كيف تلقى السنن القبول عند المسلمين

من Jawdat Said

مراجعة ١٥:٣٣، ١٤ يوليو ٢٠٠٧ بواسطة Ziwar (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث

من كتاب ((حتى يغيروا ما بأنفسهم))

كيف تلقى السنن القبول عند المسلمين إن كل سنة ومثال في التغيير ينبغي أن يكون مُستنداً إلى القرآن الكريم ، لتكسب السنَّةُ فاعليتها عند المسلمين . إذ من الأمور التي تخص المسلمين في مشكلة تغيير ما بالنفس ، ولاسيما فيما يتعلق بالسنن وتطبيقاتها ، الحاجة الماسة التي ينبغي أن يراعيها من يمارس مشكلة التغيير أن لا ينسى في لحظة واحدة من اللحظات ، ضرورة ارتباط السنن والأمثلة والتطبيقات بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، من غير أن ينسى أيضاً سيرة السلف الصالح ما أمكن ذلك . كما عليه أن يكون حاذقاً في ربط الموضوع بهذه المصادر ربطاً وثيقاً ، وأن لا يمل من التذكير بكل مناسبة بمرجع سنن المجتمعات ، من آيات القرآن في الكتاب العزيز ، والسنة الصحيحة ، وتطبيقات السلف الصالح . وفي هذه المصادر لمن أحسن التعرف عليها ، مادة غزيرة تدعمه بما لا يشعر معه المصلح أنه في حاجة إلى مزيد . ولقد تنبه المستشرق صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي إلى ذلك . والأمر الذي يجعل هذا الارتباط ضرورياً – ولاسيما المرحلة الأولى – هو الحالة النفسية التي يعيشها المسلمون الآن ، والتي تحول بينهم وبين تذوق معنى سنَّة الله في خلقه . بل إن الالتباس في حاصل – بوعي منه أو بغير وعي – إن لم يسبقه أو يلحقه ما يدعمه من الكتاب الكريم والسنة النبوية . والذي يحول دون استفادة المسلمين من سنن التغيير وتطبيقاتها ، أن الذين يبحثون هذه الأمور ويمارسونها - إن كان هناك من يمارسها - لا يستطيعون ربطها بمبرراتها من كتاب الله وسنة رسوله . وذلك إما لجهلهم بالكتاب والسنة ، أو لاعتقادهم أن هذه السنن لا يعترف بها القرآن ولا السنة . بل ربما استخدموا هذه السنن لعزل المسلمين عن عقيدتهم بسبب جهلهم لحائق القرآن أو بسبب تجاهلهم لها . ولكن ما لنا ولهؤلاء الذين شأنهم هكذا ، فما بال أولئك الذين يتعلقون بالقرآن والسنة بكل ما أوتوا من حماس إيماني ، متوارث خلال العصور المديدة ! إن هؤلاء لهم مشكلة أخرى معاكسة لمشكلة أولئك ، فهم لا يعيرون اهتماماً للبحوث التي تعني بتغيير المجتمعات ، لا لأنهم لا يشعرون أن محيطهم لا يحدث فيه تغيير ، بل لأنهم إلى الآن لم يمكنهم أن يدركوا ارتباط هذا التغيير بالسنن النفسية على التغيير ، سواء في إيقاف التغيير أو إبطائه أو تغيير وجهة سيره في الجانب الذي يريدون . فمن هنا لا يخطر لهم أن يصرفوا جهداً في هذه الدراسات ، فضلاً عن أن يروا مواطنها وأصولها من الكتاب والسنة . وأهم شيء يحث عليه القرآن ومن أجله أنزل الله الكتب وأرسل هو تغيير المجتمعات . فلهذا كان الإلحاح في القرآن لينظر الناس إلى سنن الذين خلوا من قبل . والسنة (القانون) ، وهي التي على أساسها ترتفع وتنخفض المجتمعات ، وعلى أساسها يكافئ الله ويعاقب . وعلى البشر أن يتفهموا هذه السنن ، حتى ينالوا رحمة الله ويبتعدوا عن انتقامه . لهذا يقول الله تعالى : « وإن يعودوا فقد مضت سنَّة الأولين » الأنفال - 38 - أي وإن يعودوا لأعمالهم الفاسدة الناشئة عن تصوراتهم ، واعتقاداتهم الخاطئة ، فقد مضت سنَّةُ الله في نزول العقاب على أمثال هؤلاء . ويقول الله تعالى أيضاً : « ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ، وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ، كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنَّة الأولين . ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سُكرت أبصارنا بل نحن قومٌ مسحورون » الحجر - 11 - 15 . في هذه الآيات بين الله تعالى كيف أن ما بأنفس هؤلاء القوم من الأفكار ، راسخة ثابتة وجامدة ، وكيف أن نظر هؤلاء محدوداً جداً ، وأن هذه المحدودية في النظر تحول بينهم وبين أن يكون محتملاً عندهم وجود طريقة للحياة أفضل مما هم عليه . وهذا الجمود في النظر من غير برهان ولا هدى ولا كتاب منير ، يكون قوياً وصلداً كلما جهل الإنسان المواقف التي مر بها البشر السابقون أي سنَّة الأولين . ولو أن هؤلاء كان عندهم علم بأحوال الماضين وما حدث لهم ، وما كان بأنفسهم من أفكار ، وكيف ظهرت آثارها على مر الزمن ، لكانوا في جمود أقل ، وغرور غير بالغ حد اليقين ، ولكانت قدرتهم على تأمل ما جاءت به الرسل أوفر . ولكن الجهل الذي أطبق عليهم ، أعجزهم أن يروا إمكان وجود وضع أفضل مما هم عليه في الفكر والعمل ، وفي الغاية والوسيلة . وتعتبر سنَّة الماضين حسب نهج القرآن دعماً للبشر ، ومساعداً لهم في الابتعاد عن الوقوع في الخطأ مرة أخرى . وكل التجارب البشرية العريقة في القدم ، والموزعة على أقطار البسيطة ، تراثٌ من العبر لكل الناس إذا أرادوا أن ينظروا إليها . وكل الذين لا يتذكرون ما وقع فيه الماضون من أخطاء ، يكونون مُعرضين لإعادة دفع ثمن جهلهم اجتماعياً ، في حياتهم الدنيا ، كما هم معرضون لخسارة النفس في الآخرة حين يقولون : « لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير » الملك _ 10 _ . ومعنى سنَّة الأولين في الآية التي كنا ذكرناها … « لا يؤمنون به وقد خلت سنَّة الأولين . ولو فتحنا … » : غير مختص بالأولين فقط ، بل هذه السنَّة تشمل كل الذين كانوا قبلنا ، حتى الذين جاءوا بعد نزول هذه الآيات ، كما تشملنا نحن أيضاً . وسنصير يوماً ما من سنَّة الأولين لمن سيأتون بعدنا . والبشر في سيرهم ، تتراكم الأمثلة والنماذج أمامهم ليعتبروا بها ، ويستفيدوا منها . فلهذا يدخل في سنَّة الاعتبار ، الأحداث التي حدثت بع نزول القرآن ، خلال هذه العصور في كل أقطار الأرض ، سواء في المجتمعات المؤمنة ، أم الكتابية أم الوثنية .. وإدراك