حقوق الإنسان في مأزق

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

كيف يمكن أن نفهم هذا، لنفهم هذا أولاً لابد من معرفة التاريخ البشري وماذا حصل له من تطور خلال التاريخ ثانياً أن نفهم ما جاء به الأنبياء في هذا الموضوع.


مفهوم حقوق الإنسان مفهوم حضاري غربي، يقابله عند الأنبياء مفهوم واجبات الإنسان. لفهم هذا، لا بد من معرفة التاريخ البشري أولا ، وما حصل له من تطور. وثانيا لا بد أن نفهم ما جاء به الأنبياء. أشار مالك بن نبي إلى هذا الموضوع وشرح العلاقة الجدلية بين الحقوق والواجبات، فإذا أدينا واجباتنا سنجد حقوقنا. إن لم تكن في الأرض فستنزل من السماء. وكان يقول إن الحضارة عند أفولها تتحدث عن الحقوق أما عند بدئها فتبدأ بأداء الواجبات، لهذا تمسك الأنبياء جميعا بأداء الواجبات وبها بدأوا دعواتهم.

وهناك جانب يميز الواجبات عن الحقوق، فالواجب لا يجوز لك أن تتنازل عنه، ولكن حقك يمكن أن تتنازل عنه ويكون هذا إحسانا وتسامحا. أما الواجب فلا بد من أدائه. ويمكن أن تعرف واجبك بأنه حق الآخر عليك، وتعرف حقك بأنه واجب الآخر نحوك. وكان الصحابة يسألون عن الحق الذي عليهم تجاه الآخرين، ما حق الزوجة على الزوج؟ ما حق الفقراء على الأغنياء؟ إلخ... ويقال إن غاندي دُعي إلى لقاء لبحث حقوق الإنسان، فقال لهم: إذا التقيتم لبحث واجبات الإنسان سأحضر. هذا الموضوع فلسفي ويتعلق بوضع الإنسان وتطوره.

ومفهوم حقوق الإنسان في مأزق الآن. فقد برزت حقوق الإنسان في الحضارة الغربية مع الثورة الفرنسية التي بدأت بالحقوق. وهذا أدى إلى تطور مفهوم حق الشعوب في تقرير مصيرها، بكل الوسائل بما فيها العنف. والأوروبيون عندما مارسوا هذا، أجازوا فكريا للشعوب قتل المستبدين والمستعمرين على أساس منطق الثورة الفرنسية التي كانت ثورة دموية عنيفة، حتى شاع عنها أنها مثل القطة التي تأكل أولادها من كثرة قتل الفرنسيين بعضهم لبعض، ولكن حدثت أمور في أوروبا تحت الوعي، نقضت منطق الثورة الدموية وفكرة الثورة الفرنسية. فعندما بدأت الديمقراطية تظهر بدأ العنف يحرم، فأصبح لا يجوز لمن يعيش في بلد ديمقراطي أن يلجأ إلى العنف في السياسة، لأنه في تمام الديمقراطية لا يجوز أن يفرض الإنسان سلطته بالقوة على المجتمع. وإن فعل ذلك يدينه القانون ويعتبره خارجاً عليه. وهذه أصبحت من المسلمات ضمن اتفاق ضمني لا يصرح به أو يذكر. ومأزق العالم الغربي في حقوق الإنسان يكمن عند هذه النقطة، فالغربي يعتبر اللجوء إلى العنف لتغيير الوضع السياسي في بلد ديمقراطي إرهابا، بينما في فكره وتاريخه يرى اللجوء إلى العنف لرفع الاضطهاد حقا إنسانيا! فمثلا عندما حارب الأمريكيون البريطانيين كانوا يرونه حقا إنسانيا، وكذلك حرب الفرنسيين ضد الألمان، ولكن عندما يريد العالم الإسلامي أن يستقل أو يحارب من أجل حقوقه يرونه إرهابيا. وهنا نرى التناقضات بين الخطاب الفكري ومأزق المواقع العصرية.

إننا نعيش في عالم الحق فيه للقوة، بدءا من داخل الأسرة، إلى الأمم المتحدة أكبر مؤسسة في العالم، الأمم التي تسمى متحدة صانعة إسرائيل، وعلى رأسها مجلس الأمن الذي يرعى أمن الكبار وحرمة دمائهم. أما الآخرون فيستعمل ضدهم حق الفيتو، إن حق الفيتو يمثل شريعة الغاب، ويناقض مفهوم حقوق الإنسان الذي يتحدث عنه الغربيون أنفسهم، لهذا لا يحترم الناس الأمم المتحدة، فهي غير شرعية، وحتى القرارات التي تصدرها للشعوب المغزوة المطرودة من بلادها في حق العودة، لا تنفذ. ويُدعم الظالم عيانا جهارا ويسند بالمال والسلاح. إن الغرب يرى هتلر شيطانا، ولكن ماذا كان سيعمل هتلر لو انتصر في الحرب؟ هل كان سيعمل أكثر مما تعمله أمريكا الآن في مجلس الأمن؟ الحق لقوة الفيتو، وجميع العالم ليس بشيء أمام أمريكا واسرائيل، بل أنه غير مسموح السؤال عن معنى تقرير المصير وعلاقته بمعنى الإرهاب. لا نجد معارضة صريحة لحق الفيتو. إن عالمنا صامت عن هذه الخطيئة العالمية المعارضة لحقوق الإنسان.

