دور الفاعلين الدينين في بناء السلم والديمقراطية

من Jawdat Said

مراجعة ٠٧:٠٤، ٢٠ ديسمبر ٢٠٠٩ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث

الإسلام، المسيحية وأوربا

السلسة الثانية 2009 ـ 2010

"دور الفاعلين الدينين في بناء السلم والديمقراطية"

هذا نص المحاضرة التي قدمت للمؤتمر، النص متوفر باللغتين الإنجليزية والفرنسية.




الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، والآمرين بالقسط من الناس.

مدخل

قبل نحو نصف قرن كتبت كتابًا تحدثت فيه عن دور المفكر والفكر في الأزمات. صحيح أنني كنت أتحدث فيه عن أزمة العالم الإسلامي، وصحيح أني كتبته قبل نصف قرن، وهذا زمن حدثت فيه تطورات كثيرة في عالم يتغير باطراد وبسرعات كبيرة، لكن المنطلقات التي في الكتاب - من وجهة نظري- ما زالت صالحة لمقاربة الأزمة العالمية ، كان عنوان الكتاب جزءًا من نص قرآني: ((حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) وخلاصة القول فيه أن الأزمة تنشأ في الفكر قبل أن تنشأ في الواقع، الأزمة تنشأ عند المفكر قبل أن تتجلى عند السياسي، العالم في أزمة لأن المفكر في أزمة، وهذا يشمل كل أزمات العالم: أزمة البيئة والمناخ، أزمة الغذاء، أزمة الاقتصاد، أزمة التعايش، أزمة النزاعات والحروب المختلفة، كل هذه الأزمات لها منشأ واحد هو أزمة الأفكار، هذه كانت خلاصة ذلك البحث، وهي بحسب تصوري مازالت راهنة.

إن الأفكار والمفكرين هما منشأ الأزمة، سواء فيما يقدمونه أو فيما لا يقدمونه للناس، ولذلك فإنه من التزوير الكبير أن يحضر المثقف في الأزمات كمنقذ. إن من الأجدر به أن يحضر كمتهم ، أن يحضر للمراجعة واتهام الذات والبحث الجذري، وإعادة النظر في المنطلقات. لكن وبكل أسف ومرارة، فإن دور المثقف إلى اليوم يعتريه تشوهان كبيران:

ـ إما أنه في وعيه وفهمه يسير خلف التاريخ، ومن ثم فإنه لا يملك القدرة على رؤية راهنة للعالم، تستند على التاريخ وتستشرف المستقبل، تمكنه من تقديم مشورة نافعة ونصح سديد للساسة تساهم في تغيير التوجه العالمي المنتج للأزمات.

ـ أو أنه متواطئ صامت راض بما تؤمنه له الأوضاع السائدة من امتيازات أنانية تجعله يغض الطرف عما يحدث في العالم، وعندما يستشيره الساسة يقدم لهم ما يريدون لا ما ينبغي عليهم فعله ، بل إن هذا التواطؤ بحسب المفكر الفرنسي بيير بورديو هو العامل الأساس فيما نحن فيه من أوضاع.

واليوم أشعر أن من واجبي أن أقدم وجهة نظري كإنسان يراقب هذا العالم الصاخب الذي اختلطت فيه المصالح والمغارم، عالم يتمتع فيه خمس البشرية بالمعرفة والثروة والامتيازات، بينما يعيش أربعة أخماس البشرية في فقر وفساد وبؤس.

وسأحاول هنا أن أشرح وضعًا بشريًا صعبًا، ليس لأنه غير واضح، بل هو واضح جدًا، لكن وضوحه مثل وضوح الشمس ، التي ظن الناس لقرون طويلة، أنها تدور حولهم فتبين أنهم يدورون أمامها وحولها. إننا نعيش أمورًا كثيرة بهذا الوضوح والخفاء، والموضوع الذي نحن بصدد بحثه هو من هذا النوع الخفي الجلي في آن واحد.

في العالم الذي نعيش فيه اليوم، تتمتع قلة قليلة لا تزيد عن 20% من البشر بـ80% من الثروة، بينما تتراجع حصة الـ20% الأدنى إلى ما دون 1.4%. وفي كل مجتمع من المجتمعات تقسم الثروة بطريقة شبيهة بذلك. كما أن النظام العالمي الحالي يكاد يكون مكرسًا للحفاظ على هذه القسمة وضمان تلك الامتيازات، وكل القلق من امتلاك دول جديدة للسلاح النووي مرده الرغبة في الإبقاء على هذه القسمة الجائرة للسلطة والثروة في العالم وفي داخل الدول.

