ما لم يسمع به أو لم يفكر فيه

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

المجتمعات تنتج ثقافة تغيب أشياء بحيث لا يسمع أحد بها، وهذه التقنية تقنية تغييب أفكار، أو أحداث أو قرارات اتخذت سراً بحيث لا يشعر بها أحد، ولكنها تؤثر في حياة المجتمعات والأفراد أكثر من كل الأشياء المطروحة للبحث، والتداول الى درجة الإملال، فكيف يمكن الدخول الى هذا العالم المظلم المستبد؟، المحاط بكل السدود والجدران العالية التي تحمي هذه المواضيع؛ ولتقريب هذا الموضوع، ربما نستطيع أن نضرب مثلاً: كيف أن الأفراد يخفون ويستبعدون من تاريخهم بعض الأحداث التي لا يريدون أن يعرفها الناس من حياتهم، وكيف يتحدثون بالأحداث المشرقة أو الناجحة من تاريخ حياتهم؟ ويعلونها الى درجة الإملال، بحيث قيل إن شخصاً كان يتحدث الى صاحب له عن نجاحه في معركة من المعارك، ثم أوصى لصاحبه هذا بمال كثير من تركته، فلما سئل لم فعل هذا ؟قال: إنه قد قص على صاحبه مرات عديدة عن المعركة التي نجح فيها، وكان صاحبه هذا يستمع إليه كل مرة كأنه لم يسمع بها أبدا من قبل، ربما نستطيع أن نفهم كيف أن الأفراد يتحدثون عن نصف تاريخهم فقط؟ وأن تاريخا آخر في الظلام، ومغيب وأنه لا يتحدث عنه إلا أعداؤه. لكن يمكن أن ننقل هذا الوضع الفردي إلى الأقوام والمجتمعات والحضارات؛ فإنها تكتب تاريخها بهذا الشكل أيضا، فهناك مواضيع محذوفة من التاريخ، ومواضيع أخرى بارزة مضاءة، ويمكن أن يظهر مثل هذا الإبراز والإخفاء في أحداث معينة، والدراسات الحديثة بدأت تكشف مثل هذه الأمور، وربما في عصر آخر يتحول الموضوع إلى أحد الطرفين.

فمثلا: كانت الحضارات القديمة في لقائها بعضها ببعض وتبادلها المعرفة كان معترفا بها فيما سبق في عهد اليونان القديم، كيف لم يكونوا يخفون صلتهم بالحضارات الشرقية والاستفادة منها؟، كانوا يذكرون ذلك بدون غضاضة ،ولا شعور بالنقص. ولكن الحضارة الحديثة التي حاولت أن تبرز نظافة نسبها الحضاريَّ ينكرون هذا الذي كان يعترف بها الأسبقون من غير أي شعور بالنقص، بينما يحس البشر الحاليون الذين ينتسبون إليها بضرورة تغييب هذه الصلة ، وهذا التبادل، ويبدأ التغيير بشيء من الاستحياء، مثلما يحاول أحفاد الحروب الصليبية الاعتذار عما فعله الآباء قبل عشرة قرون. أو إصدار لرفع تهمة الهرطقة عن جاليليو بعد أربعة قرون على اتهامه بالمروق من قبل الكنيسة ،أو اعتذار أمريكا عن سلوكها في دولة التشيلي قبل ثلاثين سنة، وكيف أن أسرار الدولة أو الاطلاع على الأحداث التي قامت بها، يفرج عنها بعد مدة من الزمن، ويصير الاطلاع عليها مباحا ويرفع عنها المنع من الاطلاع عليها، وكيف أن السير الذاتية الجريئة التي تتحدث أصحابها عن حياتهم الخاصة تعتبر جرأة أدبية يغبط عليها أصحابها الأقدمون؟، إن القدرة على الاعتراف يعتبر نموا في شخصية الفرد ودلالة على الرشد في مستوى الثقافة والحضارة، وأن الشخص لا يصل إلى هذا وكذلك الحضارة إلا بعد النضج،وأن يعترفوا ببشريتهم وأنهم بشر تاريخيون عاشوا مراحل تنـزيه الذات أو تنـزيه الآخر، وأنهم أبناء الله وأحباؤه،ولكن هؤلاء الذين ليس لهم قدرة على النضج في مرحلة معينة لا يكون هذا من ميزاتهم بل من نقصهم، لأن هذا الوضع القاصر يحول بينهم وبين التخلص من تزييف التاريخ وينـزهون التاريخ الماضي والآباء فيقعون في العجز عن التخلص من النقائص التي تكون سببا في عجزهم عن التكيف، ويطول بهم زمن المعاناة والخروج من القصور إلى الرشد والوعي.

