخ الإنسان.

عندما نزل القرآن، لم يكن الإنسان يعرف عن تاريخه شيئاً يُذكر، لا يعرف كيف انبثق إلى الوجود، ولا كيف تقلب خلال التاريخ الطويل.

والطفل أيضاً يعاني، ويعاني مَنْ حوله، حتى يفهم كيف وجد في هذا العالم؛ بأي المراحل مرَّ؟ وما المسالك التي قطعها حتى جاء إلى الوجود حقيقة؟ إنه يغرقنا بالأسئلة، وربما نعرض عنه أو نكذب عليه، دون أن تكون لدينا القدرة على مصارحته.

كذلك البشرية؛ كان صعباً عليها استكشاف أصل وجودها في هذا الكون.. بل إن الإنسان في هذا المستوى ليهرب من التساؤل عن أصله، وإذا تساءل فإننا لا نملك القدرة على مصارحته ومواجهته..

إننا نعيش أحلاماً لذيذة قدمها لنا الآباء، لا نريد أن نتشكك فيها، ونشعر أنه ليس لنا الحق في أن نبحث بجدية عن كيفية بدء الخلق.

إن تشبيه الحياة الفكرية في ظلال تقليد الآباء، وعدم القدرة على التفكير المستقل بالحياة الرحمية في مستوى الجسد، أمر هام وجوهري لتقريب الفكرة، فالذي يعيش هالةً على فكر الآباء، هو مثلُ الجنين الذي يعيش في الرحم عالة على أمه؛ تمده باحتياجاته الغذائية والحيوية عن طريق حبل سُرِّيٍّ. فإذا طال تلكؤ الجنين أو رفضه للخروج من بطن أمه، وقطع الحبل الذي كان يربطه بها، فإنه سيفصل عنها قسراً بواسطة العملية القيصرية، لأنه يصبح خطراً عليها.

كذلك الإنسان، الذي مازال يعيش في الرحم الفكري للآباء عالةً عليهم، يشعر كأنه سيموت إذا انفصل عنهم، فإنه أحوج ما يكون إلى الولادة الفكرية، وإذا لم تكن لديه القدرة على الاستقلال الفكري، فسوف يعيش حياته الفكرية معاقاً.

أما الإنسان الذي تمكن من اجتياز مرحلة الولادة الفكرية بجدارة، فهو الإنسان المعافى فكرياً.. إنه بهذه الولادة والاستقلال، لم يفكر ولم يجد تاريخه؛ بل إنه لن يكون وفياً لوجوده إن لم يتقبل التكيف مع مراحل التاريخ؛ ماضيه وحاضره ومستقبله.

لقد عاشت الإنسانية مرحلة ما قبل الزراعة، ثم دخلت عهد الزراعة، فكان ذلك ولادة جديدة لها، تطلبت منها تكيفاً كاملاً؛ مع أساليب تقسيم العمل، وتوزيع الإنتاج، لمنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولكي لا تكون الأموال دُولة بين الأغنياء. ثم تابعت الإنسانية سيرها إلى عصر الصناعة فعصر المعلومات، إلا أننا نحن المسلمين ما زلنا نعيش خارج التاريخ، لم نولد بعد، فأنى لنا الدخول في عصر الصناعة، بله عصر المعلومات.

إن هذه الولادات والتغيرات في حياة الإنسان، تحدث كالزلزلة.. ونحن المسلمين لا يمكن أن نتقبل هذه الولادات والتغيرات بارتياح ما لم نفهم طبيعة الحياة من الواقع، وما لم نفهم طبيعة الكون الذي نعيش فيه ونحن جزء منه. وها هو الكتاب يؤكد لنا أن هذا الكون ليس قد خلق وانتهى، وإنما هو لا يزال يخلق، ويزداد في خلقه: (يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ) ] فاطر 35/1 [ ، (وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعلَمُونَ) ] النحل 16/8 [، (سَنُرِيهِمُ ءَايَاتِنَا فِي الأَفَاقِ وَفِي أَنفُسَهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَهُ الحَقُّ) ] فصلت 41/53 [. بل إن لنا في هذه الدنيا نشأةً آخرةً غير نشأة يوم القيامة، لا يفهمها إلا من استجاب لأمر الله: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرضِ فَانظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشأَةَ الأَخِرَةَ) العنكبوت ] 29/20 [، فإذا رأينا كيف أن الإنسان أتى عليه عهد، ربما قبل عشرة آلاف سنة لم يكن شيئاً مذكوراً. لم يكن يعرف كيف يُنتج غذاءه، ولا كيف يستر جسده، ثم رأينا كيف تعلم الزراعة والقراءة وتسخير الطاقة خلال عشرة آلاف عام، فإننا نستطيع أن نتصور ما سيكون عليه الإنسان بعد عشرة آلاف عام.

إن المسلم لا يفكر في ذلك بجدية، وثقافته الإسلامية المكتوبة، لم تكن تعرف أن الإنسان قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكرواً، ولم تكن له رؤية تاريخية بهذا المستوى، ولم يكن ذلك ممكناً له.

