«مفاهيم في العمل الإسلامي»: الفرق بين المراجعتين

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
سطر ١: سطر ١:
نعرض هنا بعض الأفكار والمفاهيم في العمل الإسلامي:
+
مفاهيم في العمل الإسلامي  
  
{{مفاهيم في العمل الإسلامي}}
+
==سُنَّة الله في تغيير الواقع الأرضي بتغيير النفس==
 +
 
 +
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ] الرعد 13/11 [.
 +
 
 +
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ] الأنفال 8/53 [.
 +
 
 +
إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة حتى يغير القوم ما بأنفسهم من مفاهيم تستدعي وجود هذه النعمة، كما لا يغير الله ما بقوم من النقمة حتى يغير القوم ما بأنفسهم من مفاهيم تستدعي وجود تلك النقمة، وبناء على هذا إذا نظرنا إلى ما بالمسلمين اليوم في واقع حياتهم ينبغي أن نعلم أن ما في واقعهم الأرضي متناسب تماماً مع ما بأنفسهم من مفاهيم وأفكار ونظريات، وأن عدم تغيير الله ما بهم متوقف على عدم تغيير المسلمين لما بأنفسهم.
 +
 
 +
===الفصل بين ما في النفس والواقع الأرضي يوقع في الأخطاء===
 +
 
 +
والخطأ الذي يقع فيه المسلمون، هو محاولتهم الفصل بين هذين الشيئين بطريقة من طرق خداع النفس، بحيث يظنون أن واقعهم السيئ لا علاقة له بما بأنفسهم من أفكار ومفاهيم وعقائد.
 +
 
 +
فما بالنفس: يشمل كل متا يعطي لهذا الإنسان نشاطه وسلوكه في الحياة إزاء مواقف حياته الواقعية، وإذا نظرنا هذه النظرة القرآنية المنطقية الواقعية، فإلى أين نصل؟
 +
 
 +
'''واقع المسلمين مطابق لما في أنفسهم'''
 +
 
 +
يمكن أن نصل إلى أن واقع المسلمين مطابق لما في أنفسهم.
 +
 
 +
وبما أن واقع المسلمين ليس مما يدعو إلى أن يرتضيه أحد، فإن موقفنا من أفكارهم ومفاهيمهم ينبغي أن لا يحمل طابع التقدير والإجلال، لأن واقع المسلمين ليس بالذي يُشَرِّف المسلمين، فكذلك ينبغي أن تعرف العلاقة الوثيقة ما بين هذا الواقع وما بأنفس المسلمين.
 +
 
 +
'''آثار الخلط بين أفكار المسلمين والإسلام'''
 +
 
 +
ويقتضي هذا البحث منا أن نقوم بتمييز آخر، لأن عدم إمكان القيام بهذا التمييز الآخر يجعل عقدة المسلمين غير قابلة للحل، حيث يجعلهم يدافعون عن الباطل بأعظم ما يتصور من إنسان أن يدافع عن الحق.
 +
 
 +
وهذا التمييز هو عدم الخلط بين ما أنزل الله وبين أفكار المسلمين، فإن الخلط بين هذين الأمرين يجعل حلَّ القضية مستعصياً، بل يجعل الإنسان يقبل التناقض. والعقل الذي يصل به الخلط إلى هذا الحد لا يعود قادراً على حلَّ الأمور حلاً صحيحاً.
 +
 
 +
وأرجوا أن يساعد المسلم على هذا التمييز، ما قدمته من أن الخلف في النتيجة هو الدليل القاطع على أن ما أنزل الله ليس هو ما بأنفس المسلمين.
 +
 
 +
والمسلم إذا أراد أن يدافع عما أنزل الله، فلا يجوز أن يخلط بما في أنفس المسلمين، فيقع بغير شعور منه في الدفاع عما بأنفس المسلمين.
 +
 
 +
فليس الذي بأنفس المسلمين هو الذي في حاجة إلى دفاع، بل هو الذي في حاجة إلى هجوم، إذا كنا نشعر بحاجة إلى تغير واقع المسلمين السيئ، الذي لا يجوز أن نرضى عنه، والذي هو نتيجة لما بأنفسهم. والوقوع في هذا الخطأ يجعل القضية غير قابلة للحلِّ.
 +
 
 +
ولعل فهم هذا الموضوع يجعل المسلم يتشكك في أحكامه المسبقة التي يصدرها، ويعصمه من الوقوع في الدفاع عن المسلمين الذين يضطره أن يدافع عن واقعهم بدون شعور منه.
 +
 
 +
وبما أن عقل المسلم لديه القدرة التجريدية على فهم الفصل والفارق الجوهري، بين ما أنزل الله وبين ما بأنفس المسلمين، فإن لنا أن نقول:
 +
 
 +
إن الإسلام الذي كان بأنفس المسلمين السابقين، أنتج واقعهم الذي نعرف، إذ نصرهم الله بالرعب مسيرة شهر، بينما الإسلام الذي بأنفس المسلمين اليوم، أنتج واقعهم الذي هم فيه أيضاً، وقد أشار إلى وصف هذا الواقع حديث القصعة.
 +
 
