غير المغضوب عليهم ولا الضالين

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
مقالات ذات صلة
......................
انقر هنا لتحميل المقالات (Doc)


صدر في دمشق عن دار الفكر، كتاب لمحمد خاتمي بعنوان "الدين والفكر في شراك الاستبداد"، هذا العام، ويفتح الفصل الأول من الكتاب بقصة: "كان يعقوب بن ليث الصفار يطمع بالاعتماد على قوة العيارين بدولة مستقلة فتمرد على الخليفة العباسي واستولى على خراسان بعد سيستان، وعندما وصل إلى نيسابور سمع من يقول: "من ليس معه عهد من الخليفة فهو عاصٍ"، فدعا يعقوب الناس إلى ساحة ووقف في مكان مرتفع وإلى جانبه عدد كبير من الرجال المسلحين فقال لعبده بعد أن اطمأن في مجلسه: "هات عهد أمير المؤمنين لنعرضه عليهم"، وذهب العبد ثم عاد ووضع أمام الأمير سيفاً مجرداً من غمده ملفوفاً بخرقة فشهر الأمير السيف وقال للناس وهو يهزه في الهواء: "أمير المؤمنين في بغداد وهل غير هذا السيف أجلسه هناك؟ وهذا السيف نفسه قد أجلسنا هنا. إذًا عهدي وعهد أمير المؤمنين واحد".

ويعلق خاتمي على هذه القصة قائلاً: إن يعقوب بن ليث كان يطمع أن تمتد سلطته من خراسان إلى جميع بلاد المسلمين. هكذا لخص خاتمي بهذه الكلمات الموجزة جولته في الفكر السياسي للمسلمين، حيث يمثل خاتمي أول ممثل للسلطة يستمد قوته من إرادة الشعب الإيراني الذي انتصر على السيف بقوة الإرادة وليس بالسيف. وهكذا أيضاً حول الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم أمنية المسيح عيسى بن مريم عليه السلام القائل: "كل من أخذ بالسيف، بالسيف يهلك" إلى مبدأ مُعاش حين حول أمنية كل الأنبياء ودعواتهم إلى واقع في الأرض واستقبله أهل المدينة مستبشرين رجالاً ونساء وأطفالاً دون إكراه بالسيف وإنما باحترام إرادة الإنسان وعدم ممارسة الإكراه عليه بالسيف، ولكن عهد الرشد في الإسلام كان قصيراً، حيث هجر المسلمون الرشد وقلبوا الرشد إلى الهرقلية.

واستمر الأمر هكذا إلى أن وصل بعض الناس في العالم، بعد أن ذاقوا العذابات الأليمة، إلى الاتفاق على عدم اللجوء إلى السيف في صنع السياسة، فكان هذا تحقيقاً لإرادة الله في البشر من أن الناس سيضطرون إلى قبول نور الله مهما كان سعي الذين يريدون إطفاءه، فظهرت الديمقراطيات كجزر صغيرة في العالم، حيث يصل الناس إلى الحكم بغير السيف وبغير الوراثة، وظهر هذا لوقت قصير

في العهود الإسلامية ولكن ولد عند الذين دفعوا ثمنه غالياً وكان نموه أيضا بطيئاً ومحصوراً.

ولكن الإشكالية أن هؤلاء الديمقراطيين صنعوا مؤسسات عالمية أبعدوا الرشد عنها، حيث وضعوا حق الفيتو الروماني بدلاً من الرشد، وصار ما يسمونه الشريعة الدولية شريعة الأقوياء في السيف، والذين يهاجمون شريعة القوة هذه بالقوة هم مثل يعقوب بن ليث الصفار، حيث يجعلون عهد القوة عهدهم أيضاً.

