صدمة الأفكار أو ما سمعنا بهذا

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

كيف تكون صدمة الأفكار؟ كيف تحدث يقظة الذات؟ و كيف تحدث القطيعة الفكرية؟ إننا خرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، و كل البشر هكذا، و لكن الإنسان يعيش صدمة الأفكار شاء أم أبى استجاب أم لم يستجب، و لكن في حياة الإنسان صدمات فكرية متميزة، لا يتمكن من نسيانها و تظل حاضرة، وإن كان هناك صدمات لا يحس بها.

في أواسط الخمسينات من هذا القرن الذي أوشك على الانصرام، وقع في يدي كتاب شروط النهضة لمالك بن نبي فكانت الصدمة المميزة في حياتي، كما حدث ذلك لجلال الدين الرومي حين التقى بشمس الدين التبريزي ، فجرى بينهما حوار قصير كان صدمة لجلال الدين الرومي حتى أنه قال عن شمس الدين:

هذه النار فما قصتها؟ أحرقت ما عندنا و قدتها

شعر جلال الدين بالصدمة الفكرية و بالقطيعة المعرفية، سمع أو فهم شيئا لم يكن سمع أوفهم من قبل، فوقع الرومي في أسر أفكار التبريزي، حتى أن تلاميذ الرومي طردوا شمس الذي أفسد الرومي في تصورهم، فهام الرومي وترك تلاميذه وخرج ليجد التبريزي، وظل طويلاً باحثاً إلى أن استيقظ في لحظة إشراق فكري فقال: أواه أنا لم أفقد شمسا، أنا لم أكن أبحث عن شمس ، وإنما كنت أبحث عن ذاتي وقد وجدتها فكف عن البحث عن شمس تبريز و عاد وألف كتابه المثنوي، مما يدل أنه فعلاً و جد الرومي ذاته، وخرج من رحم الأباء، فكان كتابه فريداً في الإبداع والسمو، حتى أنه قال محمد إقبال- و هو أحد المجتهدين الكبار في هذا العصر- قال:

صير الرومي طيني جوهراً من غباري شاد كوناً آخرا

و من صدمة الرومي بشمس تبريز تألق كتاب المثنوي للرومي، و من صدمة محمد إقبال بالرومي لمع ديوان الأسرار والرموز لمحمد إقبال ،الذي عنى به أسرار إثبات الذات، و رموز نفي الذات، أي العثور على جوهر الإنسان. و أنا أعتبر نفسي شرارة من شرارات تلك التألقات في مسيرة الحركة الفكرية في العالم الإسلامي، الذي كان له دور في الحركة الإنسانية، ليتحقق علم الله في الإنسان في الخروج من الفساد و سفك الدماء.

لما قرأت شروط النهضة لمالك بن نبي في أول الأمر، لم أفهم أبعاد ما يقوله، ولكن لم يكن ليخفى عليَ أنه شيء غير الذي أعلمه وأنه شيء ذو وزن ثقيل، و كانت صدمتي بمالك بن نبي يحمل شبهاً بصدمة الرومي بالتبريزي، و فعلاً أحسست أن ما عند مالك بن نبي من نور و نار أضاء الظلمات و أحرق الزبد بشكل لا يمكن الارتداد إلى الظلام، ولا العيش في حياة الغثاء، و إلى الآن أعيش حالة التوتر.

إن مالك بن نبي يذكر لحظة أرخميدس و لحظة زرادشت، معتبراً لحظة أرخميدس لحظة الكشف، كما كشف ارخميدس قانونه المعروف وهو في الحمام، وخرج هائماً يصيح: وجدتها.. وجدتها..!!، وأما لحظة زرادشت فهي الشعور بضرورة نشر الحقيقة، وكشف الأوهام، وأنا شعرت بلحظة أرخميدس، ولكن هل لنا أن نتمكن في حمل الشعلة لتنوير القلوب، وإضاءة الظلمات، هذا ما حاول أن يفعله الرومي في كتابه المثنوي، وهذا ما عاش من أجله إقبال وكتب ما كتب، وهذا ما عاناه مالك بن نبي إلى آخر لحظة من حياته، في سلسلة مشكلات الحضارة، وإقبال لما عبر عن لحظة أرخميدس، وزرا دشت عبر بأسلوب آخر، وذلك أن صوفياً كان يتحدث عن المعراج و السدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى، فقال الصوفي- كما يقول محمد إقبال- أنه لو وصل إلى ذلك المكان و المقام، لما عاد أبداً إلى الدنيا، فقال إقبال معلقاً على قول الصوفي( هذا هو الفرق بين الولي والنبي، أن الولي همه نجاة الذات، ولكن هم النبي نجاة الأمة والناس جميعاً، فهو يعود ليوصل العالم إلى ما وصل إليه، لا أن يبقى هو و حده هناك) فهذا هو لحظة زرادشت عند إقبال لحظة صدمة الأفكار، و لحظة الشعور بضرورة تبيلغ الأفكار، و هو وظيفة الأنبياء " بلغ ما أنزل إليك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته".

و الآن سأذكر صدمة فكرية من صدمات مالك بن نبي فقد قال: عن العالم الإسلامي، أنهم لما يلتقون و يستعرضون مشكلاتهم، يعتبرون مشكلة فلسطين من أولى مشكلات العالم الإسلامي وأهمها، و لكن مالك بن نبياً لم يعتبر مشكلة فلسطين أولى مشكلات العالم الإسلامي، بل اعتبر المشكلة الأولى مشكلة تخلف المسلمين و غيابهم و عدم حضورهم، و أن فلسطين ليس هو المرض، و إنما هو عرض للمرض الأساسي، و اعتبر مشكلة فلسطين مثل المنديل الأحمر، الذي يحمله مصارع الثيران الإسباني، الذي يلوح به أمام الثور الهائج الذي ينطح المنديل بدل أن ينطح المصارع الأساسي، وهذه الفكرة فكرة صادمة حقا،ً وكثير من الذين يسمعون مني هذا يصدمون، وهم من كبار المفكرين في الساحة، وفعلاً إن مشكلة فلسطين قام بدور تعطيل جهد العرب والمسلمين عن مشكلتهم الحقيقية، وهذا الذي نسميه التخلف أو المرض الأساسي للعرب والمسلمين، أطلق عليه مالك بن نبي، مشكلة القابلية للاستعمار، مقابل مصطلح الاستعمار،فأبرز مشكلة القابلية للاستعمار، وأن هذه القابلية أو التخلف أو الحالة الغثائية، كما في حديث الرسول(ص):" أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل".

المشكلة ليست المصطلحات أو الأسماء التي نطلقها على الوقائع والأحداث أو الحالات النفسية، كما تقول الصوفية، إن مرض العالم الإسلامي ليس خافيا،ً فقد أطلق على الدولة العثمانية الرجل المريض، والحربان العالميتان كانتا من أجل التنازع على توزيع تركة هذا الرجل المريض، العبارات كثيرة ولكن المعنى واحد، إن للشمس أسماء بقدر لغات البشر، ولكن الشمس واحدة، وكذلك تخلف المسلمين، وقابليتهم للخداع، والاستعمار، وأنهم غثاء كغثاء السيل … الخ.

إن مالك بن نبي لما صدمني بهذه التصورات، أدركت بسرعة صحتها وقوتها وعمقها، ولكن ذلك كان يتأكد على مر الوقت، إن أحداث التاريخ كانت تصدق هذا التصور، ولكن حجم هذه الصدمة تكاملت، لما رأينا حرب الخليج الثانية، حين نسينا مشكلة فلسطين لما برزت المشكلة التي بين العرب بالذات، آمنا بالمشكلة، ولكن الصدمة كانت شديدة فعقدت ألسنتنا وتبلد فكرنا، لم نستيقظ بعد من الصدمة، ولم نستطع أن نحللها، لأن الموضوع لم يصر علماً يتداول، وإنما تماراً وشنارا،ً اشترك فيه الجميع، فتبادلنا التهم والإدانة، ولم نكشف السبب العميق الكامن الخفي والمسيطر، أو العقدة النفسية، أو اللاشعور، حسب تعبير القرآن الذي يقول لنا " إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".

كيف نضيء اللاشعور المظلم الخفي المطمور تحت الأنقاض؟ الذي يفسد علينا حياتنا، كيف نفرق بين ما نحب ونكره؟ وبين ما هو علم وشعور في النور؟ وليس في الظلام. فإن مالكاً بين كثيراً من لا شعورنا، الذي يفسد علينا حياتنا، أبرزها إلى الشعور، إلى الضياء، إلى العلم والمعرفة، وليس في ظلام الحب والكراهية، لأن الحب أعمى. ورد في الحديث " إن حبك الشيء يعمي ويصم".

ونحن العرب والمسلمين نحب ونكره فقط، ولكن لا نعلم، والله يقول : عسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولكن ليس معناه أن هذا لا يمكن أن يدخل في عالم العلم، الأحاسيس والمشاعر خداعة، ربما يتضح لنا هذا فيما يأكله الناس ويشربونه، إن الأحاسيس والمشاعر هي التي تتحكم فيما يأكلون ويشربون، وليس العلم و حاجة الجسد، وعالم النفس السلوكي يركز على أن سلوكنا يخضع للأحاسيس والمشاعر، وليس على العلم والمعرفة، نحن أخطأنا بحسنا البصري في فهم حركة الشمس الخادعة، أخطأنا في فهم أوضح شيء في الوجود، أخطأت أعيننا جميعاً في فهم حركة الشمس، وحتى تراجع أمام الحس البصري الخاطئ، ولكن المسيطر تراجع جاليلو عن علمه أمام الحس الخاطئ، فإذا أخطأنا في فهم أوضح شيء في الوجود، فما هذا الذي يمكن أن نقول أننا لا نخطئ فيه، فمن أجل هذا كان لا إكراه في الدين.