 +
===إقبال يميز بين إسلام مُنْزَل وإسلام مُخْتَرَع===
 +
 
 +
فالذي أرجوه هو أن لا يخلط المسلم بين الإسلام الذي كان بأنفس الصحابة، وبين الإسلام الذي بأنفس المسلمين اليوم، فهذا الذي جعل محمد إقبال يهتم بأمر خطير، إذ أعلن ثورة على (الإسلام غير المُنَزَّل من الله) الذي وضعه الأعاجم وخيلوا إلى الناس أنه هو الإسلام، وفرضوه على الأمة التي بعثت لتمحو ما لا يلائم الدعوة القرآنية.
 +
 
 +
وكان هذا الكيد للإسلام انتقاماً من الهزيمة التي أصابت الأعاجم بسيوف المسلمين، فقد علموا أن سر القوة والسطوة ـ في هذه الأمة المجاهدة ـ سنن القرآن وعقائده التي تبعث الحياة في النفوس، فكادوا لها ليبعدوها عن القرآن ويركبوها في حبالة (الإسلام غير القرآني). وقد أحكموا كيدهم حتى حسب المسلم هذا السراب ماء.. كذلكم عمدوا إلى هذه الأمة التي كانت شعلة من العمل والإقدام، فجعلوها بالاستسلام واليأس كومة من رماد.
 +
 
 +
فكانت مهمة إقبال نذير الموت لهذا الإسلام غير المنزل وبشير الحياة للإسلام القرآني(1).
 +
 
 +
فكان هذا ما يعنيه حينما بين في بيت من الشعر، ضلال عقل المسلم وقلبه عن حقيقة الإسلام:
 +
 
 +
ضلَّ عن سرِّ النَّبيَّ المسلمُ موثناً قد صارَ هذا الحرمُ
 +
 
 +
===الخطورة في مشاركة المخالف في المنطلق===
 +
 
 +
وبعد هذا هل يجوز لنا أن نلمس بعض مفاهيم المسلمين؟!
 +
 
 +
إن من أخطر هذه المفاهيم ؛ مشاركة المسلمين الذين يريدون الإصلاح على أساس الإسلام، مفاهيم الذين يريدون أن يجدوا سبيلاً للإصلاح معرضين عن الإسلام.
 +
 
 +
فالإسلاميون وغير الإسلاميين، وكل الأشخاص الذين يعيشون في الجو الثقافي الذي نحن فيه، والذين لا يرضون عن الأوضاع الحالية عامة، لا يرون إمكان تغيير الأوضاع بغير الانقلاب السياسي المسلح.
 +
 
 +
إنني أخاف هذا الرأي وهذا القاسم المشترك لكل الذين يتبنون هذه الفكرة، وكل الذين لا يرون غير هذه الطريقة، وإن كانوا لا يتبنونها أو لا يريدون أن يَصْلَوْا حَرَّها.
 +
 
 +
===تقديم دور القوة في التغيير يجمد عمل الفكرة===
 +
 
 +
وقد يقول بعض الإسلاميين، إنهم ليسوا كذلك، ولكن الواقع يدلُّ على أنهم، وإن كانوا لا يتبنونها، إلا أن تجمد فاعليتهم يدل على أنهم لا يزالون يتصرفون تصرف من سلوكه لا يزال تحت ضغط مثل هذه الأفكار.
 +
 
 +
'''سبب عجز المسلم عن مواجهة الأمر بصراحة'''
 +
 
 +
إن المسلم الآن يعجز عقله عن أن يواجه هذه القضية بوضوح وصراحة، فهو يشعر أنه خذل الإسلام إذا صرح أنه ليس من شأنه أن يستخدم القوة في معالجة مشكلة المجتمع الإسلامي، بل إنه يشعر، إن صرح بهذا، أنه تنازل عن عزة المسلم واستعلائه، وأنه قد بخع الإسلام في نفسه، إذ صار عدم التصريح بهذا مرتبطاً بالرجولة والشجاعة وكرامة النفس.. إلخ، فهذا الشعور هو الذي يمنعه أن يهيئ لنفسه الوضع الذي لا يمكن للآخرين أن يتهموه بمثل هذه التهم.
 +
 
 +
فعدم تهيئة هذا الجو، هو الذي يُمكن ُ من يريد أن يلصق بالمسلمين ما شاء من التهم ويشل نشاطهم. والحق أن الإسلام لديه القدرة على البقاء والاستمرار في كل الظروف، فعدم الاستمرار في كل الظروف ليس من طبيعة الإسلام، ولكن من طبيعة المسلم التاريخي الذي يعيش الآن.
 +
 
 +
'''حرمان المسلم من القدرة على التصحيح'''
 +
 
 +
إن المسلم يعجزان يراجع نفسه، وينظر في أعماله وتاريخه نظر من يعرف معنى الاعتبار بأعمال الإنسان، فهو محتفظ بعوامل إخفاقه، وليس لديه القدرة على مواجهة ذلك مواجهة صحيحة،بل إنه فقد معنى التوبة ؛ معنى القدرة على أن ينقذ نفسه، وأن يشعر بالخطأ لتكون لديه القدرة على تصحيحه.
 +
 
 +
'''اعتبار النقد عيباً وتشهيراً'''
 +
وأذكر هنا ما قاله مالك بن نبي عن النقد الذاتي:
 +
 
 +
«.. أنه ليس مجرد النجوى المحدودة التي تقوم فيها بِمُسارَّة الزميل المجتبي ضمن خلوة حميمة، ولكنه الإعلان المشهود عن الخطأ على رؤوس الملأ»(1).
 +
 
