جراثيم خفية

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

هناك شيء مجهول مخبأ ليس في متناول البشر وغير قابل للإمساك به ويتحكم فينا ضدنا. هناك جراثيم فكرية غير مرئية تقضي علينا، لأن مجاهرنا الفكرية ما تزال عاجزة.

كانت الجراثيم العضوية الضارة مخبأة وبعيدة عن وعي الإنسان وغير مرئية. ولم يكن الإنسان يفهمها أو يراها ولم يستطع التعامل معها بوعي معرفي إلى وقت قريب. نحن كذلك في المشكلة الإنسانية. فالإنسان يكابد الآلام من الجراثيم الفكرية المخبأة عالمياً. حين يحاول الإنسان فهم الموضوعات الشائكة يشعر أنه عاجز عن إدراكها وكشفها، ولغموض الموضوع وخفاء الجراثيم الفكرية لا يتمكن الإنسان من القبض عليها وحتى لغته تعجز عن التعبير عنها. ويصطدم علماء الاجتماع والمفكرون بهذه المشكلة ويواجهون الجدار المسدود. وأنا أحاول أن أبحث المشكلة الإنسانية من جانبين: جانب الفكرة التي جاء بها الأنبياء، وجانب الفكر الذي بدأ المفكر الإنساني يصل إليه. أحاول أن أتابع الفكر الإنساني وما وصل إليه أهل البحث، ولكن في الوقت نفسه عيني الأخرى تنظر إلى ما جاء به الأنبياء في هذا الموضوع. وبعبارة أخرى، أحاول قراءة آيات الكتاب المنزل وقراءة آيات الآفاق والأنفس التي لها علاقة كبيرة بآيات الكتاب. أقرأ وأنا أقلب فكري في سماء المعرفة.

وجدت أن بعض الفلاسفة الغربيين بدءوا بتحسس المشكلة الإنسانية. كان فوكو مهتما بموضوع الجنون، واعتبر أن من يخرج عن خطاب الإكراه والقوة يقوم بالجنون الأعظم وبنوع من المعارضة الجذرية للثقافة الغربية. ويشعر بيير بورديو بالحاجة إلى دعم في هذا الموضوع الخفي، الصعب التناول، ولهذا يلجأ إلى ديفيد هيوم وينقل عنه أن "لا شيء يبعث على الدهشة الأكبر لمن ينظرون إلى الشؤون الإنسانية بعين فلسفية من رؤية السهولة التي يحكم بها العدد الأكبر من العدد الأقل وملاحظة الخضوع الضمني الذي به يلجم الناس عواطفهم الخاصة وأهوائهم لصالح حكامهم". ويقول بورديو إن الدولة لا تحتاج إلى إصدار أوامر وإلى ممارسة قسر جسدي لتحقيق عالم اجتماعي منتظم، وأن الأمر يدوم ما بقيت قادرة على إنتاج بينات معرفية موضوعية، ويكون هذا بضمان الاعتقاد الذي كان هيوم يتحدث عنه: الخضوع المعتقدي للنظام القائم. كلا من هيوم وبيير بورديو يريدان أن يبحثا وراء أدوات القمع وعلاقات القوة المادية. هناك مسلمات رمزية معرفية تجعل الخضوع ممكناً. كيف يفرض المهيمنون هيمنتهم؟ كيف يمكن رؤية السهولة التي يحكم بها العدد الأكبر من قبل العدد الأقل؟ وملاحظة الخضوع الضمني الذي يلجم الناس عواطفهم الخاصة وأهوائهم لصالح حكامهم؟ لا بد من كشف الآليات الفكرية السابقة على استخدام أدوات القمع، لأن هناك مسلمات نفسية واعتقادات وتصورات للعالم والنفس الإنسانية.

إن ظن أن الإنسان يعطي على الإكراه أكثر مما يعطي على الإقناع نوع من الجراثيم الخفية التي تدمر المجتمعات. إن فرض الرأي بالإكراه إلغاء للإنسان ولروح الإنسان وخيانة للميثاق ونبذ العهد. إنه رفض للأمانة وللرشد وقبول بالخيانة ونقض الميثاق "وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون"، "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً". نبذ الإنسان الأمانة لجهله وزين له سوء عمله فرآه حسناً، واليوم حين تنعقد القمم العربية والإسلامية ودول عدم الانحياز فإن خلفيتهم الفكرية مبنية على فكرة مفادها أن الإنسان ينتصر بالإكراه. إن العالم الإنساني في مرحلة جهالة ولا نقول طفولة، لأنه لا يوجد فيهم من يقبل بكلمة السواء ويلتزم بها. وبمجرد أن يشعر أنه بالقوة يمكن تخويف الناس ينبذ العهد والميثاق والأمانة. ولقد قال إبراهيم عليه السلام: "وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم"... "فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون". هذه ملة إبراهيم وملة الذين قبلوا عهد الله وميثاقه وأبوا أن يفتروا على الله الكذب.