الفساد وسفك الدماء هي مشكلة البشر حتى اليوم ولهذا نحن نجتمع!

وكمؤمن بالعقل والوحي، يقرأ آيات الله في الكون والكتاب، يفتح سمعه وبصره على ما يحدث في العالم، يتحرك بين النص والواقع، ويعيش جدل الوحي والتاريخ، أجد أن القرآن يسهل علي الدخول إلى هذا البحث، فهو يعطي قيمة كبيرة للتاريخ وعواقب الأحداث ، ويؤكد أن هذا الكون يعيش حالة خلق وزيادة مستمرتين، وأن هذه الزيادة نحو الأفضل . وهو - أي القرآن - يؤكد على ختم النبوات وإغلاق باب السماء، وانتهاء عهد الأنبياء ليبدأ عهد العقل الإنساني، حيث يقوم الآمرون بالقسط من المثقفين بوظيفة النبيين .

فمقابل إغلاق باب السماء فتح القرآن باب الأرض، وصار التاريخ وعواقب الأحداث مصدرًا للمعرفة والوحي الدائم ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)) [العنكبوت، 20]، ومقابل انتهاء عصر النبوات، يقوم النشطاء الدينيون والمثقفون بمهمة الإصلاح، المهمة التي اعتقد أنها هدف مؤتمركم الكريم.

والقرآن يقارب القضية موضوع المؤتمر من ثلاث زوايا بحسب فهمي، ومن خلال ثلاث قصص:

الأولى تتحدث عن الإنسان والفساد.

والثانية تتحدث عن تحمل المسؤولية.

والثالثة تتحدث عن اللاعنف والعقل.

من أراد أن يفهم هذه القصص كحقائق تاريخية له ذلك ومن رآها قصصًا رمزية فلا حرج، المهم أن نقف عند معانيها :

1 - خلاصة القصة الأولى: أن الملائكة اعترضت على خلق الإنسان في لحظة الخلق الأولى و((قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)) فأجابهم الله: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))، وهذا النص كما نفهم من التاريخ، يرسم الأفق الذي يتحرك إليه الإنسان، فالإنسان وإن بدأ في الفساد وسفك الدماء لكن منحى تطوره واتجاه تقدمه هي: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) وإذا كان البشر إلى اليوم لا يزالون يعيشون حسب توقعات الملائكة، حيث الفساد وسفك الدماء وشن الحروب، فإننا نرصد في التاريخ ما نقرؤه في الكتاب من خطو الإنسان باتجاه ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [البقرة، 30].كإشارات على بدء تحقق علم الله في الإنسان.

2 - في القصة الثانية يتحدث القرآن عن آدم وزوجه عندما أوصاهما الله: ((لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ))، لكنهما نقضا الميثاق، فأكلا من الشجرة المحرمة وعندما ناداهما ربهما ((أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ)) كان جوابهما: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)) [الأعراف، 19-23]، فاعترفا بالخطأ وتحملا مسؤولية فعلهما، وهذا يمكن أن نقرأه على أنه جواب على اتهام الملائكة في النص السابق، ورسم ملامح سبيل الله، سبيل الإنسان للتقدم في التاريخ، مقابل سبيل الشيطان الذي يبرر معصيته مرة بحجة عنصرية ((أنَا خَيْرٌ منْه))، ومرة بحجة فلسفية ((فَبِمَا أغْوَيْتَنِي)). وخلاصة القصة إن تبرئة الذات واتهام الآخر ليس حلاً للمشكلة، وإنما ابتعاد عن سبيل الحل، إن الحل يكون باتهام الذات، والبشر جميعًا حتى يومنا هذا على مذهب الشيطان في تبرئة الذات واتهام الآخر، وليس على مذهب آدم في اتهام الذات الذي تدعمه سنة التاريخ وحقائق الحياة ومنهج القرآن. ((مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء، 79].