 +
إنه القاسم المشترك الذي يميز الإنسان المتخلف عن الحضارة الإسلامية.
 +
 
 +
فهذا الخلف محكوم بهذا الطابع العام الذي يشترك فيه مع من ينازعهم.
 +
 
 +
فإذا أمكننا أن نعلم الطريق الشرعي، وسنة الله الحقيقية لطبيعة العلاقة بين الأمم ومسيري أمورها، عرفنا كيف نسلكها.
 +
 
 +
وإذا كنا نتبنى الطريق الشرعي الطبيعي، ولا نريد أن نحيد عنه، فإننا نحج كل أولئك الذين يريدون أن يجعلوا هذه العلاقة على طريقة غير شرعية.
 +
 
 +
وإذا كنا نعتبر محاولة غيرنا سلوك الطريق الذي سلكوه، محاولة غير شرعية، وكنا ننتقدهم، لكان الواجب علينا أن نسلك طريقاً غير هذا للوصول إلى حيث نحن.
 +
 
 +
إذن فالذين يتبنون هذه الطريقة طريقة الأنبياء في إنشاء المجتمع المتميز، هم الذين يجوز لهم أن ينتقدوا هذه الطرق التي تأتي الأمور من غير أبوابها، لا الذين يأتون البيوت من ظهورها.
 +
 
 +
ودعوة الله أكرم من أن يسلك بها هذه المسالك.
 +
 
 +
===هذه الطريقة ليست لتفادي المحنة بل لجعل المحنة مثمرة===
 +
 
 +
ثم لا أقول هذا تفادياً للمحن، ولا أقول: إن المحن لا تنزل بالمسلمين إذا لم يسلكوا طريق القوة، كيف أقول هذا والله يقول:
 +
 
 +
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) ] العنكبوت 29/2 [.
 +
 
 +
بل الذي أقول: إن المحن ستنزل، ولكن النتائج ستختلف، لأن مثل هذه الأعمال مركبات تختلف في التأثير على النفس الإنسانية، فبمقدار ما يحتوي التركيب من العناصر المختلفة عن التركيب الصحيح، يكون الخلف في نتائج استعمالاتها، فلهذا أريد أن أبعد عن هذا التركيب مواد استخدام القوة، وأزيل الشبهة التي تمكن من قابلية الاتهام بهذا. وإن كان لابد من دخول الصراع فليكن على مستوى:
 +
 
 +
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ] البروج 85/8 [.(أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ …) ] غافر 40/27 [.
 +
 
 +
فهذا الذي أحبه لنفسي وأحبه للمسلمين وأحب أن يتأملوا فيه، ولعلي أكون قد ساهمت في تمكين المسلم من مراجعة نفسه في هذا الموضوع. فأنا أبرأ من أعمال العنف، ومن الجو الذي يمكن أن يجلب إلينا تهمة أعمال العنف، ولنا في قول الحق نعم الخلف، حتى يتميز المجتمع المسلم.
 +
 
 +
===التبرؤ من أعمال العنف ليس تبرؤاً من المسلم===
 +
 
 +
ثم إذا تبرأنا من عمل ما أو من موقف ما فليس معناه أننا نبرأ من المسلمين. فلقد جاء في صحيح البخاري:
 +
 
 +
أن رسول الله ص بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول الله ص، فرفع يديه وقال " «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»(1). ولم يبرأ رسول الله  من خالد وإنما ممات صنع خالد.
 +
 
 +
الاستفادة من التجارب
 +
 
 +
وإذا تحمل أحد الآلام، فإن هذه الآلام لن تذهب سدى، بل هي التي سترشدنا إلى الطريق، فإذا استخدمنا ما استفدناه من المعرفة على ضوء تجربته في تقرير اتجاهنا فليس معناه أننا لم نعد نحترمه، بل يكون عدم احترامه في أن لا تؤثر تجربته في طريقة سيرنا.
 +
 
 +
موضع المؤاخذة
 +
 
 +
ونحن لا نمثل شهود نفي والإثبات في هذه القضية، وإنما الذي نؤاخذ فيه هو ترك مثل هذا الموضوع الهام وهذه القضية الكبرى في لبس، وأن تظل معلقة، فعلى أقل تقدير ينبغي أن يعلن الرأي الصريح الذي يشعر بصدق الدعوى بيانً وعملاً من قبل قادة الرأي وعلى ملأ من الناس، ولا سيما الشباب الصغار الذين لم يتوضح لهم هذا الأمر، فهم يتبنون فكرة القوة أكثر من غيرهم، فتأكيد القادة في هذا الموضوع هو الذي سيشفي هذه العلة عند الأتباع الصغار، كما فعل الأستاذ المودودي في مناسبات مختلفة، ونذكر هنا ما جاء في الوصية التي قدمها للعاملين للإسلام حين خاطبهم في مكة المكرمة فقال:
 +
 
 +
«أيها الإخوة الكرام! وأحب في ختام كلمتي هذه أن أوجه إليكم نصيحة: هي أن لا تقوموا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف، ولا تلجؤوا إلى استعمال العنف والقوة والسلاح لتغيير الأوضاع، لأن هذه أيضاً من الاستعجال ومحاولة الوصول إلى الهدف بأقصر طريق.
 +
 
