تغييب معاني قصة ابن آدم
من Jawdat Said
إن الأهواء، والمفاهيم الهوائية المسيطرة علينا، والنظرة العجلى، والمرور على سطح الأشياء، هذه الأمور هي التي تجعلنا نقول: إنه لا مغزى في قصة ابني آدم، إلا أن يكون التاريخ مأساة تعقبها مأساة، ولعنة تتبعها لعنة، وتعبيراً عن أحطّ الدوافع، هذا ما يقوله مزلزل أفكار القرن التاسع عشر (نيتشه) الذي أعلن أن المجد هو للقوة والعنف، وان العالم يدور حول العنف، وبدون عنف لا نكون شيئاً، العنف كالشمس يا شيخ، أما ترى الشمس تدور وتطلع وتغيب؟ لماذا تقول: ذهب أوان العنف، أما ترى يا شيخنا كيف أن العنف هو الذي يسير العالم؟ هل نجلس ونقول: علينا ألا ندافع عن أنفسنا؟
كنت أتحدث مرّة بهذا الموضوع، فقال طفل حاضر في المجلس، ولكنه كان قد خرج من الطفولة، وتشرب عنف الحياة وعنف الكبار، فقال مستغرباً: والله إنه لحلو أن تدخل بين قوم لا يدافعون عن أنفسهم فتضرب هذا وتقتل هذا، ولا أحد يدافع عن نفسه.
هذا الموضوع كان خفياً، ولا يزال خفياً، فإمكانية رؤية أن الأرض تدور لم تكن سهلة، لأن الأرض التي نعيش عليها كبيرة وصلبة ولا يُرى طرفها وامتدادها، فكيف يمكن أن تدور؟ أما الشمس الصغيرة - في أعيننا - والنجوم المبعثرة فلا حرج أن تدور.
في التسعينات كنت أشرح قصة دوران الأرض للناس في مسجد القرية، فقال لي أحدهم بكل بساطة: نحن إلى الآن لم نقتنع، ولا نقول ذلك إلا لأن الناس يقولونه.
الذي قال لي هذا، كان إنساناً يعيش في التسعينات من القرن العشرين، ولكن القاضي الذي سألني السؤال السابق كان يعيش في الخمسينات.
كيف يحصل الفهم، وما شروطه؟ هل نقول عن الشيء: إنه هكذا لأن الناس يقولون ذلك؟
هل أطمع أن أثبت أنَّ الأرض تدور؟ هل أطمع أن أحلل نبأ ابني آدم؟ هل أطلب المستحيل؟ لعلي أطيل الطريق، وأمشي باتجاه معاكس للاتجاه الذي يحل المشكلات في العالم.
لماذا بدأت بكتابة كتاب آخر في مذهب ابن آدم؟ هل صار لدي حقاً من الأدلة الواضحة والبينة ما يمكّن من إقناع بعض الناس بأن هذا المذهب صحيح وراسخ؟
كم كلمة، وكم صفحة ينبغي أن أكتب؟ وما نوع الأدلة التي ينبغي أن أسوقها؟ وما هي الأرضيات أو المنطلقات التي ينبغي أن أمهد بها لنتمكن من السير، ولنشق الطريق؟
هل في النشاز من الأنغام سعادة، أم أنه مجرد تشويش وزيادة صيحة إلى الضجيج المختلط؟ هل يستطيع أحد أن يرفع سدادة الأذن ليستمع كما فعل الشاعر ابن الطفيل؟ هل علي أن أكتب في هذا الموضوع؟ كيف ينبغي أن أكتب؟
يتحدث بعضنا بلغة المعقول، فيقول: هل يقبل العقل ألا يدافع الإنسان عن نفسه وهو معتدى عليه؟ وبعضنا يتحدث بلغة الشرع، ويطالب بالأدلة الشرعية، ويقول: أين تذهب بمعركة بدر، وأُحُد، وحنين، و..، وبعضنا ستند إلى إجماع الناس من المؤمنين والملاحدة، وكل البشر الذين يمارسون العنف والدفاع عن النفس، نعم، كل الناس يرون أن الشمس تدور حولنا، إنه امتحان عسير يحتاج إلى نقلة عالمية، ومفاهيم مختلفة عن المفاهيم والمسلمات التي يعيشها الناس.
كيف أواجه هذا كله؟ إنه لأمر مُحبط، إنه لأمر يدعو إلى الضجر، حتى إن الرسول (ص) كان يقال له: أما يئست؟ أما مللت من كثرة ما تعرض علينا دعوتك ونحن نرفض ونستهزئ بالأفكار التي جئتنا بها؟