مصفاة أهل الذكر

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

أريد أن أتقدم بالأفكار إلى مناطق أبعد مما كنت أتناولها عندها، وإلا فإن الأفكار التي تظل في مكانـها لن تعطي لنا مردوداً أفضل، والفكرة التي أريد لها الحركة هي فكرة الشريعة، وأقصد بـها المعاملات بين الناس وسبق أن ذكرت أن شريعة الله وحكم الله هو العدل بين الناس (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، ولكن إذا اختلف الفقـهاء أو أهل الذكر أو المجتهدون … الخ في تصورهم للعدل فإنـهم إذا اختلفـوا في تحديد ما هو العدل في قضية من القضايا فليس اجتهاد أحدهم هو الذي ينبغي أن يفرض على الناس، فبعد أن يحدد الحكم العدل ويصير قانوناً فهناك القضاة ينفذون ذلك العدل، من ها نشعر بالحاجة إلى تحديد أهل الذكر أو الاجتهـاد، فإن أهل الذكر الذين يأمرنا الـله بسؤالهم حيث يقول (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وأهل الذكر هم الاختصاصيون كُل في مجاله والمجالات تتعدد، ولكل مجتمع أهل ذكره مهما كان مستواهم، المهم أن المجتمعات تعرف أهل ذكرها مهما كانت معرفتهم نسبية، فإذا تداول أهل الذكر أي موضوع بالدرس والبحث فما يختاره جمهورهم –أي أغلبيتهم- على أنه هو العدل أو الأقرب إلى العدل هو الذي يصاغ في قانون يحكم به في المحاكم، إلا أن رأي جمهور أهل الذكر لا يبقى كماً جامداً خلال التاريخ، فالعدل يترقى ويزداد بدون توقف في معادلة ديناميكية صاعدة.

فقد كان حكم قتل الأسرى واسترقاقهم وارداً في عصر من العصور، ولكن ذلك تجاوزه الناس. ولما نقول جمهور أهل الذكر أو أغلبيتهم مهما كانت هذه الأغلبية، فما اتفق عليه جمهور أهل الذكر هو الذي يصير قانوناً ولو كان سيتجاوزه الذين سيأتون من بعدهم، وقد يكون هذا الذي سيأتي ويوافق عليه الجمهور في المستقبل رأياً فردياً أو رأي الأقلية، فإذا كان الإجماع مصدراً من مصادر التشريع عند كثير من المسلمين فإن ما هو أقرب للإجماع يأخذ حكم التشريع الذي يعمل به.

إلى هنا ربما تكون الأمور واضحة ومقبولة ولكن الشيء الخفي هنا هو أن هذا الأمر ليس الذي كان يحدث خلال التاريخ، وإنـما كان يُفرض على الناس من قبل السلطات الإكراهية أراء بعض الفقهـاء المجتهدين، ولم يحدث بعد الحكم الراشدي أن كان هناك أهل ذكر أو أهل شورى للبت في القضايا، ولقد غُيب أهل الذكر فصار فقيه السلطان هو الذي يفرض رأيه على الناس، وحسبك قصة أحمد بن حنبل شاهداً، وحتى كان لا يولى القضاء إلا من كان على مذهب السلطان، وقد استمر هذا الأمر وحذف من تاريخ المسلمين مؤسسة أهل الذكر أو أهل الشورى أو العلماء الذين تثق بهم الأمة وتختارهم لهذه المهمة. إن مؤسسة أهل الذكر والشورى وئدت في وقت مبكر بعد أن صار الحكم في العالم الإسلامي حكماً جبرياً هرقلياً وكانت مؤسسة السلطان والمقربون إليه هم الذين يفعلون ما يريدون، ولم تترسخ مؤسسة أهل الذكر والشورى في العالم الإسلامي ولم يكن للعالم الإسلامي إلا أن يخضع لحكم القاهر ومؤسساته المصنوعة على المقاس الذي يريده السلطان.

