لتحقيق التغيير لا بد من تغييرين

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

حتى يغيروا ما بأنفسهم


Change.gif
تحميل الكتاب
مقدمة مالك بن نبي
مدخل كتاب حتى يغيروا
سنة عامة للبشر
سنة مجتمع لا سنة فرد
سنة دنيوية لا أخروية
في الآية تغييران
مجال كل من التغييرين
الجانب المهم هو التغيير الذي يقوم به القوم
ما بالقوم نتيجة لما بالنفس
لتحقيق التغيير لا بد من تغييرين
مفهوم التغيير عند الآخرين
علم النفس الفردي والاجتماعي
العلاقة بين سلوك الإنسان وما بنفسه
ما بالنفس يتفاوت في الرسوخ
كيف تلقى السنن القبول عند المسلمين
العقل والسنن في القرآن
يظهر أثر ما بالنفس ولو كان ما بالنفس وهماً
الفعل والانفعال
المنهج والتطبيق


لتحقيق التغيير لا بد من تغييرين: تغيير القوم ، وتغيير الله ، لا بد من توفرهما جميعاً ، ليتحقق التغيير .

عمل الإنسان وخلق الله

كما لابد من أسبقية التغيير الذي يحدثه القوم . ألا أن بين هذين التغييرين ترابطاً ، فإذا وقع التغيير الذي يخلقه الله ، دلَّ ذلك قطعاً على أن التغيير الذي يقوم به القوم ، قد سبق أن حدث ، لأن الله تعالى اشترط هذه الأسبقية .

كما أنه إذا تحقق التغيير الذي يقوم به القوم ، فإن التغيير الذي يخلقه الله سيتم على أساس وعد الله تعالى الذي لا يخلف الميعاد وسنته التي لن تجد لها تحويلا .

ولكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا التعهد إنما هو في مجال القوم - أي الجماعة أو المجتمع - لا في مجال الفرد ، وفي مجال الدنيا لا في مجال الآخرة . كما أنه لا يلزم أن يحدث التغيير للفرد الواحد إن غير ما بنفسه ، وإن كان يمكن أن يحدث ذلك في بعض الأمور الخاصة مثل السلوك الفردي ، وعلى كلٍ فإن هذا الوعد أو هذه السنة في هذه الآية سنَّة اجتماعية ، لا سنَّة فردية .

وعلى هذا الأساس ، فكل تغيير يحدث لما بالقوم سواء في الوعي ، والصحة ، والاقتصاد والسياسة والنصر والعزة ، وسائر صنوف النعم والنقم ، يتضمن هذا التغيير ، تغييرين : تغيير القوم ، وتغيير الله .

وبعد بيان هذا التلازم بين التغييرين ، في أن حدوث أحدهما يلزم حدوث الآخر كنتيجة حتمية ، لأن الله هو الذي خلق هذه النتائج من تلك الأعمال ، وأن حدوث هذه النتائج فورية ، كسنن الطبيعة التي أودعها الله في الكون المادي . فالإنسان هو الذي يفعل الأسباب بتمكين من الله تعالى له :

« ولقد مَكنَّاكُم في الأرض » الأعراف - 10 - .

والله تعالى هو الذي يخلق النتائج ، لأن الإنسان لا قدرة له على خلق النتائج ، وإنما مجال الإنسان يتمركز في الاستفادة من السنن الموضوعة .

ويمكن أن نفهم هذا الموضوع بوضوح في قوله تعالى :

« أفرأيتم ما تُمْنُوْنَ أَأَنْتُم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟ .. أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أن نحن الزارعون ؟ » الواقعة - 64 .

هنا أثبت الله للإنسان عملاً ، وأثبت لذاته خلقاً ، ولكن هذا لا يتم إلا إذا عمل الإنسان ما يخصه من العمل مهما كان تافهاً .

« أفرأيتم ما تُمْنُوْنَ » إن الإنسان يقوم بهذا ، ولكن ليس هو الذي يخلق ، ولا هو الذي وضع السنن ، والذي يقوم به الإنسان شيء بسيط ولكن الله تعالى يحدث هذه النتيجة - من الخلق العجيب - من ذاك العمل البسيط .

« فتبارك الله أحسن الخالقين » المؤمنون - 14 - .

وهذا مثال مقرب في التمييز بين عمل الإنسان وخلق الله . وكذلك الزرع ، فإن الإنسان يغرس ولكن سنة الإنبات ، وسنَّة صنع الثمار ليست من قدرة البشر ، وإنما يقوم الإنسان هنا أيضاً - كما في كل الأمور التي يقوم بها - بعمل بسيط جداً مثل غرس النبات ، والله بعد ذلك هو الذي يخلق تلك النتائج البديعة . فهذا مثل قرآني قريب واضح لكل واحد من الناس ، ويمكن لأبسط إنسان أن يمارسه لأنه يقع تحت ملاحظته . وهذا المثل القرآني يُطمئِنُ قلب المؤمن إلى صدق هذه القاعدة ، ذات الأهمية البالغة فيما أنيط بالإنسان من أمانة ومسؤولية في مصيره كمجتمع في الدنيا ، وفي مصيره كفرد في الآخرة .