3 - القصة الأخيرة، قصة ابني آدم، فالذي فشل في عمله قال للآخر: ((لأقتلنك))، لقد اتهم الآخر بأنه سبب الفشل، بدل اتهام ذاته، ورأى القتل سبيلا للحل، لكن الإنسان الذي أدرك إنسانيته وعرف نعمة الله في الدماغ الذي وهبه، أبى أن ينتكس إلى عالم العضلات، بعد أن عرف نعمة العقل فأجاب: ((لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) [المائدة، 27-28]، لقد رفض أن يشارك في القتل بإصرار ووعي وتحمل للمسؤولية والتبعات، لقد أدرك إنه يملك سلطة جديدة هي سلطة العقل، وعليه أن يستخدمها فدشن بهذا عهدًا جديدًا، شكل نقلة نوعية للتاريخ والوعي الإنساني.

وهكذا فإن استهلال التاريخ الإنساني لم يكن بالقتل أو بالجريمة، وإنما كان بخيار إنساني يتناسب مع هذا الخلق الجديد الدماغ الإنساني، فكان اللاعنف، ورفض القتل وسفك الدماء، وعدم الدفاع عن النفس . والتاريخ سجل هذه الشهادة مرات كثيرة، وكان أكثر المرات وضوحًا، في موقف سقراط وتحديه بقبول الموت، على أن يوقفَ حواره مع الجهاز العصبي، أو يتخلى عن واجبه ومسؤوليته.

محور هذه القصص هو الثقة بالإنسان ومستقبله، وتأكيد أهليته لعمارة الأرض، والإيمان بقدرة الإنسان على وقف الفساد وتوطيد العدل، من خلال تحمل البشر عمومًا والمثقفين خصوصًا مسؤولياتهم في التاريخ، فعليهم ألا ينتظروا المخلص فكلهم مخلص، عبر سبيل الله، وطريق ابن آدم، طريق احترام عقل الإنسان، الذي يعني تلقائيًا اتهام الذات وسلوك اللاعنف، فالإيمان بالعقل أسلوبًا لحل المشكلات، هو استبعاد بطريقة آلية للعنف والقتل كحل أو أسلوب لحل المشكلات.

توحيد الله هو العدل

إن العدل بحسب القرآن هو منطلق الثيولوجيا الجديدة، لأنه هو التوحيد، فتوحيد الله الذي في السماء ليس مسألة ميتافيزيقية وإنما مسألة اجتماعية سياسية، أي أن لا يكون هناك آلهة بشرية على الأرض، فما دام هناك أصحاب امتيازات في العالم، فلا سلام ولا حقن دماء، بل بؤس في جانب وخوف وقلق في جانب آخر، بؤس ومعاناة عند الغالبية من سكان الكوكب وخوف وقلق عند القلة المترفة، يعني أن يتقلب الجميع في جحيم الخوف والقلق، سواء على لقمة العيش أو على الامتيازات ، وحسب القرآن فإن الغاية من الرسل والنبوات هي ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) [الحديد، 25]، وهذا ما تبينه أيضًا آية السواء التي أرسلها الرسول محمد إلى ملوك زمانه: ((تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [آل عمران، 64]، في إشارة واضحة إلى أن توحيد الله في السماء يعني أن نساوي بين الناس على الأرض. إن هذه النظرة إلى التوحيد والعدل تجعل المثالية واقعية، والغيب شهادة، والإلهي بشريًا، والخارق سننية، وبهذا فقد صار الدين علمًا.وكل شيء صار علما يصير عالميا.

أنتم اليوم تناقشون دور المتدينين في مناطق الصراع، وأنا أقول إن الأرض كلها هي منطقة صراع، والنزاعات المحلية والفساد المحلي هو وليد الفساد الكبير في الأمم المتحدة، إن الامتيازات التي يريد الكبار أن يحافظوا عليها هي بذرة كل الشرور، ومادام العدل خيارًا غير مطروح لحل النزاعات، ومادمنا نعبد القوة، ونسكت في مجلس الأمن عن حق الفيتو الذي يعيق نمو العالم فلن يعمّ الأمن ولا السلام، ((وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)) [القصص، 59].