إن معلوماتنا عن التاريخ البعيد للإنسان معلومات حديثة في حياة البشر تحدثت الأرض بأخبارها، فأدركها كل من سار في الأرض باحثاً يمعن النظر، ورآها الناس في آيات الآفاق والأنفس.

ولا بد للعالم الإسلامي أن يتقبل ولادة فكرية تؤهله للدخول في هذه الحياة الجدية، التي لم يكن سابقاً لأحد بها من علم، لأنها كانت مما أخبر عنه الله بقوله: (وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعلَمُونَ) ] النحل 16/8 [، ولم ينته الخلق، وسوف يستمر خلق الله لما لا نعلم، وعلى المسلم أن يدرك هذا وأن يتفهمه، دون أن يشعر يتناقض مع دينه، بل عليه أن يمتلئ شعوراً بأن دينه هو الذي قرر هذه الحقيقة، قبل أن يتمكن أحد من تصورها.

لقد كان الناس فيما مضى لا يعلمون عن خلقهم ونموهم شيئاً يذكر، فكانوا معذورين في تصورهم الحياة ثابتة جامدة، حتى إنهم لم يستطيعوا أن يتصوروا إعادة الحياة الراشدة إلى الأمة الراشدة التي تستطيع أن تصنع جهازها الراشد للحكم. فضيعوا الخلافة الراشدة، واستسلموا استسلاماً عجيباً للأوضاع، ولم يعرفوا لمعالجتها طريقاً غير الهرج وشريعة الغاب، ورأوا في سرة الرسول ص أمراً خارقاً، لا يحدث إلا لرسول، ولم يروا فيها سنة تتكرر نتائجها لكل من أخذ بها.

ولئن عجز آباؤنا عن أن يتصوروا طريقاً لإعادة الأمور إلى نصابها غير طريق الهرج، فإن العصر الذي نعيش أرانا من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، طرقاً أخرى مكنت كثيراً من المجتمعات بناء أجهزة حكمها بأساليب أقرب إلى الرشد من الأساليب التي اتبعها المسلمون ولا يزالون يتبعونها حتى الآن.

إن مشكلاتنا لكثيرة، وكثيرة جداً.. وظني أن أكبر مشكلاتنا هو تجميد حركة الحياة، وعدم إمكان تصور أن يخلق الله شيئاً غير الذي نعلم.. لا بد من بحث هذا الموضوع بكثير من الجدية والتعمق.

ولقد تنبه محمد إقبال إلى هذه المشكلة، ومحمد إقبال من الأفراد القلائل الذين عانوا الولادة الفكرية، وعاشوا في رحابها الواسعة، بعد أن غادروا الحياة الفكرية الضيقة في رحم مغلقة.. فبذلك استطاع أن يقدم لنا رؤية واضحة عن مبدأ الحركة وعن تاريخ الجمود في البناء الفكري للإسلام، وكيف سلَّم المسلمون بضرورة الاجتهاد نظرياً، وأنكروا تطبيقه عملياً، وعن دور المذاهب، ومدارس الفقه الإسلامي، وأنظمة الحكم المتعاقبة، والنكبات المدمرة التي تعرضت لها الأمة الإسلامية، مثل غزو التتار وتدمير بغداد، ونزعات التصوف.

ولقد تركزت جهود المصلحين لصيانة المجتمع من الانحلال على ضرورة الاحتفاظ بحياة اجتماعية مطردة، على نمط واحد، يشمل الناس جميعاً.. « فأنكروا كل تجديد في أحكام الفقه التي وضعها الرعيل الأول من الفقهاء، وكان النظام الاجتماعي بيت القصيد في تفكيرهم، وليس من شك في أنهم كانوا على شيء من الصواب، لأن النظام يقاوم الانحلال إلى حدٍّ ما، لكن ما فاتهم وفات علماءنا المحدثين كذلك، هو أن مصير الشعوب لا يتوقف على النظام بقدر ما يتوقف على قيمة الفرد. والجماعة التي يسودها التنظيم الزائد يتلاشى فيها الفرد، إذ هو يجني ثمار كل ما حوله من تفكير اجتماعي، لكنه يفقد روحه هو..

وقد أحسن كاتب من المحدثين تصوير ذلك حين قال: (الأفكار البالية لن تقوم لها قائمة أبداً بين قوم بليت على أيديهم). وعلى هذا فالقوة الفعالة التي تقاوم انحلال الشعوب إنما هي تنشئة أفراد ذوي فردية قوية.. يجهرون بمقاييس جديدة، نرى في ضوئها أن بيئاتنا ليست واجبة الحرمة في كل شئ، بل هي تفتقر إلى التعديل »(1).

وفي تصوري أن هؤلاء الأفراد، ذوي الفردية القوية، الذين يجهرون بمقاييس جديدة، نبدأ نرى في ضوئها أن بيئاتنا ليست واجبة الحرمة في كل شئ.. هؤلاء الأفراد لا ينشؤون من فراغ، وإنما ينشؤون إثر اطلاِّع واسع وعميق على مجتمعات عدة، يستنبطون منه - بالمقارنة - القانون العام الذي يحكم نمو المجتمعات، ويكتشفون به (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ) ] الأحزاب 33/62 [، فيطبقونها على مجتمعاتهم.