طريقة القرآن في ذكر التغييرين أو أحدهما

وبعد هذا نقول : إن ما ورد في القرآن من حديث عن التغيرات الاجتماعية التي تقع للمجتمعات ، لا يذكر الله دائماً في كل موضع التغييرين ، وإنما شأن القرآن أن يذكر أحياناً التغييرين معاً كما في هذه الآية :

« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » .

وآيات أخرى كثيرة مبثوثة في القرآن مثل قوله تعالى :

« فبما نَقْضِهم مِيثاقَهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية » المائدة - 13 - . شيء أحدثوه في نفوسهم من الاستخفاف بالميثاق فنتج عن ذلك أن جعل الله قلوبهم قاسية .

وكذلك قوله تعالى :

« فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم » الصف - 5 - .

ففي هذه الآيات جمع الله بين عمل القوم وما خلق الله فيهم نتيجة ذلك . ولكن قد يرد في القرآن أحياناً ذكر أحد التغييرين دون الآخر ، سواء كان المذكور التغيير الذي يخلقه الله ، أو التغيير الذي يحدثه القوم ، ويفهم من ذلك ضمناً التغييران معاً إذ الترابط بينهما واضح . فمثلاً في قوله تعالى :

« والله لا يهدي القوم الظالمين » البقرة - 258 - .

في هذه الآية ذُكر التغييران ، التغيير الذي يخلقه الله تعالى من عدم الهداية ، والتغيير الذي يحدثه القوم من نظراتهم التي تُهوِّن عليهم ارتكاب الظلم ؛ أي أن الله لا يغير ما بقوم من الضلال ، حتى يغير القوم ما بهم من الظلم ، أو ما بأنفسهم من الظنون والأفكار التي تسهل عليهم ارتكاب الظلم .

والذي يريد أن يجعل من هذا القاعدة القرآنية ، قاعدة مطردة ، عليه أن يستحضر دائماً - وخاصة حين يكون الحديث عن المجتمعات وما يحدث لها - تَضمن التغييرين في كل موطن يتوهم فيه الاقتصار على أحدهما .

فإذا جاءت آية تقول : إن الله أنعم على قوم ، وأعزهم ونصرهم ورزقهم من الطيبات ، فمعنى ذلك أن عند هؤلاء الأقوام في أنفسهم ما يوجب ذلك ، وكذلك الأمر بالنسبة لما يحيق بالبشر من النقم ، وما ينزل عليهم من المصائب فلا ينزل شيء إلا بإذن الله ، وإلا بما كسبت أيدي الناس .

كيف بين هذا ابن كثير في التفسير

وهذا الاستحضار الذي حرصنا عليه ، هو نفس ما دعا إليه وفعله ابن كثير في تفسير قوله تعالى :

« ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة » البقرة - 7 - .

فسرَّ ابنُ كثير الخَتْمَ : بالطبع نقلا عن السُدِّي ثم قال : وقال ابن جرير وقال بعضهم : إنما معنى قوله تعالى : « ختم الله على قلوبهم » إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق . كما يقال : إن فلاناً أصم عن هذا الكلام ، إذا امتنع عن سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبراً . وقال ابن جرير : وهذا لا يصح لان الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم . قلت : - يعني ابن كثير نفسه - وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما ردَّه ألن جرير هنا . وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفةٌ جداً ، وما جرَّأه على ذلك إلا اعتزاله ، لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيحٌ عنده ، يتعالى الله عنه في اعتقاده . ولو فهم قوله تعالى : « فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم » الصف - 5 - .

« ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون » الأنعام - 110 - .

وما أشبه ذلك من الآيات الكريمات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم ، وحال بينهم وبين الهدى ، جزاءً وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحقَّ ، وهذا عدلٌ منه تعالى وحَسَنٌ ، وليس بقبيح . فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال ، والله أعلم .

وقال القرطبي : « وأجمعت الأمة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازة لكفرهم … » .

وهذا التحليل الذي رد به ابن كثير على الزمخشري ، يُقررُ بوضوح القاعدة التي نريد أن نثبتها هنا ، من أن الختم الذي هو من عمل الله ، نتيجة طبيعية للزيغ والكفر ، الذي فعله الإنسان بناء على ما بنفسه . وعلينا أن نتذكر هذه العلاقة في كل موطن .

وكما أن القرآن أحياناً أخرى يذكر عمل الله وعمل القوم معاً وبوضوح وتفصيل ، فهو أحياناً أخرى يقتصر على أحدهما ، على أساس أنه يستلزم حدوث الآخر ضمناً ، وهذا ما ذكره ابن كثير ، حيث أن هذه الآية اقتصرت على ذكر عمل الله في الظاهر . لهذا استشهد بآيات أخر ذُكر فيها العَمَلانِ بالتفصيل .

ومن الآيات التي توقع في شبهات كبيرة - وذلك حين يَغْفُلُ الإنسان المسلم ، عن هذه العلاقة بين تغيير الله وتغيير القوم - قوله تعالى :

« قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير » آل عمران - 26 - .