مثل هذه السنن وعلاقة ما بالأنفس بما يحدث للأقوام ، هو الذي جعل ولز يقول : « إن مصائب الحرب العالمية ، وما نزل بالناس من دمار وما حل عليهم من عذاب ، كانت الجزاء الوفاق لما يحمله الناس من أفكار خاطئة »(1) . والقرآن الكريم في وصفه للمجتمع الإسلامي في المدينة ، وتذكيره بسنن الذين خلوا من قبل : « لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا ، أخذوا وقتلوا تقتيلا . سنَّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنَّة الله تبديلا » الأحزاب - 60 - . إن المجتمع الذي يستطيع أن يتغلب على المخادعين ، والذين لم تطمئن قلوبهم ، والذين يشيعون روح الهزيمة في المجتمع ، إن هذا المجتمع يملك مقومات الاستمرار … « لا يجاورونك فيها إلا قليلاً » : أي أن هؤلاء مطرودون ، ولن يتمكنوا من إيقاف السير ، ولن يؤثر إرجافهم .. بل سينفون من المجتمع ويقذف بهم بعيداً . إن للصراع في المجتمع سنناً ، ومن لا يتبع السنن يخر صريعا .. ولهذا يعقب الله على وصف حال مجتمع المدينة بقوله : « سنَّة الله في الذين خلوا من قبل ، ولن تجد لسنَّة الله تبديلا » . يذكر النموذج الحاضر في المدينة ، ويشير إلى الذين خلوا من قبل ، ثم يضع القاعدة بأن هذا الحدث تابع لسنَّة الله ، ولن تجد لسنَّة الله تبديلا . إن الله تعالى حين يعرض نموذج المجتمع المدني ، لا يعرضه كحدث خاص بمجتمع المدينة المنورة ، بل إن هذا الذي حدث في المدينة ، نموذج من النماذج التي تتبع لقاعدة : « لن تجد لسنة الله تبديلا » . فكل من يريد أن يبني مجتمعاً ، أياً كان هذا المجتمع ، وأياً كان مثله الأعلى ، عن لم يسر على السنة ، وإن لم يعرف عوامل الهدم والبناء ، فلن يتمكن من إقامة مجتمع . يقول كارليل في حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم - وإن كان هدفه غير ما نريد هنا الآن - قال : « لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب ، وان محمداً خداع …. فوا أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعيم . وبعد ، فعلى من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات ، أن لا يصدق شيئاً البتة من أقوال أولئك السفهاء … ولعل العالم لم يرقط رأياً أكفر من هذا وألأم ، وهل رأيتم قط معشر الأخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره .. عجيب والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب ! »(1) . وفي العصر الحاضر نماذج من المجتمعات التي تقام حديثاً ، بصرف النظر عن قيمة مثلها الأعلى ، ولكن حتى هذا المجتمع ، لا يقوم إنْ لم يملك الفهم والعمل الكافي لحماية نفسه وتطهيرها من عناصر التخريب … « سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا » . وحين يتعلم الإنسان كيف يتعامل مع السنن ، يستطيع أن يستفيد من أخطاء ومن صواب الكافرين ، فضلاً عن المؤمنين ، وذلك إذا تمكن أن يصل إلى درجة التعامل مع السنن مباشرة دون أن تتدخل عداوة أو صداقة من سخر هذه السنن . إن هذا المستوى من الإدراك ، لا يصل إليه إلا من كانت منافذ الفهم وإدراك الصواب لديه مفتوحة ، حيث لم يتوصل التقليد إلى إغلاقها . وهذا ما يحثنا الله سبحانه وتعالى على فعله حين يصف لنا أولي الألباب : « فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب » الزمر - 18 - . والقرآن الكريم يعرض لنا الأمثلة ممزوجة بالسنن ، بالواقع المعاش ، بالعبر الماضية فانظر مثلاً إلى قوله تعالى : (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا . استكباراً في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . فهل ينظرون إلا سنة الأولين . فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا . أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) فاطر 43 - 44 . في هذه الآيات يعرض الله لنا : 1"- الدعوى : حالة قوم يؤكدون أنهم سيكونون أهدى لو جاءهم نذير ، ولما جاءهم النذير لم يكونوا عند قولهم . 2"- سبب إخلافهم الوعد : الاستكبار والمكر السيئ . 3"- مجال الكشف : ويمكن رؤية هذا الارتباط بين هذه الحالة وسببها ، بالنظر إلى تاريخ الأولين وخلال أحداث التاريخ لمن يسير في الأرض وينظر . 4"- ثبات السنة : ثم يبين أهمية السنن مجردة عن الأمثلة التاريخية حتى لا يتحول التاريخ إلى سنة ، لأن التاريخ يتبدل ، والسنة لا تتبدل . وفهم هذه النقطة حصانةً للسنة من الضياع . 5"- مصدر التاريخ والسنة : هو السير في الأرض ، والنظر إلى العواقب ، لأن ذلك يكسب الإنسان معرفة بالتاريخ ، كما يكسبه قوانين الحياة وسننها .. وهذا الأمر لا يتحقق بمجرد الدرس ، وإنما بالسير والكشف أيضاً . وهنا ينبغي أن ننتبه إلى أن تحقيق بعض أوامر الله ، لا يتم إلا بالبحث خارج القرآن بأمر من القرآن الكريم . ومثل هذه الحالة الاجتماعية التي يعرضها الله تعالى هنا ، مثل آخر في القرآن يبين فيه حالة معينة من الدعوى العريضة والعجز الفاضح : « ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ؟ قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ، والله عليم بالظالمين . وقال لهم نبيهم : إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، قالوا : أنَّى يكون له الملك علينا ، ونحن أحق بالملك منه ، ولم يؤت سعة من المال . قال : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم … » البقرة - 246 - . ولما قال لهم موسى « استعينوا باله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » قالوا له : « أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ، ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون » الأعراف - 129 - . قالوا له هذا القول ، أي كأنهم قالوا : ليس في مجيئك فائدة فالأذى لم يُنزل عنا بمجيئك ، فيقول لهم موسى : هناك أمر أهم من هلاك عدوكم واستخلافكم في الأرض ، وهذا الأمر الأهم هو كيف ستعملون حين يستخلفكم ؟ هذا الذي لا تعلمون حسابه الآن … هذا الذي لم تُختبروا به بعدُ .. ولقد قال الله تعالى : « فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم ، وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » محمد - 24 - . إن الذين لا ينتبهون إلى تلك النقائص الاجتماعية لا يمكنهم أن يتفادوها قبل وقوعها ، إلا إذا كانوا يدركون أسبابها وسننها . وإذا فاجأتهم نتائج تلك النقائص يظلون حيارى لا يجدون مخرجاً ، وليس أبلغ من وصفهم بقوله تعالى : « أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم ، وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » محمد - 24 - . إن الاستكبار الذي جعله الله سبباً لأن يحيق بهم المكر السيئ في الآيات التي سبق أن ذكرناها ، إنما هو ما ذكره الله هنا من العمى والصمم ، والإقفال على القلوب ، لأن الاستكبار حالة نفسية ، أي فكرة خاطئة بالنفس ، تجعل الإنسان مستكبراً ، يقول مالا يفعل ويدعي مالا يقدر عليه . كل ذلك ناشئ من التقدير الخاطئ للواقع والسنن ، ناشئ من نظر ذاتي محدود …. والإنسان ذو الفهم الصحيح والإدراك الجيد لوقائع التاريخ لن يكون مستكبراً ، إذ أن الاستكبار إنما منبعه فراغ في الفهم ، وفراغ في إدراك الحقيقة . إن المستكبر يتصف بالبعد عن النظر الموضوعي(1) ، وهذا البعد مبعثه الغرور ، الذي هو محتوى نفسي خاطئ . ومشكلة الاستكبار تلقى اهتماماً كبيراً في القرآن ، لأن الفارغ عن فهم الحقيقة يكون مستكبراً حين يملك ، ويذل إن زال عنه الملك . والمؤمن لا يكون مستكبراً حين يملك ، ولا ذليلاً إن أصابته مصيبة . وهذا لا يتأتى إلا عن الفهم الموضوعي والعلم ، لا لمجرد وصفه بالإيمان ، لأن الإيمان ثمرة العلم والفهم . لهذا لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين . إن الاستفادة من السنن وملاحظة الأمثلة والأحداث ، تقدم للناس بصراً ومعرفة وعملية ، حتى لا يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم ، أو تنقذهم إذا وقعوا فيها ، أو على أقل تقدير ، تكسبهم صلابة موقف من يدرك السنة ، لا موقف من يرى السنن يختلف عن نظر وموقف من يجهل مصدر الأحداث . فإن حيرة وخوف من يجهل ، غير بصيرة من يعلم ، وغير طمأنينته . فإن من يجهل يطمئن حيث لا طمأنينة ، ويقلق حيث لا قلق ، ويعيش في حيرة من جراء المصائب التي تنزل به ولا يعرف مأتاها إلا ظناً وتخرصاً .. أما من يعلم وإن كان يعجز عن تغير كل شيء مرةً واحدة ، فإنه يعرف أين يضع القلق ، وأين يضع الطمأنينة ، ولا يصاب بالحيرة ، وإنما يقوم بما يقوم به من عمل فيما يُجدي دون أن يَحْقِرَ ما يقوم به من عمل ، ولا يطمع في إزالة الجبال في ساعة ، ولا يحقر من جهده القليل الذي يبذله مما يقرب إلى الهدف ، كمن يمشي على الخريطة والبوصلة ، لا كمن يضرب في تيه الأرض دون معرفة . إن إدراك السنن والتعامل معها ، هو الذي يجعل الإنسان يمشي سوياً على الأرض ، ومن يجهلها فهو المكب : « أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ؟ » الملك - 22 - . إذا تذكرنا شأن شيع الأولين ، وأنه لو فُتح عليهم باب « من السماء فظلوا فيه يعرُجون لقالوا إنما سُكرت أبصارنا بل نحنُ قومٌ مسحورون » . قد سبق أن ذكرنا محدودية هؤلاء في الفكر ، وجمودهم على ما هم عليه ، وأنه لا يخطر في بالهم احتمال طريق أفضل للوصول إلى غاية أسمى . فإذا وجدنا اليوم حال المسلمين في الجمود ، والغرور ، والمحدودية في النظر ، واعتقادهم أنه لا يمكن أن يكون هناك صواب إلا عندهم . وكيف لا ! وهم أهل الحقيقة ، وعلم اليقين من الكتاب والسنة المحكمة ! . هنا تبرز المشكلة بكل ثقلها ، وبكل ما تحمل من خلط . لندع ثقل المشكلة الآن ، ولننظر إلى أن هذه الحالة الاجتماعية ، تنشأ عن مفاهيم ونظرات معينة ، تصيب المجتمعات وتشمل البشر كبشر . فإذا وجدنا تشابهاً بين المسلمين اليوم ، ووضع أمم سابقة لهم ، علينا أن نعلم أن سنة الأولين قد انطبقت علينا . كما أنه ينبغي أن لا يسيطر علينا حبنا لذواتنا وأنفسنا ، فيعمينا عن إدراك ، كيف يمكن أن ينطبق علينا ما انطبق عليهم . فإذا رأينا أنفسنا في حجر الضب ، ونفعل مثل ما فعل الأولون ، حذو القذة بالقذة شبراً بشبر ، فعلينا أن لا نستغرب أن يصيبنا ما أصابهم ، لأن السنة التي لا تتبدل ، لا تميز بين السابقين واللاحقين ، ولنما تعمهم جميعاً : « ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به » النساء - 123 - . إن الاستكبار منع الأولين من إدراك الواقع ، نحن مستكبرون وأذلة أيضاً في آن واحد . وليس غريباً أن يجمع الوصفان . ففي صحيح مسلم بين الرسول أن من الذين لا ينظر الله إليهم ، « العائل المستكبر » . فقد جمع بين العيلة والاستكبار . وكذلك نحن عالة مستكبرون ، لا نظن أن احداً يملك شيئاً من الحق له قيمة ، ونحن عندنا الحق كله . ومع ذلك لا نستطيع أن نخفي ذلتنا وهواننا . وهذا الهوان الفاضح هو الزاد الوحيد الآن ، لنجعل المسلم ينتبه . فهذا الذل هو الممسك الواضح للبدء في طريق الشفاء ، لأنه لا يمكن بَدء البحث إلا من نقطة نسلم بها . ولا يمكن أن ينصت المسلم إلا عند هذه النقطة ، هذا أن لم تأخذه العزة القعساء وعنجهية الكبرياء فتسد عليه منافذ التأمل والانتباه . إن ثقل المشكلة التي أشرنا إليها ، يتخفى في مخبأ مكين آخر وهو ، صعوبة أن يفهم ويتذوق ، كيف أن صاحب الكتاب والسنة ، وعلم الحقيقة واليقين ، يمكن أن يأتيه يوم ، لا يجديه الكتاب والسنة ولا ينفعه علم اليقين الذي كان عنده يوماً ما . إن سليمان لما قضى عليه الموت بقي هيكلاً قائما وبقيت الجن في العذاب المهين إلا أنَّ دابة الأرض أكلت مِنسَأته التي كان يتكئ عليها فخر . والعالم الإسلامي فقد روحه ، وظل متكئاً على عصاه ، ولكن العهد الاستعماري