ظاهرة جديدة نشيد لها
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
إن رؤية مثقف بمستوى الدكتور عبد الله النفيسي يجلس في قناة فضائية وعلى صدره لافتة مكتوب عليها "لا للتطبيع مع الكيان الصهيوني" لمنظر جديد، على الأقل علي أنا، وله مغزى عندي بصرف النظر عن المحتوى لهذا الإعلان. إن مجرد الإعلان ظاهرة صحية وخاصة في موضوع يتبناه العالم السياسي، ليس محلياً فقط وإنما عالمياً، وإن كانت الشعوب العربية والإسلامية في ريبة منه، حيث لا يعرض البديل بوضوح يُخرج الناس من الحيرة والتردد. إلا أن إعلان د. عبد الله النفيسي عن رأيه في لوحة تتدلى على صدره مكتوبة بلون أحمر وبالخط العريض تعرض بديلا.
ماذا يعني هذا في عالمنا العربي؟ إن حركة مثل هذه تعني الخروج من الصمت في اتخاذ المواقف وفي الإعلان عن الرأي. وهذا معناه أن النفيسي أعطى لنفسه حق "حرية الرأي" ورفض الإيحاء بأن التطبيع رأي مجمع عليه، وأرانا أن هناك صوت يقول: "لا!" وأرانا أيضا أن صوته مخالف للتوجه الإجماعي في السياسة في موضوع التطبيع. وهذا الموقف له مغزاه العميق، لأن التطبيع يُفرض على السياسيين أو يشعرون أنه مفروض عليهم ويفرضونه على شعوبهم كخيار وحيد لا بديل له.
ما معنى هذا الإعلان من المثقف؟ وما هي الأرضية التي ينطلق منها هذا الإعلان، والى من يتوجه هذا الإعلان؟ هل هو إلى الشعوب أم القادة السياسيين، أم للعالم جميعاً؟ إن التطبيع الذي يحيط به الضجيج يُفرض على السياسة دون أن يكون معها خيار آخر. ولكن الشيء الخبيء في عرض كهذا هو التسليم الذي يفرضه، لأنه مبني على فقدان البديل عنه. لقد آمن الكل بأنهم لا يستطيعون حل المشكلة بالقوة المتوفرة لديهم، وأوحوا إلينا أنه لا بديل عن هذا الموقع.
ولكن نرى في موقف النفيسي أن المثقف خرج من الصمت وأعلن رفضه مبدئياً لهذا الحل للمشكلة المستعصية التي ملأت الأسماع والأبصار بالرعود والبروق، وسيقت إليها الشعوب بدون أن يطرح الموضوع للاستهام (للاستفتاء) (أي بدون أن يكون هناك خيار)، كأنه طريق ذو اتجاه واحد لا محيص عنه. فمن هنا كان لإعلان د.النفيسي مغزاه، فقد ظهر من يقول "لا" بدل "نعم". كأن المعارضة بدأت تعلن عن نفسها في صوت المفكر والمثقف الذي له قدرة على المناورة، لأن دور المفكر والمثقف هو تقديم أرضية لحلول بديلة.
إن الذي ليس عنده تصور إلا العنف يستسلم للتطبيع. ولكن الذي ينطلق من الثقافة والفكر وليس من سيطرة القوة يقول "لا" للتطبيع. ومن طبيعة المفكر والمثقف أنه لا يواجه المشكلات بالعنف وإنما يواجهها بالآراء البديلة. إن الفكر عالم أعزل مختلف يقدم شيئا آخر غير القوة، أو هكذا الفكر الذي يؤمن بقوة الفكر. أما الفكر الذي يؤمن بالقوة فهو فكر ألغى نفسه.
ينبغي أن ننظر إلى الأرضيات والأسس التي تبنى عليها المواقف. والنفيسي قام بإعلان موقفه بأسلوب جديد متطور. إن موقف التطبيع مبني على أساس القوة، أي ليس هناك من حل إلا بالقوة والقوة غير متوفرة فلا مجال لغير التطبيع إذاً.
هذه هي مسلمة اتجاه التطبيع. وفوق هذا لا يطرح الذين يركضون وراء التطبيع (لا تصريحا ولا تلميحاً) عودة اللاجئين قبل التطبيع. أما مسلمة الاتجاه الذي يرفض التطبيع فهي مبنية على أساس آخر غير القوة، لأن كل واحد منهم يوحي بأرضيته وأسس منطلقاته صراحة أو ضمنا وأنا أشعر أن د. عبد الله النفيسي المثقف والمفكر غير وارد عنده أن يستخدم القوة أو العنف ضد الذين ديدنهم التبشير بالتطبيع.