 +
وهذا الأمر أسوأ عاقبة وأكثر ضرراً من كل صورة أخرى.
 +
 
 +
إن الانقلاب الصحيح السليم قد حصل في الماضي، وسيحصل في المستقبل، بجمعيات علنية يكون نشاطها واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار لكل إنسان.
 +
 
 +
فعليكم أن تنشروا دعوتكم بطريق علني، وتقوموا بإصلاح قلوب الناس وعقولهم في أوسع نطاق، وتسَخَّروا الناس لغاياتكم بأسلحة من الخُلُق الكريم والفضيلة، وأن توجهوا كل ما يقابلكم من المحن والشدائد موجهة الأبطال، فهذا هو الطريق الذي يمكننا من عمل انقلاب عميق الجذور، راسخ الأسس، قوي الدعائم، كبير النفع، في حق هذه الأمة المسكينة، ولا يمكن لأي قوة معادية أن تقف في وجهه.
 +
 
 +
أقول: إن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها.
 +
 
 +
أما إذا استجبتم وقمتم بانقلاب بوسائل العنف، ونجحتم إلى حد ما، فسيكون مثله كمثل الهواء الذي يدخل من الباب ليخرج من الشباك.
 +
 
 +
هذه هي النصائح التي أوجهها لكل من يقوم بأمر الدعوة»(1).
 +
 
 +
===سبب الإلحاح===
 +
 
 +
والذي يجعلني شديد الحرص والإلحاح في هذا الموضوع ؛ هو ما توقعه في العقود القادمة، من إمكان اشتداد الصراع، وتضخم النزاع، وزيادة عجز المسلمين، وتضاعف عقُدهم وعجزهم عن مواجهتها.
 +
 
 +
فعلى الدعاة إلى لله أن يتصبروا للمسلمين، فإن الأيام القادمة ستكون سُنة الأنبياء في دخولهم حلبة الصراع وزادهم:
 +
 
 +
(رَبُّنا اللهُ) ] الأحقاف 46/13 [.
 +
 
 +
(وَمَا عَلَينا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ) ] يس 36/17 [.
 +
 
 +
===روَّاد الفكر===
 +
 
 +
واليوم قد صار للمسلمين رواد في الفكر، قد بينَّوا الواجبات الحقيقية وأزالوا عن سنة الله في التغيير كثيراً من الغموض الذي كان لاحقاً بها، ولكن توجيهاتهم لم تصل ولم تنتشر في الأوساط الإسلامية، وهذا ينبغي أن نقوم به.
 +
 
 +
وإذا انتقدتُ أوضاع المسلمين، فإن ذلك مما استفدته أيضاً من أولئك الرواد. وإن كان هذا الانتقاد غريباً كل الغرابة عن أجواء المسلمين وما تعودوه.
 +
 
 +
'''الموقف الصحيح من إنتاجهم'''
 +
 
 +
ومما ينبغي التنبيه إليه: هو أن الثقة التي نوليها لأولئك الرواد ينبغي أن تكون الثقة التي تثبتها الطريقة القرآنية أي الطريقة البرهانية (قُلْ هَاتُوا بُرْهَنَكُمْ) ] البقرة 2/111 [.
 +
 
 +
ولا خير في ثقة لا يشيعها البرهان، ومثل هذه الثقة التي لم يلدها البرهان هي التي تفقد قيمتها بتحويل رصيدها من البرهان إلى الشخص. أي أن وجاهة الشخص هي التي تحل محل البرهان مما يجعل الثقة قيمتها الحقيقية حتى يصير الإنسان عاجزاً عن إدراك وجه الصواب في أمور بدهية.
 +
 
 +
غير أن هذا الكلام وصفي لا يجدي إلا قليلاً في إحداث التغيير في مثل هذا الموقف، لأن ذلك يقتضي تغيير الجو الثقافي الذي يعارض الأسلوب البرهاني.
 +
 
 +
===ذهان(1) القوة وقوة الفكرة===
 +
 
 +
«.. في القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الأمم والشعوب علاقات قوة، وكان مركز الأمة يقدر بعدد مصانعها ومدافعها وأساطيلها ورصيدها من الذهب.
 +
 
 +
ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطوراً ملحوظاً هو أنه قد أعلى من شأن الفكرة باعتبارها قيمة دولية.
 +
 
 +
وهذا التطور لم تشعر به كثير من البلدان المتخلفة، لأن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها ضرباً من الغرام السقيم بمقاييس القوة أي بالمقاييس القائمة على الأشياء..»(2).
 +
 
 +
وصعب على المسلم أن يدرك مكانة القوة حيث خفي عليه عمل الفكرة، وأن قوة المادة إنما هي من مواليد الفكرة، وأن عكس القضية في هذا يعقد الأمور. إلا أنه عميق الجذور متشرب في النفوس منذ أن كلن يقول أبو تمام وأمثاله:
 +
 
 +
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
 +
 
 +
محا السيف أسطار البلاغة والتحى.. إلخ.
 +
 
 +
فهذا الذي جعل مالكاً يقول: «عقدة التخلف نصبت في طريقها ضرباً من الغرام السقيم بمقاييس القوة، والذين يملكون الذرة اليوم يعجزون عن نشر فكرتهم بواسطة القوة».
 +
 
 +
فهل يكون طن المسلم في محله، إن طن أن عجزه عن تبليغ فكرته إنما هو لأنه لا يملك السلاح؟
 +
 
 +
وفي هذا يقول صاحب كتاب (ما يقال عن الإسلام):
 +
 
 +
«.. إن حامل الذرة يضعف اليوم عن السلطان الذي اقتدر عليه آباؤه وأجداده بما دون ذلك من عدة قاطعة، وحيلة واسعة. ولو لم تكن عبرة من عبر الحكمة الإلهية لكان سلاح الذرة أولى بتحكم الغرب في الشرق وسيادة الأقوياء على الضعفاء من أسلحة القرن الغابر والذي قبله، وهي في جانب القذيفة الجهنمية أضعف من العصا في جانب السيف.
 +
 
 +
وحين يذكر الأقوياء أنهم نسوا أن الضعيف المغلوب إنسان، فذكروا ذلك مكرهين يوم بلغوا بالسلاح غايته من القوة والجبروت، فهم يستعيدون اليوم نعمة الإنسانية على أنفسهم كما رضخوا بهذه النعمة للضعفاء وعجزوا عن سلبهم إياها في عصر الذرة والصاروخ ا هـ»(1).
  
 
[[تصنيف:مذهب ابن آدم الأول]]
 
[[تصنيف:مذهب ابن آدم الأول]]

مراجعة ١٢:٠٨، ٢٨ يوليو ٢٠٠٧

مفاهيم في العمل الإسلامي

سُنَّة الله في تغيير الواقع الأرضي بتغيير النفس

(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ] الرعد 13/11 [.

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ] الأنفال 8/53 [.

إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة حتى يغير القوم ما بأنفسهم من مفاهيم تستدعي وجود هذه النعمة، كما لا يغير الله ما بقوم من النقمة حتى يغير القوم ما بأنفسهم من مفاهيم تستدعي وجود تلك النقمة، وبناء على هذا إذا نظرنا إلى ما بالمسلمين اليوم في واقع حياتهم ينبغي أن نعلم أن ما في واقعهم الأرضي متناسب تماماً مع ما بأنفسهم من مفاهيم وأفكار ونظريات، وأن عدم تغيير الله ما بهم متوقف على عدم تغيير المسلمين لما بأنفسهم.

الفصل بين ما في النفس والواقع الأرضي يوقع في الأخطاء

والخطأ الذي يقع فيه المسلمون، هو محاولتهم الفصل بين هذين الشيئين بطريقة من طرق خداع النفس، بحيث يظنون أن واقعهم السيئ لا علاقة له بما بأنفسهم من أفكار ومفاهيم وعقائد.

فما بالنفس: يشمل كل متا يعطي لهذا الإنسان نشاطه وسلوكه في الحياة إزاء مواقف حياته الواقعية، وإذا نظرنا هذه النظرة القرآنية المنطقية الواقعية، فإلى أين نصل؟

واقع المسلمين مطابق لما في أنفسهم

يمكن أن نصل إلى أن واقع المسلمين مطابق لما في أنفسهم.

وبما أن واقع المسلمين ليس مما يدعو إلى أن يرتضيه أحد، فإن موقفنا من أفكارهم ومفاهيمهم ينبغي أن لا يحمل طابع التقدير والإجلال، لأن واقع المسلمين ليس بالذي يُشَرِّف المسلمين، فكذلك ينبغي أن تعرف العلاقة الوثيقة ما بين هذا الواقع وما بأنفس المسلمين.

آثار الخلط بين أفكار المسلمين والإسلام

ويقتضي هذا البحث منا أن نقوم بتمييز آخر، لأن عدم إمكان القيام بهذا التمييز الآخر يجعل عقدة المسلمين غير قابلة للحل، حيث يجعلهم يدافعون عن الباطل بأعظم ما يتصور من إنسان أن يدافع عن الحق.

وهذا التمييز هو عدم الخلط بين ما أنزل الله وبين أفكار المسلمين، فإن الخلط بين هذين الأمرين يجعل حلَّ القضية مستعصياً، بل يجعل الإنسان يقبل التناقض. والعقل الذي يصل به الخلط إلى هذا الحد لا يعود قادراً على حلَّ الأمور حلاً صحيحاً.

وأرجوا أن يساعد المسلم على هذا التمييز، ما قدمته من أن الخلف في النتيجة هو الدليل القاطع على أن ما أنزل الله ليس هو ما بأنفس المسلمين.

والمسلم إذا أراد أن يدافع عما أنزل الله، فلا يجوز أن يخلط بما في أنفس المسلمين، فيقع بغير شعور منه في الدفاع عما بأنفس المسلمين.

فليس الذي بأنفس المسلمين هو الذي في حاجة إلى دفاع، بل هو الذي في حاجة إلى هجوم، إذا كنا نشعر بحاجة إلى تغير واقع المسلمين السيئ، الذي لا يجوز أن نرضى عنه، والذي هو نتيجة لما بأنفسهم. والوقوع في هذا الخطأ يجعل القضية غير قابلة للحلِّ.

ولعل فهم هذا الموضوع يجعل المسلم يتشكك في أحكامه المسبقة التي يصدرها، ويعصمه من الوقوع في الدفاع عن المسلمين الذين يضطره أن يدافع عن واقعهم بدون شعور منه.

وبما أن عقل المسلم لديه القدرة التجريدية على فهم الفصل والفارق الجوهري، بين ما أنزل الله وبين ما بأنفس المسلمين، فإن لنا أن نقول:

إن الإسلام الذي كان بأنفس المسلمين السابقين، أنتج واقعهم الذي نعرف، إذ نصرهم الله بالرعب مسيرة شهر، بينما الإسلام الذي بأنفس المسلمين اليوم، أنتج واقعهم الذي هم فيه أيضاً، وقد أشار إلى وصف هذا الواقع حديث القصعة.