قام بمهمة الدابة ، فخر هذا العالم وهو لا يكاد يصدق ما حدث له وكيف حدث . إن ثقل المشكلة ، في إقناع المسلم كيفَ فقدَ الكتاب والسنة ، وفقد الحقيقة وعلمَ اليقين ، كما فقد مواعيدَ الكتاب والسنةِ بالنصرِ والتأييد . كلُّ ذلك أزال يقينه ، فتغيرت أمامه الدنيا ، واختلطت عليه الأمور ، وتداخلت الكبرياء بالهوان ، ومواعيد النصر بالهزائم المتوالية . ونحنُ لا نزالُ في بحث أن السنة (القانون) ، لا تجدي عند المسلم إن لم تستند إلى الكتاب والحديث . وهنا نريد أن نستأذن كبرياء المسلم ، أن يتأمل معنا حديثاً للرسول صلى الله عليه وسلم . قاعدة هامة : إن هذا الحديث من المرتكزات القيمة لفهم هذه السنة العجيبة ، التي أعيى المسلمين السابقين واللاحقين ، فهم حقيقتها . هذه السنة وردت بوضوح صارخ في حديث صحيح للرسول صلى الله عليه وسلم . عن زياد بن لبيد أنه قال : « ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : وذاكَ عندَ ذهاب العلم . قلنا يا رسول الله وكيفَ يذهبُ العلمُ ونحنُ نقرأ القرآن ونُقرِئُه أبناءنا ، وأبناؤُنا يقرئُونهُ أبناءَهم إلى يوم القيامةِ ؟ فقالَ : ثَكِلتكُ أمكَ يا ابن لَبِيد ، أن كنتُ لأراكَ مِن أفقَهِ رَجُل بالمدينة . أوَ لَيس هذهِ اليهودُ والنصارى يقرؤون التوراةَ والإنجيلَ ولا ينتفِعونَ ممِا فِيهِما بشيءً ؟ »(1) . هذا الحديث يبين أمورا تساعد على فهم أدق للسنن ، وهو من فهم الصادق الأمين (صلى الله عليه وسلم) ، الذي ما ترك شيئاً ينفع أمتهُ إلا وحثهم عليه . إنه كان صلى الله عليه وسلم يرى المستقبل من خلال السنن . السنة التي تعم الجميع ، والتي انطبقت على أهل الكتاب السابقين ، ويمكن أن تنطبق على أهل القرآن . فإن هذا الحديث لا يحتمل أي تأويل أو غموض في الفهم . فانه يذكر سنة ، وحادثة معاصرة لها تاريخ سابق ، ومثالاً سيأتي ، فانه جمع بذلك الماضي والحاضر والمستقبل . لأن الموضوع يخضع لسنة ، إذ كل من اكتسب الحالة النفسية التي كانت عليها اليهود والنصارى يحل به ما حل بهم . وهذه الحالة النفسية المشابهة ، يطلق الله عليها تشابه القلوب ، ويقول الله في ذلك : « وقال الذين لا يعلمون ، لولا يكلمنا اله أو تأتينا آية ، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم ، قد بينا الآيات لقوم يوقنون » البقرة _ 118 _ . أن فكرة الاجتراء على المعاصي ، على أساس أنهم يعذبون قليلاً ثم يذهبون إلى الجنة ، فكرة منتقدة على اليهود والنصارى ، ولكن ذلك لم يمنع المسلمين من الاحتجاج بنفس الحجج . قال الله تعالى : « وقالوا لن تمسنا النار إلاَّ أياماً معدودة ، قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون » البقرة _ 80 _ . وقال : « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب . يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ، ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون » آل عمران _ 24 _ . ومثل هذه القياسات والخصوصيات التي تدعيها الأقوام لنفسها ، ينفيها الله تعالى في قوله : « ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءاً يجز به ، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا » النساء _ 123 . في هذا الحديث الذي نحن بصدده ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « يَحدثُ ذَاكَ عِندَ ذَهابِ العِلم .» ويصعب على الصحابي أن يفهم كيف يذهب العلم ومعهم مصدره . فيضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل على إمكان ذلك ، من واقع الحياة المعاصرة لهم ، من مجتمع سابق لا يزال معاصراً لهم ، معهم الكتاب ، ولا ينتفعون مما فيه بشيء . وهدفي من سياق الحديث هنا ، أن أثبت أن مصير المسلمين إلى ما صار إليه السابقون أمر ممكن ، وهذا ما تم . فالمسلمون اليوم يقرؤون القرآن والحديث ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ، وما ذلك إلا لذهاب العلم ، الذي ذهب معه الانتفاع منهما كما يبين الحديث . وهنا لا أُحمل الحديث شيئا لا يحتمله ، وإنما سياقه ونصه هو الذي يثبت هذا بالذات . إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر أنه إذا ذهب العلم ، يذهب معه الانتفاع مما في القرآن والحديث أيضاً . وقد نختلفُ على حقيقة هذا العلم ، وهَل هو عندنا ، أم ليس عندنا ؟ ولكن المهمَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدده بأنه علم . ومهما اختلفتا فإن الواقع أقسى من أي خلاف . إن الواقع بكل ثقله وكل دلالاته الصارخة والخفية ، يقول : إن المسلمين لم يعودوا يملكون العلم الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا العلم الذي مجده الله في القرآن ، وعلى أساسه أثبت تفاوت الناس ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات . وبأسلوب إنكاري نفى أن يتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون . إن العلم له يعد له مفهوم واضح عند المسلمين . ولا يعرفون له تعريفاً يستطيعون أن يميزوا به ما هو علم مما هو ليس بعلم ، وهذا يفقد العلم قيمته ، فيختلط بالظن ، وينظر إليه كما ينظر إلى الأوهام والظنون ، فهذا هو معنى ذهاب العلم . وكثيراً ما يمدح المسلمون دينهم بأنه دين العلم ، ويريدون بذلك أن يزينوه كما يتزين الفارغون بالأزياء الجديدة . ولكن حين يُبحث الموضوع على أساس العلم ، نرى أعينهم تدور كالمغشي عليه ، ويصير العلم عندهم هو والظن سواء ، ويفضلون أن يتمسكوا بنظرات ذاتية كوَّنوها عن الإسلام ، رسخت على مر العصور . وليس موضوعنا هنا هو بحث العلم ، هذا العلم المظلوم ، الذي لم يعد له مقام في العالم الإسلامي . فهو روح فقدناه وحقيقة غبنا عنها . وما لم يرجع هذا العلم إلى المسلمين ، بكل ما منحه الله من قوة وسلطان ، فلن يقدر المسلمون أن يستفيدوا من الكتاب والسنة ، وسيظلون يتدحرجون تحت أقدام