والنزاع الآن هو في جعل الإكراه شرعياً. إن الشرعية لا تأتي بالإكراه، والدين لا يأتي بالإكراه، والذي يأتي بالإكراه لا شرعية له، " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( البقرة 256 )، إن من يأتي بالإكراه ويعطي لنفسه الامتيازات ويحرم غيره منها تكون شريعته شريعة الغاب، ويكون مصيره مثل مصير كل الطغاة الذين=" الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ"(الفجر 11-14)، هدفي من هذا كلهم أن نفهم ختام سورة الفاتحة من القرآن الذي وضعته عنواناً لمقالة الأسبوع. هذه الخاتمة تذكر ثلاثة أصناف من الناس:

1_أهل الصراط المستقيم

2_المغضوب عليهم

3_الضالون

أهل الصراط المستقيم هم الذين أنعم الله عليهم بمعرفة الحق وأتباعه، أما المغضوب عليهم فهم الذين عرفوا الحق ولكن رفضوه وعادوه، وأما الضالون فهم الذين لم يعرفوا الحق وضلوا السبيل، ولجهلهم يمكن أن يستخدمهم العالمون سواء كان هؤلاء من العالمين مع الحق أو ضده.

وأنا أريد أن أوضح أن المشكلة الإنسانية صميمها العلم والجهل، وإن إخراج الناس من الظلمات إلى النور يكون بالعلم، بتعليم الناس وإيصال المعرفة إليهم، ولكن إن لم يوجد أهل العلم، فهناك يعم الظلام ويحق على الجميع ما قاله المسيح عليه السلام:"إذا قاد الأعمى الأعمى سقط كلاهما في المهوى". والإنسان هو القادر على اتخاذ القرار حين يصير عنده علم، فمن هنا كان طلب العلم فريضة على كل إنسان.

وإذا فُقد العلم وحب الاستطلاع ووُقع في اللامبالاة واليأس من كثرة الظلام والجهل فإن على أهل العلم أن يعالجوا هذا المرض، لهذا من أكبر الواجبات عليهم تبليغ العلم وعدم كتمانه، حيث يهدد الله أهل العلم الذين يكتمون العلم بأشد التهديدات فيقول:

" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ" (البقرة 140)، ويقول:

" وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " (البقرة 42)، ويقول: "و لَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ " (البقرة 283)، ويقول:

" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " ويقول:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " (البقرة 173- 174).

الرأسمال هو الإنسان القابل للعلم والتزكية، يقول الله:

" واللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا"(النحل 78)، ويقول:

" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا "(الشمس 9)، إن الله خلق الإنسان ملهَماً للفجور والتقوى، ولكن تزكيته وتدسيته من قبل الانسان، وهو يحوله إلى أحسن تقويم أو إلى أسفل سافلين، وهذا من صنع الإنسان وليس صنع الله، كما التراب يمكن زرعه بالشوك أو بالعنب؛ الله أيضاً خلق التربة، ولكن الإنسان هو الذي يصنع البستان، والقاعدة المهمة الكبرى هي قول الله تعالى: " قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ " (الأنبياء 24)، هذا معناه حتى حين يعرف الناس الحق يمكن أن يُكتم الحق، ولكن هؤلاء قلة أيضاً، وهم "المغضوب عليهم" أي يعلمون الحق ويعارضونه عن علم،

"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ " (النمل 14)، ولكن إذا علم الناس الحق وبشروا به ووضحوه، سيكون أكثر الناس معهم، لأن الذي يجرئ المغضوب عليهم هو كثرة الضالين.

العالم نزاع بين العلم والجهل، فإذا أدى أهل العلم واجبهم سيكون أكثر الناس مع الصراط المستقيم، لأن ما يجرئ "المغضوب عليهم" على محاربة الحق هو كثرة الجهل، ألا فليعلم الناس أن رصيد الديمقراطية هو وعي الشعوب، فالعلم الراشد هو الذي سيصنع الحكم الراشد وترشد الإنسانية التي ستقضي بعد ذلك على الفيتو والامتيازات.

"ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ " (الروم 4)، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (غافر78).