بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة
من Jawdat Said
تحدثت عن الشباب الذين يفجرون أحداثاً هنا وهناك، وتحدثت عن الزعماء العالميين الذين يفجرون الحروب، فبئست هذه النفسية المنطوية على جهل بالعواقب القربة والبعيدة، تحدثت عن هؤلاء، ولكنني لم أتحدث عن المثقفين الذين يعيشون خارج التاريخ والجغرافيا، ماذا يعمل المثقفون؟ هل يقدمون البديل؟ هل يرشدون إلى الحل الأنجع، أم لا يزالون يقدمون قصائد المديح والهجاء؟ المديح والهجاء للمنافع الآنية العاجلة، لا للتاريخ والعلم الذي ينبغي أن يسود في المستقبل. إنهم لا يزالون يزينون حب العاجلة، وهم عن الآخرة هم غافلون.
متى نفهم: (كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ) القيامة: 75/20-21.
(إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً) الإنسان: 76/27.
إننا لم نتمكن من استحضار مفهوم الآخرة التي في الدنيا، ولم نتمكن من انتشاله، وذلك لسيطرة فكرة القيامة علينا، صحيح أن هناك قيامة للأموات، ولكن هناك أيضاً آخرة دنيوية للأعمال التي نقوم بها، وللأفكار التي يتداولها ونغرسها في نفوسنا، ونحن لم نتمكن من استحضار آخرة الدنيا بعد.
إن المفهوم السائد للآخرة مفهوم غيبي، سواءٌ أكانت عاجلة أو مؤجلة، لأننا نحذف من مفهوم الآخرة العواقب المؤجلة التي لا تظهر إلا بعد أجيال، ولكن التاريخ المديد، التاريخ على المدى الطويل بدأ يَبرز إلى سطح بعض الاتجاهات الدارسة في مجال التاريخ.
إننا لا نزال نعيش في زمان مُبكّر.
حين بحث مالك بن نبي ظاهرة الاستعمار في كتاب الأفرسيوية؛ ذكر أن الإدانات التي وجهها بعض الفلاسفة ورجال الكنيسة للممارسات الاستعمارية أمكن تجاهلها وعدم المبالاة بها من قبل أصحاب المصلحة مادام تأثيرها لا يمس مصالحهم العاجلة، لكن مالكاً توجه إلى أمر آخر مختلف عن الإدانة الدينية والأخلاقية، فأشار إلى إدانة أخرى وجهها بعض الاقتصاديين، الذين كانوا يرون أن المنافع التي أمكن الحصول عليها بالسلب والنهب والقرصنة، يمكن الحصول عليها وعلى أكثر منها بأسلوب آخر أقل كلفة وأكثر إنسانية، حيث بدأت بعض التحليلات الاقتصادية تظهر أن بإمكان الناس أن يزيدوا من المردود العالمي والمحلي لجميع الأطراف بعلاقات جديدة وإنسانية.
أنا لا أزال من العالم القديم الذي لا تتوافر المعلومات له، ولكنني أظن أن مثل هذه الدراسات صارت تتكون في أرحام الدراسات كأجنة لا يحس بها إلا من بدأت تتكون في أدمغتهم، كما تحس الأم بالجنين قبل كل الناس، إلا أنها ستبدأ بالظهور إلى العلن، وسيشعر بها الناس وسيعترفون بوجودها.
هذه الدراسات التاريخية التحليلية الإحصائية هي التي ستقلب الموازين الأيديولوجية.
ماذا أقول؟ وماذا أبحث، في أي أودية أهيم؟ لماذا اللّف والدوران؟ لماذا لا أقول ما أريد في جملة واحدة وكفى؟
لماذا يكرر القرآن قصة موسى وفرعون؟ لماذا يكرر القرآن الحديث عن الأمم التي كَذَّبت رسلها؟ لماذا حدث التكذيب؟ ما هي عوامل التكذيب وشروطه؟ وما هي عوامل التصديق وشروطه؟
لماذا يقوله لنا: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) الأعراف: 7/101-102.
ما هذه الكلمات؟ هل لها معنى؟ هل هي خلاصة تاريخ طويل وأحداث كثيرة متشابهة، وآلام تتكرر حتى الآن؟
ما هي أنباء الحكومات والقيادات والدول؟ من هم الرسل؟ وما هي البينات التي جاؤوا بها؟ ولماذا لم يكن ممكناً الاستفادة من الرسل وبيناتهم؟ لماذا ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل؟ وما هو التكذيب القبلي؟ ما هو الطبع الذي يحدثه الله على القلوب؟ كيف نكشف سنة الله في حدوث الطبع؟ ما هو الكفر، وما الإشكاليات والالتباسات التي تحيط بهذه الكلمة؟ ما هو العهد الذي لم يوجد من يلتزم به؟ وما الفسق الذي تميل نفوس الناس إليه؟
لماذا كان الرسول يأتي ولا يكسب أحداً إلى صفه، ولا يتمكن من إقناع شخص واحد، ويرجع إلى ربه وحيداً، ويبعث يوم القيامة وحيداً وليس معه أحد؟
لماذا قال (ص) في أبي ذر: « رحم الله أبا ذر فإنه يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده »(1)؟