اللاعبين ، مهما ظنوا أنهم أهل القرآن وعلم الحقيقة واليقين . وهنا يختلط على المسلم تقديسه للكتاب والسنة ، واعتقاده أنهما يغنيان عن كل شيء بأمر آخر وهو كيف لم يرفعا عن المسلم الهوان الذي وقع فيه . فهنا نخطئ ويصل تقديسنا للكتاب والسنة إلى الغلو ، حين ننسب إليهما شيئاً ليس من مهمتهما ، إذ ليس من مهمة الكتاب والسنة ، أن يرفعا الهوان عن قو لا يستخدمون أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم . فهذه الملاحظة أمر جوهري ، علينا أن نتأملها جيداً ، إذ ليس من شأن الكتاب والسنة الهداية ، إلا أن بعض البشر ، يزيدهم هذا الكتاب ضلالاً ولا يزيدهم هدىً . قال تعالى : « يصل به كثيراً ويهدي به كثيراً » البقرة - 26 - ويقول الله تعالى : « إنما تنذر الذين يخشون ربهم » فاطر - 18 - « إنما تنذر من اتبع الذكر » يس - 11 - . « لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين » يس - 70 - . هذه حقيقة علينا أن نفهمها جيداً ، إذ ليس مما ينقص من قدر الكتاب والسنة ، أنهما لا يرفعان شأن قوم ، لم يرفعوا بما بعث الله به رسوله رأساً . وعلينا أن نكرر هذا ، حتى لا يُفرض على الكتاب والسنة ما ليس من شأنهما . ثم على أساس هذه الفريضة ، يظن أن الكتاب والسنة لم يقوما بمهمتهما . ونقع في هذا الخلط بدون شعور منا . فهذا الغموض ، وهذه الفرضيات التي فرضناها ، وابتدعناها تعظيماً للكتاب والسنة ، توهمنا أن الكتاب والسنة ، لم يؤديا المهمة التي ظننا أنهما ينبغي أن يقوما بها . وهذه متاهة ومكان للالتباس ، وعلينا أن نعرف أن الكتاب يظل كاملاً ، ويظل متصفاً بكل صفات القداسة ، ولا يشترط أن يرفع الكتاب رأس من لم يرفع به رأساً . وبعد أن نفهم هذا . نستطيع أن نرجع إلى هذا المسلم الذي يكمن الداء فيه ، إذ فقد الاستفادة من الكتاب والسنة لفقدانه العلم ، لا لأن الكتاب والسنة لم يعد فيهما ما ينفع . فإن اتضح هذا فلا يجوز أن نحمِّل الكتاب والسنة ما ليس من شأنهما . ولكن يبقى بعد ذلك أن هذا المسلم تظل أمامه عقبة أخرى ، مثل تلك العقبة التي مررنا بها وهي : هل يمكن أن يعترف المسلم أنه بلغ درجة لم يعد ينتفع مما في الكتاب والسنة شيئاً ؟ إن هذا الاعتراف شيء ليس سهل المنال . إن إدراك هذا ورسوخه بوضوح في أعماقه ، أمر له أهمية بالغة ، لأن المسلم إن لم يفهم هذا ، لا يمكن أن يتوب مما فيه . وكيف يتوب وهو لم يشعر أنه أذنب ! إن الفهم شرط التوبة ، شرط تغيير ما بالنفس . والتائب هو الذي غير ما بنفسه . إن الكتاب والحديث ، وكل السنن الكونية ، تظل معطلة بالنسبة للإنسان ، إن لم ينتبه إليها . وليس معنى هذا ، أن هذه السنن يبطل مفعولها ، ولكن معناه ، أن المسلم لا يستطيع أن ينتفع منها . فالمشكلة ، ليست في أن الكتاب لم يقم بمهمة الإيقاظ ، ولكن المسلم لم يقم بواجب النظر . إن عقل المسلم لم يتعلق بالكتاب والسنة بمعنييها ، بمعنى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبمعنى سنن الله في الكون . وبهذا نكون حددنا ، أن مكان المشكلة ، ليس في الكتاب والسنة بمعنييها ، وإنما في العقل ، الذي فقد وظيفته في العالم الإسلامي . ويكفي على هذا دليلاً ، إغلاق باب الاجتهاد في العالم الإسلامي خلال القرون الطويلة . إن هذا الإغلاق لم يأت من الكتاب والسنة ، ولا أمراً به ، بل من أهم ما يعنى به الكتاب والسنة : الاجتهاد ، ثم الاجتهاد ، ثم الاجتهاد … ولكن العالم الإسلامي هو الذي أغلق الباب ، باب الاجتهاد ، باب العقل ، الذي يمكن أن يدخل إليه الكتاب والسنة ، ليقوما بمهمة توجيه هذا الإنسان . وكان الهدف من إغلاق باب العقل عند المسلمين ، حماية الكتاب والسنة من التلاعب والتلفت . ولكن هذا الهدف لم يخدم الكتاب السنة ، لأن العقل المقفل لا ستطيع أن يحمي الكتاب والسنة . واليوم إن الذين يرفعون لواء الكتاب والسنة في العالم الإسلامي ، وكل الربانيين الذين ظهروا في الأمة ، ليسوا أولئك الذين أغلقوا عقولهم ، وأغلقوا باب عمل العقل عن الجد والاجتهاد ، وإنما أولئك ، الذين سعوا ، ولا يزالون يسعون جهدهم لأعمال العقل ، وإعادة العملية الوظيفية للعقل الإسلامي ، الذي أصيب بالكساح منذ قرون طويلة ، حتى صار مقعدا . والمتاهة التي يضيع فيها المسلم ، هو ظنه ، أنَّ من بيده الكتاب والسنة لا يضل عن الكتاب والسنة ، وجهله أن من فقد العلم ، الذي هو نتيجة فتح السمع والبصر ، يفقد الانتفاع بالكتاب والسنة . إن العالم الإسلامي ، إن لم يستعمل سمعه وبصره وفؤاده فيما خُلق له ، فإن كنوز الكتاب والسنة ، ستظل مقفلة أمامه ، مهما أكثر من طبعاته ، وأثقل من حملها رفوف المكاتب . وفي مثل هذا ضرب الله مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها . إن القلوب التي الطبع ، والعيون التي عليها الغشاوة ، والآذان الموقورة ، لا تتفاعل مع الحقيقة . وهناك مشكلة أخرى أيضاً ، ليست أقل استعصاء الحل ، أمام فكر المسلم ، فهي عقبة صعبة الاقتحام ، يمثلها هذا التساؤل : إن كان هذا الأمر حقاً ، فكيف خفي على الملايين من المسلمين ، خلل مئات السنين ؟ إن هذا التساؤل وارد ، سواء في أول الطريق أو في آخره . وما لم تزل هذه العقبة ، فلا يمكن التقدم في حل المشكلة . فهي نوع من الآصار ، والأغلال ، التي تحدث الرعود والبروق في عقل المسلم ، فلا يعد قادراً على تأمل الموضوع . لأن في قبوله لذلك ، إدانة الملايين . وفي رفضه ، زيادة التعقيد والحيرة . وأرى في ذلك إخلاص السائل . كما أرى أن حل هذا التساؤل ، وإزالة المشكلة ، يكون سبباً لراحة المسلم ، وتطمين ضميره . وبدون هذا الحل ، يشعر بامتعاض ، وقد يتمنى لا شعورياً ، ألا يواجه المشكلة . ولكن لا بد من إزالة التيارات المزعجة . وعقل المسلم ، يُقبل على هذا بكل حذر ، مثل حَسْوِ الطير للماء ، حين خوفه . فهذا الخوف ، من إدانة المئات من الملايين من المسلمين ، بأنهم لم ينتبهوا إلى هذا خلل مئات السنين . لا نقول إن هذا الخوف لا مبرر له مطلقاً ، بل فيه صواب ، كما فيه أخطاء ليست هينة ، وأحياناً تحجُبُ شعرةٌ ، نور العين فتمنعها من الإبصار . وأحياناً تتعقد المشكلة ، وحلها يسير كما قال البدوي : رُبَّما تَكْرَهُ النفوسُ مِنَ الأَمْرِ لهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العِقالِ . فيا أخي وعزيزي ، أيها المسلم القلق في كل مكان ، يا من يقلب وجهه في السماء ، باحثاً عن القبلة التي يرضاها . إني أشاركك في قلقك وتطلعاتك . لقد عانيت ما تعاني . فتعال نبحث ، دون أن أتضايق منك أو تتضايق مني . إني لا أتضايق منك ، بل أستبشر بهذه الأشواق التي تحملها إلى المعرفة ، وإلى الكشف ، وإلى شوقك إلى البلاغ المبين . وإني أرى نفسي فيك ، فأنا مشيت معك هذا الدرب ، ومررت على هذه الثغرات ، ويذكرني هذا بقول إقبال رحمه الله : ليسَ يَخْفَى عَلىَ القَلَنْدَر(1) فِكْرٌ سَاوَرَ النَّشءَ ظَاهراً أو خَفَيّاً أنا عِنْدِيْ بِكُلِّ حَالكَ خُبْرٌ فبِهَذَا الطَّريْقِ سرتُ مَلياً وهذا القلق الذي يخطر ببال المسلم ، من استغراب غفلة الملايين خلال مئات السنين ، حله في الكتاب والسنة ، حين نتوجه إليها بعيون وقلوب مبصرة ، وعندها لن نضل أبداً . إن من أوليات ما يعلمنا الله تعالى في كتابه الكريم : أن الباطل لا يكسبُ قوة الحق ، وإن كثر أتباعه وطالَ عمرُهُ . « قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث » المائدة - 100 - . … والقرآن الكريم يدينُ الذين يلزمون ما كان عليه آباؤهم ، فيقول في ذلك : « وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون » البقرة - 170 - . والآيات في هذا كثيرة . والقرآن مليء بهذا الموضوع : « إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون » الصافات - 70 - . ولاسيما في المحاجة بين الأنبياء وأقوامه : « قال : فما بالُ القُرون الأولى » طه - 51 - إنه نفس السؤال الذي يراودنا الآن . لكن علينا أن نواجه بوعي ، هذا الذي يعترضنا . ونحن هنا نستعين بجواب موسى عليه السلام ، الذي اصطنعه الله لنفسه . قال موسى في الجواب : « قَالَ : عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ، فِي كِتَابٍ . لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى » طه - 52 - . والذي أريد أن نستفيده من موسى عليه السلام هنا ، أن فرعون لما قال : فما بال القرون الأولى ؟ كان يريد أن يقول : يا موسى هل أنت وحدك الذي فهمت هذا الذي جئتنا به ؟ فما بال القرون الأولى ؟ يعني : ما بال الأجيال المتتابعة الماضية ، الكثيرة العدد خلال قرون بعيدة . ألم يفهموا هذا الفهم ؟ . واليوم قد يخطر في بالنا نحن أيضاً نفس هذا التساؤل . كما يخطر لنا تساؤل آخر ، وهو أن يقال ، إنك تشبه المسلمين بالكافرين ، بفرعون والأمم الضالة الوثنية . ونحن إن أردنا الشفاء ، مما نحن فيه من المصيبة ، علينا أن نتقبل بعض الصعوبات التي لم نتعودها . وعلينا أن نغير شيئاً من نظراتنا إلى المسلمين وقد قدمت أن آية التغيير ، التي هي موضوع بحثنا في هذا الكتاب سنة عامة وليست سنة خاصة بقوم معينين . فكل قوم يحملون نفس الأفكار ، تحل بهم نفس النتائج . إن السنن النفسية ، مثل السنن العضوية ، تنطبق على المسلم والكافر . فعلينا أن نمتلك القدرة على أن نرى نفس الفكرة وأثرها ، بصرف النظر عمن يحملها : « لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ » النساء - 123 - . ثم كذلك ، لا يشترط أن يكون أولئك الآباء من أهل النار ، وأن يصيروا بذلك كفاراً . والخوف من أن نُحمل الآباء ، إثم الخطأ ، يشكل حاجزاً نفسياً يمنع من تأمل الموضوع بنزاهة . فقد يكون لهؤلاء الآباء ، على أخطائهم أعذارٌ عند الله . فقد أخطأ من أهل أحد ، الرماة الذين تركوا أماكنهم ، ولكن انتقل من قُتل منهم ، إلى حواصلِ طيرٍ خضرٍ في الجنة في مساء ذلك اليوم . ولابن تيمية ، كلامٌ حسنٌ على هذا الحاجز النفسي عند المسلمين ، قال : « ويترتب على هذا الأصل ، أن الرجل العظيم في العلم والدين ، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم الدين ، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد ، مقروناً بالظن ، ونوعٍ من الهوى الخفي ، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه ، وإن كان من أولياء الله المتقين . ويصير فتنة لطائفتين ، طائفة تعظمه ، فتريد تصويب ذلك الفعل ، واتباعه عليه ، وطائفة تذمه ، فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه ، بل في بره ، وكونه من أهل الجنة ، بل في إيمانه حتى تخرجه من الإيمان . وكل هذين الطرفين فاسدٌ . ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم ، وأحبه ووالاه ، وأعطى الحق حقه ، فيعظمُ حقَّ ، ويرحمُ الخلقَ ، ويعلم أن الرجل الواحد ، تكون له حسنات وسيئاتٌ فيُحمدُ ويُذمُ ، ويثابُ ويعاقب ، ويحب من وجهٍ ، ويُبغضُ من وجهِ . هذا هو مذهبُ أهلٍ السنَّةِ والجماعة خلافاً لأهل البدعِ »(1) . لهذا كان جوابُ موسى ، جواباً علمياً دقيقاً ، مراعياً الاعتبارات النفسية وحواجزها . كان جواباً رائعاً كان جوابه « علمُها عِندَ ربي » ولم يقل : أولئك الأقوام في كذا ، أو سيصيرون إلى كذا ، لأن المشكلة هنا ، ليست مشكلة أقوام مضت يُرادُ إدانتهم ، ولكن المشكلة ، مشكلة تخليص أقوام لا يزالون يعيشون الآن . وعلى المسلم أن يكون حاذقاً في هذا ، فليدع مصير أولئك ، فقد يكونون في مغفرة من الله وضوانهِ . ولكن ذلك ، لا يُبررُ لنا أن نظل في الخطأ ، ولا يبرر لنا أن نحملَ أوزارهم . وعلينا أن نتذكر قوله تعالى الذي تكرر في سورة البقرة في مثل هذا الموضوع ، مرة في التعقيب على الصالحين : « إذ حضر يعقوب الموتُ إذ قال لبنيه : ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهكَ وإله آبائك إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ، إلهاً واحداً ، ونحن له مسلمون ، تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبتْ ولكم ما كسبتم ، ولا تُسألونَ عما كانوا يعملون » البقرة - 143 - . ومرة أخرى في التعقيب على المنحرفين فيقول : « أم تقولون إن إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط ، كانوا هوداً ، أو نصارى ، قل أأنتم أعلمُ أم الله ؟ ومن أظلم ممن كتم شهادة عندهُ من الله ، وما الله بغافل عما تعملون . تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون » البقرة - 141 - . وهناك سنة قرآنية أخرى ، علينا أن نستفيد منها أيضاً وهي ، أن القرآن ، كلما حكم على أقوام ماضية بالضلال ، لا يعمهم جميعاً ، بل يستثني القليل أو يحكم على أكثرهم : « ما فعلوه إلا قليل منهم » النساء - 66 - ، « وما آمن معه إلا قليل » هود - 40 ، « وقليل من عبادي الشكور » سبأ - 13 - ، « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم » ص 24 . « ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ » البقرة - 83 - ، « ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم » المائدة - 13 - ، « فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم » هود - 116 - وهذا بالنسبة لمجموع القوم ، إذ يكن الكثيرون منهم على الخطأ ، وأفراد قلائل يُستثنونَ من المعصية ، التي رقع فيها الأقوام . ولا يحكم القرآن على الجميع ، إلا أن يكون وجه آخر ، مثل جنود إبليس أجمعين . وهناك غير الحكم على مجموع الأفراد ، حكم على مجموع أعمال الفرد أو المجتمع ، فذلك يحكم الله في هذا أيضاً مثل قوله تعالى : « فقليلاً ما يؤمنون » البقرة - 88 ، « قليلاً ما تذكرون » الأعراف - 3 ، « بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا » الفتح - 15 . والآن إذا رجعنا إلى موضوعنا ، في الحاجز النفسي ؛ ما بالُ القرون الأولى ؟ ما بال الملايين من المئات من السنين هل كلهم كذلك ؟ لا بلم تكن الملايين خلال مئات السنين كذلك . ولكن قليل في التاريخ ، خلال مئات السنين ، الذين كانوا لا ينطبق عليهم قوله تعالى : « وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون » البقرة -170 - . ولو نظرنا إلى التاريخ ، لوجدنا أمثال ابن تيمية(1) ، يطاردهم أتباع الآباء (الآبائيون) ، خلال التاريخ ، وتُطاردُ مؤلفاتهم أيضاً ، سواء كانوا من أتباع الآباء الأولين ، أو من أهل السياسة والسلطان . فلقد مات ابن تيمية في سجن القلعة في دمشق ممنوعاً عنه أدوات الكتابة . كما لا يشترط في هؤلاء القليلين ، أن يكونوا معصومين لا يقعون في خطأ ، ولا سوء فهم في أمر من الأمور . ولكن حسبهم ، أنهم كانوا منارات في دَربِ التَبَصر . إذا نظر أحد إلى التاريخ ، برزوا فيه كالنجوم يهتدي بهم . وإن تجاوز العلم ما كانوا وصلوا إليه . إلا أنهم يزدادون ضياء على مر العصور . فسواء شعر من ينتقدهم ، أو يتهمهم حتى في نياتهم ، أو لم يشعر ؛ إنه يقف على ما رفعوه من معالم ، حين يحاول أن يفهم شيئاً ما ، على أساس العقل . وكل من أراد أن يقرأ آيات الله ، في الآفاق والأنفس ، في هذه الأيام ، يجد هؤلاء رُوادَ الطريق ، وعكازات يتكئ عليهم ، ليثُبتَ أمام عُصبة الآبائيين . وإذا شعر أنه في غنى عنهم ، فإن هذا الجو الذي يستطيع أن يتنفس فيه هو ، إنما من صنعهم ، وصنع كفاحهم . إن من يعرف معالم التاريخ ، يمكن أن يعرف ذلك . ولكن مصيبة المصائب ، أن لا تعرف كيف حدث ما حدث ، ولا على أي أكمة تقف ، سواء كان من العَمارِ ، أو الخراب ، حين نقف لنحكم على الأحداث . كان البحث ، في موضوع : ضرورة ربط آيات الآفاق والأنفس ، وسنن التعامل معها ، بآيات القرآن ، ربطاً محكماً ، بحيث يشعر المسلم ، بالارتباط القوي بين آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس ، وأن ذلك ليس مجردَ إقحامٍ . وهذا يحتاج إلى حذق ، وإلى معرفة دقيقة من التعامل مع الأنفس . ونحن إذا أردنا أن نعيد للعقل وظيفته ، فلا يعني ذلك ، معارضة أمر القرآن . بل من أعظم مهمة الكتاب الكريم ، أن يعيد للإنسان كانسان ، وظيفته . ثم بعد ذلك يسير به في ظلال : « أفلا تعقلون » حتى يوصله إلى النعيم المقيم ، ولا يتركه في أي جزء من الطريق من حين أن يقول : « يا أيها الناس » إلى قوله : « وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير » وإلى أن يقول : « ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين » . ولعلي أكون بهذا ، قد بعثت بصيصاً من الأمل ، فيما حاولت أن أصل إليه ، من أن : كل سنة ، وكل مثال في التغيير ، ينبغي أن يكون مستنداً إلى القرآن الكريم ، لتكسب السنَّة فاعليتها الاجتماعية عند المسلمين . ومعنى الفاعلية الاجتماعية ، أن يتعامل العقل مع السنن ، في سعيه إلى ابتغاء مرضاة الله . والمجتمع الذي شأنه هذا ، سيكون من أبرع المجتمعات البشرية ، في استخراج السنن استخداماً صحيحاً . فمثل هذا المجتمع ، هو الذي يسبغ الله عليه من نعمه ، ظاهرة وباطنة ، في الدنيا والآخرة : « لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة » البقرة - 220 - . وحتى هذا الوصل بالكتاب ، قد لا يكفي لإقناع المسلم ، بأنه لم يخرج عن أمر الكتاب ، لأنه لا يكفي عند المسلم ، أن يكون الموضوع موجوداً ، في الكتاب والسنة ، حتى يقبل الأمر . لأن فهم الكتاب والسنَّة مقيد بفهم الآباء ، وفكرة « ما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين » المؤمنون - 24 - . لها سلطان أيما سلطان ، ومن هنا يتبين ، أن مشكلة المسلمين معقدة ، ليست بسيطة . ولكن مع ذلك ، فإن إدراكها إدراكاً صحيحاً ، لا يجعل الأمر مستعصياً على الحل . لأن المشكلة ، مشكلة إكساب الإنسان المسلم ، قدرة التعامل