حين نقول لا للتطبيع، فما هو البديل؟ البديل المقابل هو( نعم للتطبيع العربي-العربي). إذن، لم لا نبحث مسألة السلام العربي- العربي والتطبيع العربي- العربي والتعاون العربي-العربي؟ ولم لا نبحث أيضاً مسألة (لا للعنف العربي-العربي)؟ إن المشكلة الأساسية المسكوت عنها هي هذا البديل الذي ينبغي للعرب أن يتأملوه جيداً ولاسيما المثقفون وأهل الفكر منهم ليضعوا الفكر البديل بعبارات مختارة معبرة يؤمنون بها عن بينة في عقولهم وقلوبهم ويتكلمون بها بألسنتهم ويضعونها شعاراً على صدورهم مثلما فعل د. عبد الله النفيسي.
وأنا أشك أنه يمكن أن يجتمع الإكراه واللاإكراه في الدين فهما متناقضان كما تتناقض حرية الرأي مع فرض الرأي والإكراه. ونحن نريد رفع الإكراه في الرأي ورفض الإكراه في الرأي، لأننا إذا أزلنا الإكراه فيمكن أن يزيد وعي الناس فيرفضون الإكراه في الرأي.
إن هذا الموضوع ينبغي أن نبحثه من غير ملل لنصل إلى الوضوح في الرأي والموقف، وينبغي أن نضع في فم الإنسان العادي الكلمة التي يمكن أن يقولها بثبات ويتبناها من غير تردد. وأنا أفكر في هذا الموضوع من زمن بعيد ووصلت إلى نتيجة أنه لا نستطيع الكلام لأننا لا نقدم الحل.
فإذا كان لدينا بديل ذو حل فإننا عند ذلك نستطيع الكلام. والحل يكمن في أن لا يخسر أحد شيئاً، لا مالاً ولا ملكاً ولا أرضاً وإنما يربح الجميع وترضى عنهم شعوبهم وتحترمهم خصومهم. عندما نقدم حلا بهذا الشكل نستطيع أن نرفع الشعارات وننطق بالكلمات التي تعبر عن هذا البديل.
أما إذا كان الحل الذي نريده يؤدي إلى نزع الأموال والأرواح والأراضي وإعطاؤها لآخر، وفيه خسارة لبعض الأطراف وفناء لهم -ما دام هذا التصور في قلوبنا في حل المشكلة العربية العربية- فلا يمكن أن نقوله ولا نستطيع أن نرفع شعاراته، ولا يمكن أن نكتب كلماته بخط عريض ونضعها على صدورنا وظهورنا.
ولكن عندما يكون حلنا للمشكلة العربية- العربية من غير أن يخسر أحد ويربح الجميع، فإننا نستطيع أن نعلن هذا في كل زمان ومكان ونرفع الشعارات المعبرة عنه والكلمات التي تدل عليه ونكتبها ونضعها على صدورنا وجباهنا وحقائبنا، ونبرزها في كل مكان من غير تردد ولا ارتياب، حتى لا نكون من الذين في ريبهم يترددون.
الحل من غير أن يخسر أحد شيئاً ويربح الجميع ممكن، وليس مستحيلاً، ولا صعباً. عندما نتفهم ونتأمل هذا الحل ندرك ما تفعله أوروبا الآن بعد أن شيعت حروباً ودماراً. فالأوربيون يعملون اتحاداً من غير أن يخسر أحد شيئاً. وهذا أقرب إلى الله ورسوله والعقلاء من الناس. إن المثل الأوروبي لا يحدث في مجرة أخرى وإنما أمام أسماعنا وأبصارنا، وعلينا أن نحدق في هذه الظاهرة المعاصرة. إن بعض الناس يرونه بعيداً، أما أنا فأراه قريباً. إن رسالة الأنبياء جميعاً هي أن يقوم الناس بالقسط، وإذا تعلمنا ذلك ستحل مشكلاتنا.
ما هي العبارة التي نستطيع أن نصوغها لنعبر عن الحل للمشكلة العربية-العربية من غير أن يخسر أحد شيئاً ويربح الجميع؟ إني أرى الأرضية التي يمكن أن تُنبِتَ مثل هذا الحل، وهي تتطلب أن نُخرِجَ من قلوبنا فكرة توحيد العرب بالقوة. إن قلباً فيه هذا التصور لا يمكن أن يجد الحل البديل، وإذا كنا لن نفرح بالذي يريد توحيد العرب بالقوة فلن يخرج من بيننا المغامر الذي سيكرر أخطاء القرون ويخلف المآسي.
وقف مفكر أمام تمثال لهتلر وقال: إن الرحم الذي أنتج هذا لا يزال يتمتع بخصوبة. ونحن علينا أن نغير تصوراتنا لأنها هي التي تتحكم فينا، وصدق الله: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".