إن عقل الإنسان الغربي تجلس فيه حقوق متناقضة. فالغرب سيف مسلط على كل الذين ينتهكون حقوق الإنسان ولكن يقعد بجانبه سيف حق الفيتو لينتهك حقوق الإنسان كلها من أساسها. ولا يحس أحد بالتناقض وخلط المقدس بالدنس. هذا التناقض الصارخ هو الذي يجعل شعوب العالم المستضعفة الذين يمثلون 80% من العالم يكرهون أمريكا، وأمريكا تعرف هذا، فبمجرد أن يضطرب الأمن في بلد ما، تأمر أمريكا رعاياها بالخروج من هذا البلد لأنها تعرف أنها مبغوضة من شعوب العالم المستضعف. في زيارة كلينتون الأخيرة للهند قال الهنود عنه إنه أكبر إرهابي في العالم وحرقوا تمثاله. هكذا يلقى عالم دعاة حقوق الإنسان الذين يدعون بدعوة فرعون وما أهديكم إلا سبيل الرشاد». هذا هو التاريخ الذي تعيشه البشرية إلى يومنا هذا.

لكن الأنبياء جاؤوا بشيء آخر. فقد دعا الأنبياء جميعا لإخراج العباد من عبادة العباد. ولهذا اتهمتهم جميع الشعوب بأنهم سحرة ومجانين. "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون، فتول عنهم فما أنت بملوم، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين".

لقد جاء الأنبياء ليدلوا الناس على طريق واجبات الإنسان، جاؤوا بالرحمة التي تهفو إليها قلوب الشعوب المضطهدة، جاؤوا بأسلوب «اللين»، ولكن كثيراً من الناس لا يعرف أن أسلوب اللين هذا تتكسر عليه قوة الأقوياء، إن التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان يحررنا، فمن دخل دعوة الأنبياء يخرج من التعاون على الظلم، ويمتنع عن الإيذاء. جميع دول العالم تأمر الجنود بالطاعة من غير اعتراض. وهذا هو قانون العسكر الانضباطي: الأدنى يطيع الأعلى. هذه الثقافة التي طال عليها الأمد، هي التي تتحكم في الناس. الأنبياء فقط هم الذين قالوا للإنسان: واجب عليك أن لا تتعاون على الإثم والعدوان والاستلاب وقتل الناس وتهجيرهم، وأن ترفض الظلم ولا تكون أداة للظلم، وهذا أكبر تحرير للإنسان. إن العالم كله خاضع للفيتو مثل الجنود وليس من منكر للفيتو، وإنما يتمنون أن يكون لهم ذلك الحق الذي هو ضد العدل وضد الإنسانية وضد الديمقراطية، والذي يتمنى أن يصير له حق الفيتو يؤمن به ولذا لا قدرة له على إنكاره. ولكن العالم يتطور إلى الأفضل والخير والعدل، وسيتعرف عليه الناس، ولن يكونوا أداة بيد الظلم.

إن إنسان الأنبياء لا يزال مرفوضا في العالم، وكون هذا النموذج غائباً لا يعني أنه سيظل غائبا، لقد قال عيسى عليه السلام: «الحجر الذي رفضه البناؤون صار حجر الزاوية». هذا الذي يرفضه العالم الآن سيصير حجر الزاوية وحجر الفلاسفة الذي سيصلح العالم على يديه، لأنه إنسان لا يلجأ إلى القتل، ويمتنع عن القتل ولو هدد بالقتل. لما هدد فرعون الذين آمنوا بقطع أيديهم وأرجلهم وبصلبهم على جذوع النخل، كان جوابهم "لا ضير.. اقض ما أنت قاض". إن العالم يتقدم إلى إنسان الأنبياء، ورغم كل الشبهات المحيطة بالوضع الإنساني يتحقق علم الله في الإنسان بأنه سيخرج من الفساد وسفك الدماء، ولم يبق أمام الناس إلا أن يخرجوا من قلوبهم عبادة القوة والإكراه، ويكشفوا أن لا أحد قادراً على جعلهم قتلة، إذا رفضوا أن يكونوا قاتلين، ولكن إذا قبلوا أن يصبحوا بنادق فكثيرون الذين سيشدون على الزناد. إذا ذاق الإنسان طعم ما جاء به الأنبياء من استعادة الإنسان لكرامته سيتغير العالم. وكأني بأمريكا تعتذر للعرب على ما مارسته من الاستخفاف بالعرب والاستهانة بحقوقهم، ولكن أمريكا لن تعلن عن هذا بصراحة حتى نبدأ نحن بأداء واجباتنا بدلا من أن نطالب بحقوقنا، لأن أمريكا لا تعتذر إلا للذين يملكون مصيرهم بيدهم. هذا هو الفرق بين حقوق الإنسان وبين واجبات الإنسان. بدأ تطور التاريخ يظهر أن الإنسان الذي يؤدي واجباته سيجد حقوقه أما الذي يطالب بحقوقه ولا يؤدي واجباته، فمن سيعطيه حقوقه؟ والأنبياء ليسوا سحرة ولا مجانين، وإنما جاؤوا لإعادة القرار للإنسان ولإخراجه من عبادة الأقوياء. هذا ما أردنا أن نذكر به. وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.