إقبال يميز بين إسلام مُنْزَل وإسلام مُخْتَرَع

فالذي أرجوه هو أن لا يخلط المسلم بين الإسلام الذي كان بأنفس الصحابة، وبين الإسلام الذي بأنفس المسلمين اليوم، فهذا الذي جعل محمد إقبال يهتم بأمر خطير، إذ أعلن ثورة على (الإسلام غير المُنَزَّل من الله) الذي وضعه الأعاجم وخيلوا إلى الناس أنه هو الإسلام، وفرضوه على الأمة التي بعثت لتمحو ما لا يلائم الدعوة القرآنية.

وكان هذا الكيد للإسلام انتقاماً من الهزيمة التي أصابت الأعاجم بسيوف المسلمين، فقد علموا أن سر القوة والسطوة ـ في هذه الأمة المجاهدة ـ سنن القرآن وعقائده التي تبعث الحياة في النفوس، فكادوا لها ليبعدوها عن القرآن ويركبوها في حبالة (الإسلام غير القرآني). وقد أحكموا كيدهم حتى حسب المسلم هذا السراب ماء.. كذلكم عمدوا إلى هذه الأمة التي كانت شعلة من العمل والإقدام، فجعلوها بالاستسلام واليأس كومة من رماد.

فكانت مهمة إقبال نذير الموت لهذا الإسلام غير المنزل وبشير الحياة للإسلام القرآني(1).

فكان هذا ما يعنيه حينما بين في بيت من الشعر، ضلال عقل المسلم وقلبه عن حقيقة الإسلام:

ضلَّ عن سرِّ النَّبيَّ المسلمُ موثناً قد صارَ هذا الحرمُ

الخطورة في مشاركة المخالف في المنطلق

وبعد هذا هل يجوز لنا أن نلمس بعض مفاهيم المسلمين؟!

إن من أخطر هذه المفاهيم ؛ مشاركة المسلمين الذين يريدون الإصلاح على أساس الإسلام، مفاهيم الذين يريدون أن يجدوا سبيلاً للإصلاح معرضين عن الإسلام.

فالإسلاميون وغير الإسلاميين، وكل الأشخاص الذين يعيشون في الجو الثقافي الذي نحن فيه، والذين لا يرضون عن الأوضاع الحالية عامة، لا يرون إمكان تغيير الأوضاع بغير الانقلاب السياسي المسلح.

إنني أخاف هذا الرأي وهذا القاسم المشترك لكل الذين يتبنون هذه الفكرة، وكل الذين لا يرون غير هذه الطريقة، وإن كانوا لا يتبنونها أو لا يريدون أن يَصْلَوْا حَرَّها.

تقديم دور القوة في التغيير يجمد عمل الفكرة

وقد يقول بعض الإسلاميين، إنهم ليسوا كذلك، ولكن الواقع يدلُّ على أنهم، وإن كانوا لا يتبنونها، إلا أن تجمد فاعليتهم يدل على أنهم لا يزالون يتصرفون تصرف من سلوكه لا يزال تحت ضغط مثل هذه الأفكار.

سبب عجز المسلم عن مواجهة الأمر بصراحة

إن المسلم الآن يعجز عقله عن أن يواجه هذه القضية بوضوح وصراحة، فهو يشعر أنه خذل الإسلام إذا صرح أنه ليس من شأنه أن يستخدم القوة في معالجة مشكلة المجتمع الإسلامي، بل إنه يشعر، إن صرح بهذا، أنه تنازل عن عزة المسلم واستعلائه، وأنه قد بخع الإسلام في نفسه، إذ صار عدم التصريح بهذا مرتبطاً بالرجولة والشجاعة وكرامة النفس.. إلخ، فهذا الشعور هو الذي يمنعه أن يهيئ لنفسه الوضع الذي لا يمكن للآخرين أن يتهموه بمثل هذه التهم.

فعدم تهيئة هذا الجو، هو الذي يُمكن ُ من يريد أن يلصق بالمسلمين ما شاء من التهم ويشل نشاطهم. والحق أن الإسلام لديه القدرة على البقاء والاستمرار في كل الظروف، فعدم الاستمرار في كل الظروف ليس من طبيعة الإسلام، ولكن من طبيعة المسلم التاريخي الذي يعيش الآن.

حرمان المسلم من القدرة على التصحيح

إن المسلم يعجزان يراجع نفسه، وينظر في أعماله وتاريخه نظر من يعرف معنى الاعتبار بأعمال الإنسان، فهو محتفظ بعوامل إخفاقه، وليس لديه القدرة على مواجهة ذلك مواجهة صحيحة،بل إنه فقد معنى التوبة ؛ معنى القدرة على أن ينقذ نفسه، وأن يشعر بالخطأ لتكون لديه القدرة على تصحيحه.

اعتبار النقد عيباً وتشهيراً وأذكر هنا ما قاله مالك بن نبي عن النقد الذاتي:

«.. أنه ليس مجرد النجوى المحدودة التي تقوم فيها بِمُسارَّة الزميل المجتبي ضمن خلوة حميمة، ولكنه الإعلان المشهود عن الخطأ على رؤوس الملأ»(1).