ولقد انتبه هبرماس، الفيلسوف الألماني، في كتابه (خطاب الحداثة الفلسفي) إلى مفهوم الميثاق عند الأنبياء فقال: " نجد في فكرة الميثاق الديني بذرة جدلية الخيانة والقدرة المنتقمة … احترام الميثاق مع الله رمز الأمانة وتحطيم هذا الميثاق رمز الخيانة … الوفاء لله يعني الوفاء عبر الذات والآخرين وفي جميع ميادين الكائن وإنكاره في أي ميدان يعني فسخ الميثاق مع الله وخيانة أساسه ذاته…ولذلك فإن خيانة الآخرين ذاته…ولذلك فإن خيانة الآخرين هي في الوقت نفسه خيانة للذات ولذلك فإن احتجاج المرء على الخيانة ليس فقط احتجاجاً باسمه الخاص بل هو أيضاً احتجاج باسم الآخرين…وفي فكرة أن كل كائن حليف بالقوة في النضال ضد الخيانة-وفي جميع ميادين الكائن- وإنكاره في أي ميدان يعني فسخ الميثاق مع الله وخيانة أساسه ذاته…ولذلك فإن خيانة الآخرين هي في الوقت نفسه خيانة للذات ولذلك فإن احتجاج المرء على خيانة ليس فقط احتجاجاً باسمه الخاص بل هو أيضاً احتجاج باسم الآخرين…وفي فكرة أن كل كائن حليف بالقوة في النضال ضد الخيانة-بمن فيهم من يخونني ويخون نفسه- إنه يفرق بذلك بين الذين يعلمون وجمهور الجهلة إن مفهوم الأنوار المألوف لدينا لا يمكن التفكير فيه دون ميثاق شامل بالقوة ضد الخيانة". لم يتجرأ فوكو ولا بورديو أن يشيروا إلى ميثاق الله مع الإنسان كما دعا إليه الأنبياء ولكن هابرماس تمكن من الإشارة إلى هذا واستطاع أن يلمح الميثاق ضد الخيانة ويلمح معنى الأمانة وكيف نبذنا الأمانة والميثاق، ميثاق الأمانة في ضوء هذه المعاناة الفلسفية المعرفية، والتاريخ الذي يطلب فاتورة خيانة الميثاق.

لعلنا نكشف مكان الخلل. لعلنا نكشف الجراثيم الفكرية.

نعم إننا لم نختبر إيماننا ولم نجرب عليه التجارب الدقيقة. وما دمنا لم نتوضح باقتناع فاضح بأن الإنسان يعطي على الإقناع ما لا يعطى على الإكراه ومادمنا مترددين في هذا والأمر مشتبه علينا فإننا لن ندخل إلى سنة تغيير الإنسان ولن نكون عرفنا معنى تزكية الإنسان ولا دخلنا عالم التربية ولا فتحنا باب العلم والمعرفة، لأننا نكون خسرنا الرأسمال الأولي في العالم كله. ألا إنه الإنسان المودع فيه سر الله في العطاء والكرم، ومن خسر هذا خسر كل شيء. ونحن في العالم العربي الإسلامي لا قدرة لنا على فهم هذا الموضوع وتناوله، ولا مجرد إمكان فهمه.

إني أعاني من محاولة لفت الأنظار إلى عالم آخر غير الإكراه فأبوء بالفشل والاستنكار والريبة فأنقلب وكأني المخطئ الجاهل العاجز الذي لا يكاد يبين. وأحسنهم طريقة ينظر إلي بأني لا أفهم سنة الله ولا قانون الوجود وأن الأمر مشتبه علي. إن الإكراه ثمرة الكراهية، ولا يمكن أن تدخل إلى الإنسان وأنت تكرهه. إن الكراهية عقيدة وتصور لشيء مكروه مضر لا نفع فيه ولا يمكن تغيره. يا أخي العزيز القارئ إن التغيير ليس عند الآخر. التغيير عندي، ولكننا نعجز عن كشف السنة والقانون البشري. وحين نخرج من ملة الاستضعاف سنفهم صنع مجتمع اللاإكراه بدون إكراه. إن بلدا عربيا واحدا يفهم هذا ويصنع مجتمع اللاإكراه يمكن أن يصل إلى قمة العالم فيصنع عالماً لا إكراه فيه، يتنافسون على الإحسان وعلى أيهم أحسن عملاً. عالم آخر أحلم به، إن ملكوت الله لا يصنعه ملة الاستكبار والاستضعاف وقد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتهم.