اليأس والكفر
من Jawdat Said
هذا من الزيادة في الخلق، والخلق يزداد، والزيادة إلى الأنفع، ومن هنا يمكن أن يقال: إن طاقة البناء تغلب طاقة الهدم، وإذا جاء الحق زهق الباطل: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً الإسراء: 17/18، (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) سبأ: 34/49.
ليس القانون أن يجيء الباطل فيزهق الحق، ولا أن يجيء الباطل فلا يبدئ الحق ولا يعيد.
كم هي المسافة التي تفصل بين الاعتقادين، وبين الفكرتين، وبين الفهمين؟ كم هو جميل ورائع وبديع أن نصل إلى يقين بأن مجيء الحق يزيل الباطل، بدل أن نعتقد العكس، وبدل أن تعتقد أن الباطل أبدي وسرمدي، ولا يزول بمجيء الحق. عند هذه النقطة يحصل الافتراق بين الكفر والإيمان، بين الحق والباطل، بين التفاؤل والتشاؤم.
لماذا اليأس قرين الكفر؟ (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) يوسف: 12/87، (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) الحجر: 15/56.
صحيح أن الدخول إلى عقيدة التفاؤل في فهم الكون ليس سهلاً، لكن الكون مبني على التفاؤل في التقدم إلى الأنفع من يوم أن خلق الله أول الكائنات الحية إلى الإنسان الذي قال الله عنه: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون: 23/14.
قف عند هذه النقطة وحرر موضوعها، لا يكفي أن أقول لك: اعتقد بهذا الرأي إن لم تر ذلك في الواقع، إن لم تر التاريخ على هذا الوضع.
إن الاعتقادات الصغيرة المتشائمة تصور الكون لعنة وفساداً وخراباً، ولكنه إبداع مستمر.
انظر إلى الكون وحدق فيه جيداً، لترى كيف يتسارع التاريخ باطراد، وكيف يُلِّد النجاحُ النجاح، والأملُ الأملَ، الأمل ليس نابعاً من الأهواء، بل هو نابع من التاريخ، من الواقع، من الخلق.
كم نعيش في حيرة وظلام ويأس وضلال وقنوط؟!!..
اختبر الناس، وسوف تجد أن ضياع الاعتقاد الصحيح بنظام الكون يجعل الموقف مأساوياً، ومتَّسماً بالعجز والكسل والكآبة.
انظر إلى وجه اليائس كم هو بئيس، وانظر إلى وجه الفاشل كم هو تعيس، وانظر إلى وجه الناجح كم هو برّاق العينين مُشرق.
اليائس يرى إمكان التغيير بعيداً أو مستحيلاً، فكيف تستطيع أن تفهمه أنّ التغيير ليس بالخوارق أو المعجزات، وأن مجرد ظهور إمكان الحلّ، حتى قبل ظهور الحل، سيبعث الحياة في نفس الإنسان، وسيوجهه لحل المشكلات بعزيمة لا يمكن إيقافها، بينما لا يمكن وضع اليائس على طريق العمل، لأن اليائس يولّد القنوط، وقد يُحدث اليأس الانفجار عند اليائس، نعم اليائس ينفجر، وبدل أن ينقذ نفسه وينقذ الآخر، فإنه يدمّر نفسه ويدمّر الآخر، وقد يشتبه عمل اليائس بعمل الإنسان الذي يعرف السُّنَّة ويتقدم على بصيرة.
كم تلتبس علينا هذه الأمور، وكم تغيب عن أبصارنا وعقولنا؟؟!!..
هذا الأمر هو ما جاء به الأنبياء، لأن التغيير ينبغي أن يكون بوعي وبصيرة، والتغيير الذي يكون على بصيرة يتصف بالهدوء والإصرار والاستمرار، أما اليائس الغامض فيتصف بالانفجار، ويسعى إلى الاختباء في الظلام، والانقطاع عن الآخر.
إن هذا الموضوع ملتبس ومحير، وحتى حين نبدأ بإبصار الضياء، ونشعر بقدوم الفجر، فإن الغموض يظل مختلطاً بالوضوح، لأن الفجر لا يولد فجأة.
ربما يكون سعيي كله متجهاً نحو جعل العمل الإسلامي على بصيرة، ولأكشف طريقاً قليل النفقات، كثير المرود، يختصر الزمن والجهد ويحسّن النتائج، فكيف نكتشف هذا الطريق، وكيف نمشي عليه؟ أيكون كل ذلك مستحيلاً؟ إن هذا الأمر بحاجة إلى سعي ودأب، وإلى تمرين متواصل.
محمد إقبال أصابني بالعدوى، وكذلك مالك بن نبي، وكل منهما كان يرى رؤيا مختلفة عن الناس، ولكن كيف ننتبه إلى هذه الرؤى المختلفة؟ كيف سأشرح ما أحس به؟ لماذا يصعب علينا نقل العدوى بالصحة الفكرية والنفسية؟
رحمك الله يا إقبال حين قلت: لو كان جنوني قوياً لأصبتك بالعدوى، وماذا يفعل الجنون البارد:
ومَزَّقْتُ الجيوبَ وأنت خالي جنوني لا ألومك في قصوري
سيأتي الحق، وسيزهق الباطل، سيجيء الحق، ولن يتمكن الباطل من الحركة، وسيتجمد، ولن يستطيع أن يبدئ أو يعيد.
هل نستطيع أن نمهد السبيل لمجيء الحقب؟ هل يمكن أن نصف الجمال والجلال؟
هل أستطيع أن أبين أن ما أتحدث عنه ممكن وقريب، وأن الوهم المتراكم هو الذي يحول بيننا وبين الفهم؟ هل سأصل إلى درجة انفجار اليائس؟ لا، أريد انفجاراً آخر ـ، لا أريد انفجاراً ملوثاً، فهل نستطيع أن نصنع انفجاراً نظيفاً؟ أليست مشكلة العالم الآن انهم لا يتمكنون من إنتاج طاقة وظيفة؟ وحتى مخلفات الطاقات القذرة يصعب التخلص منها، ولا نعود نعرف أين علينا أن نلقيها.