إنه القاسم المشترك الذي يميز الإنسان المتخلف عن الحضارة الإسلامية.

فهذا الخلف محكوم بهذا الطابع العام الذي يشترك فيه مع من ينازعهم.

فإذا أمكننا أن نعلم الطريق الشرعي، وسنة الله الحقيقية لطبيعة العلاقة بين الأمم ومسيري أمورها، عرفنا كيف نسلكها.

وإذا كنا نتبنى الطريق الشرعي الطبيعي، ولا نريد أن نحيد عنه، فإننا نحج كل أولئك الذين يريدون أن يجعلوا هذه العلاقة على طريقة غير شرعية.

وإذا كنا نعتبر محاولة غيرنا سلوك الطريق الذي سلكوه، محاولة غير شرعية، وكنا ننتقدهم، لكان الواجب علينا أن نسلك طريقاً غير هذا للوصول إلى حيث نحن.

إذن فالذين يتبنون هذه الطريقة طريقة الأنبياء في إنشاء المجتمع المتميز، هم الذين يجوز لهم أن ينتقدوا هذه الطرق التي تأتي الأمور من غير أبوابها، لا الذين يأتون البيوت من ظهورها.

ودعوة الله أكرم من أن يسلك بها هذه المسالك.

هذه الطريقة ليست لتفادي المحنة بل لجعل المحنة مثمرة

ثم لا أقول هذا تفادياً للمحن، ولا أقول: إن المحن لا تنزل بالمسلمين إذا لم يسلكوا طريق القوة، كيف أقول هذا والله يقول:

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) ] العنكبوت 29/2 [.

بل الذي أقول: إن المحن ستنزل، ولكن النتائج ستختلف، لأن مثل هذه الأعمال مركبات تختلف في التأثير على النفس الإنسانية، فبمقدار ما يحتوي التركيب من العناصر المختلفة عن التركيب الصحيح، يكون الخلف في نتائج استعمالاتها، فلهذا أريد أن أبعد عن هذا التركيب مواد استخدام القوة، وأزيل الشبهة التي تمكن من قابلية الاتهام بهذا. وإن كان لابد من دخول الصراع فليكن على مستوى:

(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ] البروج 85/8 [.(أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ …) ] غافر 40/27 [.

فهذا الذي أحبه لنفسي وأحبه للمسلمين وأحب أن يتأملوا فيه، ولعلي أكون قد ساهمت في تمكين المسلم من مراجعة نفسه في هذا الموضوع. فأنا أبرأ من أعمال العنف، ومن الجو الذي يمكن أن يجلب إلينا تهمة أعمال العنف، ولنا في قول الحق نعم الخلف، حتى يتميز المجتمع المسلم.

التبرؤ من أعمال العنف ليس تبرؤاً من المسلم

ثم إذا تبرأنا من عمل ما أو من موقف ما فليس معناه أننا نبرأ من المسلمين. فلقد جاء في صحيح البخاري:

أن رسول الله ص بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول الله ص، فرفع يديه وقال " «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»(1). ولم يبرأ رسول الله  من خالد وإنما ممات صنع خالد.

الاستفادة من التجارب

وإذا تحمل أحد الآلام، فإن هذه الآلام لن تذهب سدى، بل هي التي سترشدنا إلى الطريق، فإذا استخدمنا ما استفدناه من المعرفة على ضوء تجربته في تقرير اتجاهنا فليس معناه أننا لم نعد نحترمه، بل يكون عدم احترامه في أن لا تؤثر تجربته في طريقة سيرنا.

موضع المؤاخذة

ونحن لا نمثل شهود نفي والإثبات في هذه القضية، وإنما الذي نؤاخذ فيه هو ترك مثل هذا الموضوع الهام وهذه القضية الكبرى في لبس، وأن تظل معلقة، فعلى أقل تقدير ينبغي أن يعلن الرأي الصريح الذي يشعر بصدق الدعوى بيانً وعملاً من قبل قادة الرأي وعلى ملأ من الناس، ولا سيما الشباب الصغار الذين لم يتوضح لهم هذا الأمر، فهم يتبنون فكرة القوة أكثر من غيرهم، فتأكيد القادة في هذا الموضوع هو الذي سيشفي هذه العلة عند الأتباع الصغار، كما فعل الأستاذ المودودي في مناسبات مختلفة، ونذكر هنا ما جاء في الوصية التي قدمها للعاملين للإسلام حين خاطبهم في مكة المكرمة فقال:

«أيها الإخوة الكرام! وأحب في ختام كلمتي هذه أن أوجه إليكم نصيحة: هي أن لا تقوموا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف، ولا تلجؤوا إلى استعمال العنف والقوة والسلاح لتغيير الأوضاع، لأن هذه أيضاً من الاستعجال ومحاولة الوصول إلى الهدف بأقصر طريق.

وهذا الأمر أسوأ عاقبة وأكثر ضرراً من كل صورة أخرى.

إن الانقلاب الصحيح السليم قد حصل في الماضي، وسيحصل في المستقبل، بجمعيات علنية يكون نشاطها واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار لكل إنسان.