واليوم حين يعرض المسلمون فكرة الشورى وان الأمور ينبغي أن تكون شورى بين الأمة وبين أهل الذكر والاختصاص والشورى من الأمة يقال لهم: ما هذه الشورى التي لم يكن لها وجود في يوم من الأيام؟! لاشك أن اختيار السلطان ينبغي أن يكون من قبل الأمة وما يثق به جمهورهم الأعظم هو الذي يصير سلطانا، فإن هذا الأمر لم يكن معروفاً في التاريخ ولا عند الأمم ولقد جاء الإسلام بهذا بوضوحٍ فاقع ناصع، مهما كان زمن تطبيقه قصيراً، فإن فكرة أن السلطان إنما يختاره البشر وليس يولد سلطانا ولا هو وراثة في ذريته أو أسرته هذا راسخ في الفكر الإسلامي لا يمكن أن يمحوه أحد كفكرة ولكن تطور البشر أبرز هذا الجانب في العالم فصار التوجه العام للبشرية قاطبة أن الحكم لا يأتي بالإكراه، وأنها ليست وراثة، مهما بقي في أطراف الأرض من لا يزال يعيش العهد القديم ولم يتمكنوا من تفهم العهد الجديد أو العهد الحديث في تاريخ الإنسان، فهذه النقطة هي التي أريد أن أدفع البحث فيه وإليه وأن الوصول إلى هذا أيضا لا يشترط له ممارسة العنف والإكراه والحرب بل يمكن أن يحدث هذا سلمياً، وبشكل لا يخسر فيه أحد شيئاً لا مالاً ولا سلطاناً ولا أرضاً بل يربح الجميع ويزدادون، والآن يحدث هذا في الأرض وأمام أعيننا فإن الأوربيين يتحدون على هذه الطريقة بحيث لا يخسر أحد منهم شيئاً لا نفساً ولا مالاً ولا قرابين بشرية ولا أتاوات مالية وإنـما يزدادون غنىً وأمناً وسلاماً فيما بينهم، وهذا ممكن عندنا نحن في العالم العربي، والمهم في الموضوع أن يحصل عندي تصور صحيح راسخ في نفسي أنا بالذات ولقد وصلت إلى ذلك ولكن لا أشعر أني وصلت إلى الوضوح لأنقل هذه القناعة إلى الآخرين، لا أعني السلاطين، ولكن إلى الناس العاديين الذين يعنيهم هذا الموضوع، فإذا تمكنت من نقل هذه الفكرة إلى الناس وأقنعتهم بها فإنها ستتحقق فعلاً في واقع الأرض، المهم أن تتحقق هذه الفكرة في جماجمنا أولا قبل أن تتحقق على واقع الأرض، وأنا موقن أن الفكرة حين تصح في أذهاننا كبديهة لاشك فيها ويصير لنا قدرة على نقلهـا إلى الآخرين لا أحد يستطيع أن يمنعنا من الحديث فيها، لأنها لا خسارة لأحد في العالم من هذا الذي نريده، إن علاقات الناس وتبادلهم المصالح يكون لصالح الطرفين، فمن أيام بدء الزراعة وتقسيم العمل اضطر الناس إلى تبادل إنتاجهم وهذا التبادل لصالح الطرفـين، إلا إذا أراد أحدهم البغي في الأرض والسلب والنهب.

وأنا لا أريد أن أسلب أحداً شيئاً وإنما أريد أن أكشف امكان تبادل المصالح لصالح الجميع وليس لأحدهم فقط، ومن رفض هذا فأنا لا أنزعج منه أيضا لأنه لا قدرة له على أن يفعل ما يريد إلا إذا وافقته عليه، وأنا لي الحق على عدم الموافقة على الخطأ، أنا أقبل التعاون على البر والتقوى وارفض أن أتعاون على الإثم والعدوان، والآخر لا يتمكن من تنفيذ إثمه وعدوانه إلا إذا تعاونت معه، فمن هذه الفكرة يظهر لنا أن الإنسان لا يمكن أن يظلم إلا برضاه ـ وهذا الذي ينبغي أن يقال فيه ألف مقال حتى يتوضح ـ ونكون بهذه الرحلة الموجزة المخلة في الإيجاز وصلنا إلى الفكرة الأساسية القرآنية، وهي أن المشكلات التي تضرنا ترجع إلى أنفسنا وليس إلى الذين نعتبرهم أعداءنا، لأن الله والرسول وآدم وزوجه وإبليس الشيطان الجميع اتفقوا على أن المشكلة عندنا نحن البشر الذين نعتبر أنفسنا مظلومين، وليست المشكلة عند الله ولا رسوله ولا عند الشيطان ولا عند الظالمين من استعمار ويهودية وصليبية وماسونية وما وما.. الخ وما خلق الله وما سوف سيخلق.

إن المشكلة عندي أنا بالذات الذي صرت ألمح هذا وأعجز عن توضيحه وكذلك عند كل المظلومين الذين ينبغي أن تبلغ إليهم رسالة الله ورسالة المرسلين ورسالة آدم وزوجه واعتراف الشيطان، هذا الموضوع ألح عليه ولن يقر لي عين حتى أؤسسه وأوضحه وأجليه، يقول الله (هو من عند أنفسكم)، (ما أصابك من سيئة فمن نفسك). والرسول (ص) يقول (من وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ونحن عندنا استعداد أن نلوم كل أحد ما عدا أنفسنا. وآدم وحواء قالا لـله رب العالمين لما قال لهما (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) قالا (ربنا ظلمنا أنفسنا) ومع أن الله يقص علينا في القرآن أن الشيطان أغراهما وأغواهما، ولكن آدم وحواء لم يذكرا أبدا دور الشيطان وإنـما اعترفا بدورهما فقط، ولهذا استخلفهما في الأرض. أما الشيطان إبليس فيقول الـله عنه أنه يوم القيامة سيقول الشيطان لنا:(ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) إن هذه فكرة عملاقة محكمة الأطراف، على أن الإنسان المستخلف في الأرض لن يتمكن الشيطان من أن يحمله على قبول الخطأ والوقوع فيه إلا برضاه.

ربـما هذه الفكرة واضحة من ناحية القرآن والسنة والتاريخ والغيب، ولكن علينا أن نراها واقعاً بجلاء في ممارسة البشر في واقع الأرض في آيات الآفاق والأنفس ليتواطـأ علم الغيب مع عالم الشهـادة، فهذا الذي أريده وأدندن حوله وسأظل أدندن حوله بلساني وقلمي ماداما يقدران على الحركة فلهذا نريد أن نخرج من مِلَـلِ الإكراه على كثرتهم إلى ملة الإقناع على قلة أتباعهم، فإن لهم المستقبل ولن يصح إلا الصحيح، وسيذهب الزبد جفاءً وسيبقى ويترسخ ما ينفع الناس وسيكشفُ الناس هذا تحت ضغط التاريخ الذي يعاقب المغفلين كما يعاقب المجرمين، فإذا تعلمنا دروس التاريخ فسوف لن نكون من المغفلين كلا ولن نكون من المجرمين.