كيف أضعنا نواة الشورى
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
إن الله لما ذكر في القرآن وسائل النقل التي كانت معروفة إلى عهد قريب ذكر الخيل والبغال، ثم قال "ويخلق ما لا تعلمون"، ونحن رأينا وسائل جديدة للنقل في عصرنا لم تكن لتخطر على بال أحد من البشر. بل حتى أن وسائل نقل الأفكار والمعلومات تطورت في العقود الماضية بسرعة عجيبة. أما وسائل نقل الحكم خلال التاريخ البشري فقد كانت تتم بالعنف والقتل والوراثة، إلا أن البشر طوروا أيضا وسائل انتقال الحكم في الغرب بإدخال مفاهيم الشورى والعدل والمساواة. وهي أمور يصعب على كثير من المجتمعات اقتباسها والتكيف معها لطول المدد التي عاشها الناس على الطرائق القديمة. أي أن المجتمع الذي لا يمارس الديمقراطية الآن هو كالفرد الذي يركب الخيل والبغال والحمير في عصر السيارات والطائرات.
ولا يتمكن الناس من التكيف مع الطرق الحديثة، لأن التغلب على المواريث التي ترسخت في نفوس الناس صعب وخاصة أن رصيد تحصيل هذه الطرق الحديثة جاء بتطور بطيء وبمعاناة شديدة، ودُفعت أثمان باهظة من الحروب والفتن التي كانت تبدد الموارد البشرية. وهذا الوعي التجريبي التاريخي المتعمق والممتد هو الرصيد الذي أوصل البشر إلى إبداع وسائل الحكم بين الناس بالعدل والمساواة والخروج من العنف والوراثة الأبدية للحكم.
والعصر الإسلامي الأول كان متكيفاً وقدم نموذجاً ولو كان فلتة تمت لمدة قصيرة، ولكن الله وقى شرها باعتراف عمر ثم جعلها شورى بين الستة أشخاص الذين مات رسول الله وهو عنهم راض. ذكرت في مقال سابق كيف كان الرسول (ص) وأصحابه ينفذون الشورى في اتخاذ قرارات الحرب بطلب من الرسول وبمبادرة من أصحابه. وسأسوق لكم مقطعا مطولا عن موضوع الشورى في انتخاب الخليفة كما ورد في البخاري: "عن ابن عباس قال …قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد جالساً إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر فلما رأيته مقبلأً قلت لسعيد ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فأنكر علي وقال ما عسيت أن يقول: ما لم يقل قبله فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل أن يكذب علي، إن محمداً (ص) بالحق وأنزل عليه الكتاب … فذكر أموراً… ثم قال إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً فلا يفترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وأنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةً أن يقتلا وإنه قد كان من خيرنا حين توفى الله نبيه (ص) أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأَسْرِهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة… فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح… فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار… قال عمر وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا".
وفي مسند أحمد: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام على المنبر يوم الجمعة… ثم قال رأيت رؤيا لا أراها إلا لحضور أجلي … وإن الناس يأمرونني أن أستخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه وخلافته التي بعث بها نبيه وإن يعجل بي أمر فإن الشورى في هؤلاء الستة الذين مات نبي الله وهو عنهم راض فمن بايعتم منهم فاسمعوا له وأطيعوا …وإني أشهد الله على أمراء الأمصار إني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم ويبينوا لهم سنة نبيهم ويرفعوا إلي ما عمي عليهم … قال فخطب الناس يوم الجمعة وأصيب يوم الأربعاء".
كانت هذه الخطوات تطوراً نوعيا ونواة وكان يمكن أن تتطور إلى مجلس شورى حقيقي. إلا أن المسلمين فقدوا هذا. ولكن البشر تطوروا وعانوا حتى ظهرت نماذج من الحكم الشوري في اتحادات مثل الاتحاد الأوربي، أي أن الديمقراطية الحديثة نموذج جديد متطور أصله ثابت في الإسلام وفي الكتاب والسنة، وفرعه في تطور العالم باسق.
ونحن الآن حين نحلل هذا الفهم الذي به فهم المعاصرون لنزول القرآن، وأضفنا إليه فهم آيات الآفاق والأنفس، فيمكن أن نفهم منه أمرين مهمين في مشكلة الحكم والسياسة، وهذان الأمران المهمان جداً هما: أولاً أن يكون الحكم برضى الناس واستشارتهم، أي أن لا يكون بالقوة والعنف، وثانياً أن الملك ليس بالوراثة.
هذان الأمران ثابتان، وإن حصل قصور في تحقيق ذلك. وحين سمى المسلمون عهد الخلفاء الراشدين بالرشد فهذا لأن الخلفاء الأربعة الأوائل لم يأتوا بالإكراه ولا جعلوها وراثة في أبناءهم. "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، فالذي يأتي بالإكراه لا يكون رشداً. وهذان الأمران واضحان جداً في هذا الحديث الطويل الذي سقناه ويكفي أن لا يضيع الأصل في الإسلام، "وأمرهم شورى بينهم". وعلينا أن نسرع في نشر هذا الوعي وإدانة العنف والصبر على تعليم الناس وتحمل ميثاق الله في تبليغ ما أنزل الله وأرانا في الأفاق والأنفس بتصميم لا عودة عنه.