وأنا أتساءل، هل كان بإمكان النازية والفاشية لو انتصرتا في الحرب صنع مؤسسة أسوأ من الأمم المتحدة؟ ماذا كان سيفعل هتلر وموسوليني إلا أن يعطيا لنفسيهما مع اليابان حق النقض؟ إن نظام العالم الذي نعيش فيه اليوم يكرس شريعة الغاب، فهو مفروض بقوة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ومنظمة الأمم المتحدة معبد تعبد فيه أصنام القوة، وورقة لا تستر عورة الإنسانية بل تفضحها. كيف يمكن أن ندعو إلى حقوق الإنسان والديمقراطية، ونقر في الوقت ذاته بمبدأ هو ضد الديمقراطية وضد حقوق الإنسان وضد الإنسانية. إن من يفعل ذلك هو مثل من يبحث عن القشة في أعين الناس، أما الخشبة التي في عينه فلا يراها . إن السكوت على الظلم والفساد نفاق سياسي وديني وثقافي، لكن التاريخ يخبرنا بأن أصحاب الامتيازات لا يتخلون عن امتيازاتهم طواعية.

إن هذا التحليل يشعرني براحة عظيمة كيف لا وأنا أستند إلى التاريخ والأنبياء وحقائق الحياة، وأدعو إلى كلمة السواء التي يفسرها القرآن بأنها أن ((َلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [آل عمران، 64]، أي أن لا يكون أحد فوق القانون، فهذا هو الشرك، وهو الذنب الذي لا يغتفر، وهو الظلم العظيم الذي يحبط كل الأعمال ولا تنفع معه بقية الطاعات، وهو المنتج لكل مآسي التاريخ، ألا من كان له أذنان للسمع فليسمع .

لا بد من تجديد العالم وتجديد مبادئه، فمبادئ العسكر وعبادة القوة لا يمكن أن تنتج إلا عالمًا مريضًا مأزومًا كالذي نراه، الكلمة فيه للقوة، يسوده الظلم ويحكمه حق الفيتو (الميراث الروماني الذي لا صلة له بالحداثة) ، والذي يشكل انتهاكًا مستمرًا فاقعًا لمبادئ حقوق الإنسان، ورصيدًا لكل الطواغيت الصغار في العالم الثالث.

إن مما يسجل للأوربيين أنهم لم يبتكروا وسائل لنقل البشر والمعلومات فقط، بل ابتكروا وسيلة لنقل السلطة غير القتل والوراثة. وسيلة تحترم العقل الإنساني وتحيي معنى الشرعية وتعطي قيمة لاختيار الناس، كما مارسه النبي محمد في القرن السابع، وكثيرًا ما أكرر أن الإنسان هو أعظم ما خلق الله، والديمقراطية هي أعظم ما صنعه الإنسان، وجوهرها أن يؤمن الجميع بعدم اللجوء إلى العنف في حل المشاكل، بل إلى الإقناع وعد الأصوات. إن الديمقراطية خلق جديد، ينمو نحو الأفضل، إن (دمقرطة = جعل العالم ديمقراطية كبيرة) العالم هو التحدي الذي ينتظر المثقفين والساسة حتى يصبح العالم أكثر أمنا وراحة للجميع.

يا عالم الكبار لستم على شيء حتى تقبلوا أن تصير الأمم المتحدة تجمعًا بشريًا ديمقراطيًا له سلطاته الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية كما في أي بلد ديمقراطي، وعند ذلك يمكن أن نقول: إن مفهوم الشرعية قد ترسخ، وإن العدل والسلام سيعم العالم، وإن أمنية جميع الأنبياء قد تحققت.

آيات الآفاق والأنفس ومرجعية التاريخ

((سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت،53]،

((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) [الأنعام، 11]،

((فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)) [يونس، 39].

يستشهد القرآن بآيات الآفاق والأنفس، باعتبارهما شاهدي عدل، لا يمكن اتهامهما بالتحيز والهوى، فمن استطاع أن يُشهد على قضيته آيات الآفاق والأنفس فقد استوفى نصاب الشهادة، وأخرج الدليل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

والقرآن يلح علينا الطلب أن ننظر إلى آيات الله في الآفاق (أي العالم الخارجي) وفي الأنفس (السلوك البشري). فالتاريخ بحسب القرآن صار حَكَمًا وصار مرجعًا لفهم قوانين السلوك البشري ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) [آل عمران، 137]، مثلما الكون مجال لفهم قوانين العالم الفيزيائي.

والقرآن عندما يحاول أن يفتح أعيننا على الوجود الخارجي (في الكون والتاريخ) فإنه يعلمنا لغة لا يمكن أن ينكرها إلا من أنكر عقله، وهو يضرب لنا الأمثلة ليعلمنا استقراء الظواهر الفيزيائية والتاريخية: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ...)) [الفجر، 6-14]، (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) [الفيل، 1] مشيرا إلى القانون والسنة الثابتة الراسخة، التي لا تتغير ولا تتبدل ، في الأنفس كما في الآفاق(في الكون الفيزيائي كما في السلوك البشري) .