مع الحقيقة ، بصرف النظر عن ملابساتها ، أو إكساب المسلم قدرة التعامل مع السنة : « سنة الله في الذين خلوا من قبل » الأحزاب - 38 - . وهنا ينبغي أن نشير إلى أمر آخر ، وهو القدرة على التمييز ، بين ما نقبله على أساس الثقة ، وما نقبله على أساس التعامل مع السنة . فإن من أدرك كيفية التعامل مع السنَّة ، لا يعود يبالي بالثقة من جهل الناقل - فيما يمكن اختباره على أساس السنَّة - سواء كان الناقل موثوقاً به ، أو ليس كذلك ، لأن الموضوع في هذه الحالة ، يحمل دليله معه . فكل من عرف التعامل مع السنن ، لا يمكن أن يخدعه صديق ، أو يغره عدو ، سواء كان قاصداً أو غير قاصد . أما من لا يعرف التعامل مع السنَّة ، وإنما يقبل الموضوع على أساس الثقة فقط ، فهذا معرض للوقوع في الخطأ ، ولاسيما إذا كان في قبول تفسير ، ما ينقل عن المعصوم ، صلى الله عليه وسلم . وهذا التعرض للخطأ يكون على وجهين : حين نقبل خطأ من نثق به . وحين نرفض صواب من لا نثق به . وأسلوب أخذ المسلمين ، والعلوم الاجتماعية والنفسية ، مبني على أساس الثقة ، فلهذا لا قدرة لنا على التعامل مباشرة مع السنن ، وإعطائها ما تستحق من العناية . وليس معنى ذلك عدم التثبت إن جاءنا فاسق بنبأ . فإن أمور الدنيا ، التي يمكن أن تقع تحت اختبار العلم ، الذي يمكن أن نكتشفه في سنن التاريخ ، ووقائع الأحداث ، نقبل فيه على أساس الاختبار والعلم ، فنأخذ أحسنها نتائج ، وأحمدها عواقب . وهذا الذي أمرنا الله تعالى به في قوله : « فبشر عبادي ، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب » الزمر - 18 - . فإن جاءنا أحد بنبأ في علم الفلك ، لا نقول عنه منجم كذاب ، ما دام ما يأتي به خاضعاً للاختبار . ويقول في هذا ابن تيمية : « … والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكناً ، لكن المخبر المعين قد يكون عالماً بذلك ، وقد لا يكون … ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك ، فلا يكادون يخطئون … وإذا جوز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا … من باب المسارعة إلى طاعة الله وعبادته . »(1) . وفي سنن التاريخ والنفس والاجتماع ، حين يأتي أحد بنبأ ، فليس النظر فيه إلى فسق من أتى بالنبأ أو تقواه ، ولكن إلى مقدار صمود ما أتى به من برهان على دعواه ، أمام الاختبار والتحقيق . وهذا كان واضحاً لابن خلدون في بحثه لسنن العمران وطبائعه ، قال في أسباب ما يجعل الكذب متطرقاً للخبر : « ومن الأسباب المقتضية للكذب ، وهي سابقة على جميع ما تقدم : الجهل بطبائع الأحوال في العمران . فإن كل حادث من الحوادث - ذاتاً كان أو فعلاً - لا بد من طبيعة تخصه في ذاته ، وفيما يعرض له من أحواله ، فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ، ومقتضياتها ، أعانه ذلك ، في تمحيص الخبر ، على تمييز صدقها من كذبها ، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ، ولا يرجع إلى تعديل الرواة ، حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ، ممكن أو ممتنع . وأما إذا كان مستحيلاً ، فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح . ولقد عدَ أهل النظر ، من المطاعن في الخبر ، استحالة مدلول اللفظ ، وتأويله بما لا يقبله العقل . وإنما كان التعديل والتجريح ، هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية ، لأن معظمها تكاليف إنشائية ، أوجب الشارع العمل بها ، حتى حصل الظن بصدقها . وسبيل صحة الظن ، الثقة بالرواة ، بالعدالة والضبط . أما الأخبار عن الواقعات ، فلابد في صدقها وصحتها ، من اعتبار المطابقة ، فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه ، وصار فيها ذلك ، أهم من التعديل ومقدماً عليه . إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ، ومن الخارج بالمطابقة … وهذا قانون في تمييز الحق من الباطل ، في الأخبار بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه . وهذا هو غرض الكتاب الأول من تأليفنا … وكأن هذا علم مستقل بنفسه ، فإنه ذو موضوع : - وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني . وذو مسائل : - وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى . وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أم عقلياً »(1) . إن من يفهم سنن علم الاجتماع والنفس ، في الدعاية للصناعة والتجارة ، يمكن له أن يقوم بأعمال ، تجعل الناس يبذلون أموالهم ، ويقبلون على شراء السلع ولدى الناس بالفطرة أو السليقة البدائية ، من يقوم بهذا العمل من الباعة المتجولين . ولكن الأجهزة المتخصصة على المستويات العليا ، والتي تدرك الأمور بدقة في جميع جوانبها ، تقوم بأعمال ، يُظن أنها من عالم الخيال . كذلك علم النفس الاجتماعي الحربي الدعائي ،وكذلك علم النفس الاجتماعي العقائدي الفكري ، وهو ما يسمى بالإيديولوجيات . إن مجتمعاً معيناً في الثقافة والوعي ، قد لا يتأثر بنوع معين من الدعاية ، بينما يؤثر ذلك في مجتمع آخر . إن حماية مجتمع ما ، في الحرب والاقتصاد والعقيدة ، ليس خاضعاً للمصادقة ، ولأمور اعتباطية ، وإنما يخضع لموازين دقيقة ، مما بالأنفس من الأفكار ، التي يمكن أن يُجري عليها الاختصاصيون التعديلات المطلوبة كماً وكيفاً ، ضمن نطاق زمن محدد ، بناء على خبرات سابقة ، من سنَّة الأولين أو المعاصرين . كل ذلك علم ، وكل ذلك سنن ، يمكن معرفتها والسيطرة عليها ، وتصحيح الأخطاء فيها ، ومسابقة الزمن في ذلك . ولكن لن يتمكن من ذلك عقل مرعُوبٌ ، لا علم له بأحداث العالم ، ولا يعرف من أين تأتي المصائب ، ولا كيف تدفع ، ولا كيف تُعطى المناعات للمجتمعات ، ضد الأخطار الفكرية ، لحماية المجتمع ، فضلاً عن أن ينشئ أجهزة لمراقبة الانحرافات وتصحيح الأخطاء ، على أساس السنن والقواعد التي تخضع لها المجتمعات .