فعليكم أن تنشروا دعوتكم بطريق علني، وتقوموا بإصلاح قلوب الناس وعقولهم في أوسع نطاق، وتسَخَّروا الناس لغاياتكم بأسلحة من الخُلُق الكريم والفضيلة، وأن توجهوا كل ما يقابلكم من المحن والشدائد موجهة الأبطال، فهذا هو الطريق الذي يمكننا من عمل انقلاب عميق الجذور، راسخ الأسس، قوي الدعائم، كبير النفع، في حق هذه الأمة المسكينة، ولا يمكن لأي قوة معادية أن تقف في وجهه.

أقول: إن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها.

أما إذا استجبتم وقمتم بانقلاب بوسائل العنف، ونجحتم إلى حد ما، فسيكون مثله كمثل الهواء الذي يدخل من الباب ليخرج من الشباك.

هذه هي النصائح التي أوجهها لكل من يقوم بأمر الدعوة»(1).

سبب الإلحاح

والذي يجعلني شديد الحرص والإلحاح في هذا الموضوع ؛ هو ما توقعه في العقود القادمة، من إمكان اشتداد الصراع، وتضخم النزاع، وزيادة عجز المسلمين، وتضاعف عقُدهم وعجزهم عن مواجهتها.

فعلى الدعاة إلى لله أن يتصبروا للمسلمين، فإن الأيام القادمة ستكون سُنة الأنبياء في دخولهم حلبة الصراع وزادهم:

(رَبُّنا اللهُ) ] الأحقاف 46/13 [.

(وَمَا عَلَينا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ) ] يس 36/17 [.

روَّاد الفكر

واليوم قد صار للمسلمين رواد في الفكر، قد بينَّوا الواجبات الحقيقية وأزالوا عن سنة الله في التغيير كثيراً من الغموض الذي كان لاحقاً بها، ولكن توجيهاتهم لم تصل ولم تنتشر في الأوساط الإسلامية، وهذا ينبغي أن نقوم به.

وإذا انتقدتُ أوضاع المسلمين، فإن ذلك مما استفدته أيضاً من أولئك الرواد. وإن كان هذا الانتقاد غريباً كل الغرابة عن أجواء المسلمين وما تعودوه.

الموقف الصحيح من إنتاجهم

ومما ينبغي التنبيه إليه: هو أن الثقة التي نوليها لأولئك الرواد ينبغي أن تكون الثقة التي تثبتها الطريقة القرآنية أي الطريقة البرهانية (قُلْ هَاتُوا بُرْهَنَكُمْ) ] البقرة 2/111 [.

ولا خير في ثقة لا يشيعها البرهان، ومثل هذه الثقة التي لم يلدها البرهان هي التي تفقد قيمتها بتحويل رصيدها من البرهان إلى الشخص. أي أن وجاهة الشخص هي التي تحل محل البرهان مما يجعل الثقة قيمتها الحقيقية حتى يصير الإنسان عاجزاً عن إدراك وجه الصواب في أمور بدهية.

غير أن هذا الكلام وصفي لا يجدي إلا قليلاً في إحداث التغيير في مثل هذا الموقف، لأن ذلك يقتضي تغيير الجو الثقافي الذي يعارض الأسلوب البرهاني.

ذهان(1) القوة وقوة الفكرة

«.. في القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الأمم والشعوب علاقات قوة، وكان مركز الأمة يقدر بعدد مصانعها ومدافعها وأساطيلها ورصيدها من الذهب.

ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطوراً ملحوظاً هو أنه قد أعلى من شأن الفكرة باعتبارها قيمة دولية.

وهذا التطور لم تشعر به كثير من البلدان المتخلفة، لأن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها ضرباً من الغرام السقيم بمقاييس القوة أي بالمقاييس القائمة على الأشياء..»(2).

وصعب على المسلم أن يدرك مكانة القوة حيث خفي عليه عمل الفكرة، وأن قوة المادة إنما هي من مواليد الفكرة، وأن عكس القضية في هذا يعقد الأمور. إلا أنه عميق الجذور متشرب في النفوس منذ أن كلن يقول أبو تمام وأمثاله:

السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب

محا السيف أسطار البلاغة والتحى.. إلخ.

فهذا الذي جعل مالكاً يقول: «عقدة التخلف نصبت في طريقها ضرباً من الغرام السقيم بمقاييس القوة، والذين يملكون الذرة اليوم يعجزون عن نشر فكرتهم بواسطة القوة».

فهل يكون طن المسلم في محله، إن طن أن عجزه عن تبليغ فكرته إنما هو لأنه لا يملك السلاح؟

وفي هذا يقول صاحب كتاب (ما يقال عن الإسلام):

«.. إن حامل الذرة يضعف اليوم عن السلطان الذي اقتدر عليه آباؤه وأجداده بما دون ذلك من عدة قاطعة، وحيلة واسعة. ولو لم تكن عبرة من عبر الحكمة الإلهية لكان سلاح الذرة أولى بتحكم الغرب في الشرق وسيادة الأقوياء على الضعفاء من أسلحة القرن الغابر والذي قبله، وهي في جانب القذيفة الجهنمية أضعف من العصا في جانب السيف.

وحين يذكر الأقوياء أنهم نسوا أن الضعيف المغلوب إنسان، فذكروا ذلك مكرهين يوم بلغوا بالسلاح غايته من القوة والجبروت، فهم يستعيدون اليوم نعمة الإنسانية على أنفسهم كما رضخوا بهذه النعمة للضعفاء وعجزوا عن سلبهم إياها في عصر الذرة والصاروخ ا هـ»(1).