ويمكننا اهتداء بهذا الأسلوب في النظر أن نقول (ألم تر كيف فعل ربك بالاتحاد السوفيتي)، الذي سقط من الداخل وهو يملك ما يمكن أن يدمر الكرة الأرضية. (ألم تر كيف فعل ربك بهتلر وبنابليون). أو الأفغان أو العراق أو الأمريكان، لست مهتمًا هنا بتعداد المآسي والأحداث، ولكن همي أن أثبت مبدأ مرجعية التاريخ.

عند هذه النقطة أحب أن أقف فأقول: إن التطور البشري دفع الإنسان رغمًا عنه إلى الديمقراطية التي تعني العقل والإقناع والسلم، وبحسب هذه الرؤية للتاريخ فقد أعلنتُ موت الحرب، مع أول تفجير نووي، فالكبار لم يعودوا قادرين على الحرب، ولكنهم يستغلون جهل الجاهلين ويستثمرون جهلهم ببيعهم الأسلحة ، إن الحروب قرابين البشرية، والقتل لم يكن يوما حلاً لمشكلة بل هو مفاقمة لأي مشكلة كما يعلمنا درس التاريخ.

وبحسب هذه الرؤية فإن الاتحاد الأوروبي على كلمة السواء هو من أعظم ما أنجزه العقل الإنساني، لقد آمنوا بأقدس ما في الأديان، قبلوا ألا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا، على الأقل فيما بينهم. لقد تخلصوا من نابليون وهتلر، ومن الثقافة التي صنعتهما. وهذا لم يكن هبة من السماء، بل نبت من الآلام، لم يصنعه نابليون ولا هتلر، ولا القوة والإكراه، إنما صنعه العقل الإنساني، مخلوق الله، الذي وعى درس التاريخ، بعد أن جرب مختلف أنواع الحروب، حروب المئة عام، وحروب الثلاثين عامًا، والحروب الدينية والمذهبية والعالمية، وقدم مئات الملايين من القرابين البشرية.

وهذا الاتحاد لا ينمو بالفتح والضم العسكري، وإنما بموافقة الأطراف وبيان الفوائد والمكاسب، وعلى قاعدة لا يخسر أحد ويربح الجميع، إنه فتح طوعي، بل إن البلاد الراغبة تقول اقبلوني وسألتزم شروطكم، هذا هو الفتح المبين. صحيح أنكم لم توحدوا العالم ولكنكم تضعون أساسات يمكن أن يتحد عليها العالم. وهذا أقرب إلى دين الله، وإلى رسله، وإلى طبيعة الإنسان، من كل ما جربه البشر عبر تاريخهم، إنه حدث جديد في التاريخ.

خاتمة

إن الدنيا لم تبتدئ عندنا، ولن تنتهي عندنا، والإنسان عاش عريانًا في الكهف يأكل لحم أخيه الإنسان قبل 10 آلاف سنة فقط، ولكن هذه الفترة من عمر الإنسانية أشبه بالسنين الأولى من عمر الطفل، حيث يعجز أن ينظف نفسه، ولا يعيبه ذلك، ولكن العيب أن يظل كذلك بعد أن يبلغ رشده، عار كبير على المثقفين أن البشر ما زالوا يقتل بعضهم بعضًا.

إن وجودنا في هذا العالم ليس عبثًا، ولا باطلاً، ولا لعبًا، إن سعادة الإنسان تنبع من خدمته لقضية عادلة. وأعظم القضايا هي أن يتوقف الفساد وسفك الدماء.

لقد انتهى عهد الأنبياء وانتقلت المسؤولية إلى أهل العلم ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل ومن الاستعباد إلى الحرية، من الفساد وسفك الدماء إلى ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))، إن أقرب الناس إلى الله هم الذين يُقدِّمون الخدمات لإخوانهم البشر، والأنبياء جاؤوا ليتنافس الناس في فعل الخير، فلنتنافس نحن كيف نصنع السلام العالمي، وكيف نصنع المجتمع العالمي الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون، ونكون بذلك حققنا إرادة الله وأمنية الأنبياء.


المجد لله في الأعالي وللناس المحبة وعلى الأرض السلام .


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


جودت سعيد محمد

سورية ـ بئر عجم