إن الإنسان حين يقتصر في دراسته على مذهب معين، يتولد عنده تصور محدود، فإذا اطلع على مذهب آخر، فإنه يكسب بذلك رؤية أرحب، تخلق لديه إمكانات جديدة لتفسيرات جديدة، فإذا وسع دراسته إلى دين آخر، وفلسفات أخرى، فإن قدرته على تصور القوانين التي تحكم نشأة المذاهب والمجتمعات تصبح أضعافاً كثيرة.

وإنه لا يمكننا أن نتصور أن بمقدور فرد محصور الرؤية في بيئته واحدة أن يأتي بإبداع جديد مفيد، لأن الإبداع لا يتأتى إلا من الشهود والإحاطة بما حدث للمجتمعات (وَتَكوُنُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) ] الحج 22/78 [. ولن يستطيع غائب عن أحداث العالم أن يبدع حضارة، فالحضارة من الحضور، ولا يكون الغائب متحضراً، كما ليس لغائب شهادة، ولا يمكن أن تقبل شهادة إنسان وهو غائب.

واليوم، من لا يحضر أحداث العالم يومياً، يعدُّ متخلفاً، هل يمكن أن يتأمل شبابنا ذلك ملياً.

أما الموضوع الآخر الذي تناوله محمد إقبال، وأوضح لنا فيه كيف جمَّد المسلمون ما هو متحول مما يدخل في إطار قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعلَمُونَ) ] النحل 16/8 [، وكيف أنكروا ـ غيرة منهم على الدين ـ كل تجديد في أحكام الفقه التي وضعها الرعيل الأول من الفقهاء، فبالرغم من كوني لست متخصصاً في هذا الموضوع، فإني ـ بحسب معلوماتي الضئيلة ـ أشعر بأننا لسنا مقودين بمقود لا قدرة لنا على الفكاك منه، ورؤية ما حولنا لاختيار ما هو أقرب للعدل.

فالإيمان والإسلام، كما حدده الرسول ص لجبريل ـ الذي طلع على المسلمين وهم جلوس عند رسول الله ص في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وطرح على النَّبي أسئلته بقصد تعليم المسلمين دينهم(1) ـ ليسا موضع نزاع في العالم الإسلامي، فالإيمان مبني على الاقتناع (لاَ إِكرَاهَ فِي الدِّينِ) ] البقرة 2/256 [، والإسلام مبني على الاتباع.

إنما موطن الاجتهاد والنزاع في التشريع الذي يطلق عليه (المعاملات ونظام العلاقات بين البشر، وحقوق العباد)، وهذا كله مبني على تحري العدل، وحيثما تحقق العدل فثم شرع الله، وكلما كان العدل أقرب إلى الكمال، كان أقرب إلى الشرع (وَإِذَا حَكَمتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوُا بِالعَدْلِ) ] النساء 4/58 [.

العدل المطلوب أن يُحكم به في هذا النص القرآني، بين الناس وليس بين المؤمنين فقد. وإذا تنازع الناس في تحديد العدل، فلا مانع من الأخذ بأي الجمهور. وجمهورُ المسلمين على اعتبار الإجماع مصدراً من مصادر التشريع، سواءً كان هذا التشريع متصلاً بإقامة جهاز للحكم، أو نظام الاقتصاد، أو قانون للعقوبات، أو غير ذلك من شؤون المسلمين.

وكلما كان الأمر قريباً من الإجماع، يعتبر العدل الذي رآه الذين اقتربوا أكثر من الإجماع أفضل، حتى يحدثوا ما هو أفضل سواءً كان الموضوع متصلاً بإنشاء جهاز الحكم أو بنظام الاقتصاد أو بقانون العقوبات.

وهذا يقودنا بدوره إلى موضوع الشورى التي أمر الله رسوله بها (وَشَاوِرْهُم فِي الأَمرِ) ] آل عمران 3/159 [، ووصف بها المؤمنين (وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُمْ) ] الشورى 42/38 [.

فلو أن المسلمين نظموا أمرهم على الشورى بينهم، وقلبوا ما كان أقرب للإجماع من آرائهم، وبدؤوا بما هو متفق عليه، وأخَّروا ما كان مختلفاً فيه، لحلُّوا الكثير من مشكلاتهم.

هل استطعت أن أشخص المرض؟ وأن أضع يدي على مكمن الداء؟ وأن أقرِّب فكرة ظلت تراودني منذ حوالي ثلث قرن؟!

أم أنني مازلت أتوغل في درب مسدود؟!

ما يهمني أن لا تظل (فكرتي) حبيسةً في رحم فكري مظلم، وأن تخرج إلى النور، تتنفس برئتيها، وتبصر بعينيها، وتسمع بأذنيها، وتنمو بعقلها. وأن يجعلني الله من (الذَِّينَ يُبَلِغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخشَونَهُ وَلاَ يَخشَوْنَ أَحَداً إَلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً) ] الأحزاب 33/39 [. ألا هل بلَّغت؟! اللهم اشهد.

قنيطرة ـ بئر عجم جودت سعيد 3/6/1993م