مشيئة الله ومفهومها ورأي ابن تيمية

ففي هذه الآية لم يذكر الله إلا إيتاء الملك ونزع الملك ، وإيتاء العزة وإنزال الذل ، وقد ربط هذه الأمور بالمشيئة دون أن يذكر عمل الإنسان . ولكن مشيئة الله ليس لنا أن نحددها نحن ، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدد ذلك فهو يقول :

« وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً ، يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً » الإنسان - 31 - إنه يدخل من يشاء في رحمته ، ولكن الظالمين أعد لهم عذاباً أليماً .

فإذا حاول البعض أن يفسر مشيئة الله كما يريد هو ، يُردُّ عليه بأن هذه المشيئة ؛ هي المشيئة التي على أساسها وضع الله سنة الاجتماع البشري في قوله تعالى : « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » والتزام هذه القاعدة ، ورد المسلمين إليها ، أمرٌ جوهري في عملية التغيير .

كما أن من المفيد أيضاً في هذا الموضوع ، تفهم القاعدة التي يقررها ابن تيمية كثيراً ، من أن مشيئة الله قسمان :

1- مشيئة كونية .

2- ومشيئة شرعية .

فالمرض مشيئة كونية يمكن للإنسان أن يبطلها لاتخاذ الأسباب .

والزكاة مشيئة شرعية ولا يجوز مخالفتها أو التحايل عليها .

ومن الخطأ البالغ ، أن يُظن أن الله يؤتي المُلك لقوم لم يهيئوا أنفسهم لذلك ، كما أن العزة والذلة لا يوزعها الله جُزافاً . والخطأ في الموضوع منشؤه ؛ ظن أن الله مثل طغاة البشر - حتى ليس مثل عادليهم - يوزع ملكه كما يفعل الظالمون .

تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً . بل الله أحكم الحاكمين . وإظهارُ هذه الحِكْمة واجب الذين أُخذ منهم الميثاقُ حين آتاهم الكتاب أن يبينوه للناس ولا يكتمونه .

وكما قال ابن كثير عن الزمخشري لو أنه تذكر قوله تعالى : « فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم » الصف - 5 - لما وقع في هذه المشكلة . كذلك المسلمون ، الذين يقعون في رؤية مشكلة المشيئة مبتورة ، ولو أنهم رجعوا إلى السنن التي وضعها الله تعالى في قوله :

« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الرعد - 11 - بشمولها وإحاطتها ، لكان عصمةً لهم من الزيغ ، في نسبة الفوضى وعدم المعقولية إلى الله ، حين يقفون حيارى في تفسير الأحداث . ولا يغرنك منهم تنزيه الله عن النقص ، إذ أن الموضوع مشوش في أذهانهم .

ومشيئة الله هي ؛ تمكين الناس من تزكية أنفسهم وتدسيتها ، وليس تمكينهم من أحدهما فقط . وقد يأتي على الإنسان وقت يفقد فيه هذه القدرة ، بعد أن يفسدها ، فيطبع الله على قلبه ، ويعجز عن العودة والاهتداء ، فيحق عليه قوله تعالى : « ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا » الكهف - 17 - .

وهذا المعنى هو محتوى خاتمة آية التغيير في قوله تعالى :

« وإذا أراد الله بقوم سُوءاً فلا مَرَدَّ له وما لهم من دونه من والٍ » الرعد - 11 - .

وهذا واضح في حديث الفتنة التي تعرض على القلوب كالحصير عوداً عوداً . إذ يكون الإنسان في البدء قادراً على التزكية والتدسية ، ولكن بعد أن تفسد فطرته ، قد يعجز عن أن يملك دائماً تلك الحرية والقدرة على الاختيار التي كان يملكها . وصيرورة هذا الإنسان على هذا الشكل ، إنما بسعيه ، وليس لأن الله فرض ذلك عليه ابتداء .

الأفعال وليدة الأفكار

قلنا فيما سبق ؛ إن الله يخلق الصفات في المادة . ونُكَمِّلُ الموضوع الآن ، بأن نبين أن الله يخلقُ الأفعال من الأفكار . فالأفكار المشوشة تتولد منها أفعالٌُ هزيلةٌ مبتورة ، ويمكن أن نرى مثالاً واقعياً على هذا في واقع المسلمين الذين طال عليهم الأمد .

فمن تمكن من معرفة الخواص التي يخلقها الله تعالى في المواد ، يمكنه أن يسيطر عليها . كذلك من تمكن من معرفة الأفعال التي يخلقها الله تعالى مما بالأنفس ، يمكن له أن يسيطر على المجتمع . وفي الحقيقة تعتبر هذه النقطة من اعظم ما جاء به الأنبياء ، ونزلت من اجله الكتب ، وأمر من أجله بالاعتبار بسير الماضين ، والنظر إلى الأنفس . وما لم يرجع إلى المسلمين هذا العلمُ ، وهذا الفهمُ ، فستظل أعمالهم تسيطر عليها الفوضى والتدابر مع القلق والحيرة .