ومن سبيل هذا الموضوع في الإبراز والإخفاء، من أن رجلا جاء للرسول (ص) ومعه شخص من زعماء القبائل، فعَّرف هذا الرجل رسول الله بزعيم القبيلة،وذكر من صفاته الحميدة كماً كبيراً، ولكن زعيم القبيلة رأى أن في هذا التعريف قصوراً وإخفاءً لمحامد يتميز بها ولم يذكرها المعرف، فقال زعيم القبيلة لرسول الله يا رسول الله: إن هذا الرجل يعرف مني من الصفات الحميدة أكثر من هذا ولكنه يحسدني فلم يتحدث إلا بما قاله فهنا عز على الرجل الذي عرف زعيم القبيلة هذا الموقف المغرور، فبدأ بتعريفه مرة أخرى لا بمحامده وإنما بنقائصه فذكر أشياء من مذمات هذا الزعيم فظهر للرجل أن الرسول (ص) كأنه كره هذا التقلب بالمدح والذم، فقال الرجل: يا رسول الله ،والله إني صدقت في الأولى، وما كذبت في الثانية، رضيت عنه فذكرت أحسن ما أعرفه فيه، ثم سخطت عليه فذكرت أسوأ ما أعرفه فيه، فقال رسول الله: إن من البيان لسحرا، إننا في حاجة إلى نوع من البيان الساحر، لتناول تاريخنا دون أن نشعر أننا أجرمنا بحقه، ودون أن نشعر بأننا لن نكون أسوياء إلا إذا تبرّأنا من ذاتنا، وإلا فلماذا نكثر من الحديث عن السلام مع إسرائيل إلى درجة الغثيان، ولا قدرة لنا على تناول الحديث في السلام بين العرب أنفسهم، لم هذا الموضوع مستبعد عن التفكير فيه؟. لماذا لا قدرة لنا على الكشف وتناول الموضوع في أعماقه؟ وما هو الجدار المسدود الذي نصل إليه، والحد الفاصل الذي تعجز قدرات مفكرينا عن إمكانية علاجه؟ ما هو نوع الأشعة التي تكشف المخبأ في أعماقنا؟، حتى إن الذين ينتقدون الذين يسارعون الى السلام مع إسرائيل ليس عندهم بديل حتى انهم لا يطرحون بجدية أن يكون البديل هو الدعوة الى السلام بين العرب، لماذا السلام بين العرب مستبعد ومحير وصعب بحثه وتناوله سبب ذلك أن هناك قراراً آخر صعباً اتخذه العرب والمسلمون حين فقدوا الرشد، وهذا القرار الضمني غير المعلن عنه في معاهدة أو وثيقة أقوى وأرسخ من أي معاهدة يوقع عليها جميع الأطراف، ثم لا يكون لهذه المعاهدة أي شعور بالالتزام بها، لأن القرار الضمني الذي اتخذ منذ تاريخ طويل؛ ترسخ في أعماق الثقافة والالتزام به، هو أن تكون الاستعادة بالقوة وليس غير القوة، وسدت أمامهم كل السبل والطرق لالتزام أي معاهدة، فكل المعاهدات لا قيمة لها ولكن الذي له قيمة هو أن تملك القوة التي تمكنك من نقض العهد، فنقض العهد لا غضاضة فيه. لإزالة الغي، فهذا راسخ رسوخاً لم يتزلزل أركانه بعد، بل يتمتع بمصداقية فالذين يجيزون أن لا يكون هناك عهد في مهادنة الباطل، لا يمكن أن يكون عندهم عهد، كيف يكون للمشركين عهد؟.

الى الآن لم نتمكن من كشف خريطة التيه الذي دخلنا إليه حين أجزنا الإكراه في الدين والإكراه في السياسة، وأن لا محرم على القوة، لأن الحق هو القوة، وليس غير القوة، ومثلما الآن لا قدرة لنا على تصور إمكان معاهدة يوثق بها بين العرب، كذلك ليس عندنا قدرة على تصور العهد النبوي والراشدي الذي لم تكن فيه القوة هي الحكم الأخير، بل إن القوة والإكراه هو الذي له الصدارة في التصور ولا قدرة لنا على تصور غير ذلك، فكيف يمكن للحمل أن يعيش في عالم الذئاب؟ لهذا فسرنا النهي النبوي عن الدفاع عن النفس في عدوان المشركين على المؤمنين، بأن ذلك بسبب ضعفهم وعجزهم، لا أنهم كانوا يضعون إستراتيجية المجتمع الإنساني الذي يُصنع بدون إكراه البتة. فهل يمكن أن نتصور ذلك؟ لا. لا يمكن أن نتصور ذلك! وأنا لم أر من يمكنه أن يتصور ذلك! فمن هنا لا يمكن أن نتصور السلام بين العرب، لأن أساس السلام مفقود منذ زمن بعيد، نحن نعرف ونعرض العدوان الذي صدر من قريش على الرسول وأصحابه، وأن الرسول وأصحابه لم يدافعوا عن أنفسهم عن قصد، وأمر من الرسول والتزام صارم به بحيث لم يشذ أحد من أصحابه عن ذلك، وذهب الى المدينة ولم يكن معه جيش ولكن استقبله الناس المسيطرون على الحل والعقد والشعب العادي والنساء والبنات استقبلوه طلع البدر علينا، ولم يكن مارس احد من المسلمين عدواناً على معتدٍ فحين نفهم هذا، ونفسر ذلك نستطيع أن نفسر، لماذا السلام بين العرب لا يتصور إمكانه أحد!. ولكن الذي أريد أن أطرحه الآن هنا فكما لا يمكن أن يكون سلام بين العرب، لا يمكن أن يكون في العالم العربي ديمقراطية! لماذا هذا؟ في العلاقة بين السلام والديمقراطية لأن الديمقراطية أيضاً قبول بالحل السلمي للسياسة لأن الديمقراطية لا تدخل بلداً يكون فيه من يمكنه أن يتصور إمكان صنع السياسة بالإكراه، فهل يمكن أن نفكر في هذا؟ أنا اعتقد ذلك.