الوقود الوهمي
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
يقولون في دراساتهم لمشكلة الإنسان و المجتمعات، أن هناك حقائق حقيقية و حقائق اجتماعية، و قصدهم في ذلك التفريق بين نوعين من الوقائع، إن المشكلات الاجتماعية ذات طبائع خاصة ليست مثل المشكلات الفلكية أو المادية، فالسيارة لا يمكن أن تتحرك بوقود وهمي، و ليس هذا من شأنها ولا يعرض لها أيضاً، ولكن المجتمعات يمكن إن تتحرك بوقود وهمي و مثل أعلى خاطئ بكل قوة و بكل عنفوان، لعل إمكانية تصور ذلك يساعدنا على فهم مصطلح الحقائق الحقيقية و الحقائق الاجتماعية، ولعل المثل الفلكي يساعدنا أكثر على فهم معنى الحقيقة الحقيقية والحقيقة الاجتماعية، فالناس حين كان عندهم تصور أن الأرض ثابتة وأن الشمس تدور حولنا يمكن أن نعتبر هذا التصور تصوراً خاطئاً، و لكن الناس حين يؤمنون بهذا التصور إيماناً مطلقاً فإن الحقيقة الحقيقية هي التي تصير خرافة و هرطقة و منافية للمنطق، و الحقيقة الوهمية التي آمن بها الناس تصير حقيقة اجتماعية راسخة لا يمكن أن يعارضها أحد ومن يعارضها أو يتصور تصوراً آخر ينبغي أن يتوب و يده على أقدس ما يقدسه الناس، و يمكن أن نطرح حقيقة (حق النقض) (=الفيتو) في الأمم المتحدة.
هل هذه حقيقة حقيقية أم حقيقة اجتماعية؟
و هل يمكن أن تتغير هذه الحقيقة الاجتماعية في زمن آخر؟ كما تغيرت الحقيقة الاجتماعية عن الفلك و عن حركة الشمس و الأرض.
الآن يمكن أن نقول إن حق النقض حقيقة اجتماعية لا يعترض عليها أحد، هي ليست حقيقة حقيقية وإنما حقيقة اجتماعية يسلم بها الناس و يسمونها الشرعية الدولية، هل حقاً يمكن أن يكون حق الفيتو شرعياً و قانونياً؟ إن حق الفيتو ينتمي إلى اللاشرعية ينتمي إلى شريعة الغاب، الحق للقوي، والقوة هي الحق و ليس الحق شيئاً غير القوة، فكيف يختلط علينا هذا الموضوع؟ و كيف تصير لدينا قدرة على الفهم و التمييز بين شرعة الغاب و شرعة القانون الذي يطبق على الناس بالتساوي؟ .
إن مصدر شرعية شريعة الغاب هو القوة المادية أو قوة العضلات و ما ينوب عنها لا قوة الفهم، إن الإنسان بقوة الفهم الذي يملكه خرج من شريعة الغاب أو صار مؤهلا للخروج من شريعة الغاب.
هل يمكن فرض نظرية في الفلك بالقوة و العضلات أو ما ينوب عنها مثل المسدس أو القنبلة النووية؟
إن الحقائق الحقيقية لا يمكن فرضها بالقوة أو إلغاؤها بالقوة إلا إذا غابت الحقيقة الحقيقية وسيطرت الحقيقة الاجتماعية، كما كان الأمر في الحقيقة الفلكية قبل أربعة قرون، كان يمكن فرضها بالقوة لعدم وضوحها و شيوع هذا الوضوح بين الناس.
ولكن كيف يفرض الآن حق الفيتو؟ لو أن فهم حقيقة الفيتو صار واضحاً مثل وضوح الفلك لما أمكن فرض حق الفيتو بالقوة و لما سلم الناس به وكأنه حقيقة حقيقية، مع أنها ليست حقيقة بل وهم، آمن به الناس فإيمانهم به جعله حقاً واقعاً مفروضا،ً فهل يمكن أن يبحث موضوع حق الفيتو الآن كما يبحث الفلك؟
لا ولهذا موضوع حق الفيتو، لا يتداول بين أهل العلم و كذلك لا يسمع الناس ما يمكن أن يكون حول هذا الموضع من نقاش، ربما نشبه حق الفيتو في المستوى العالمي بالضابط الذي يقوم بانقلاب في بلده و يلغي الدستور و المؤسسات ولا أحد يستطيع أن يعترض عليه، ففي نهاية الحرب العالمية الثانية الذين قاموا بالانقلاب العالمي والسيطرة العالمية فرضوا حق الفيتو و قبله الناس كما يقبل الانقلاب و الأحكام العرفية التي يفرضها الذي يسيطر على السلاح أو الجيش أو يتغلب على خصمه في الحرب. لماذا العالم كله ساكت على هذا الوضع؟
ربما سبب السكوت يمكن تفسيره بأن عالم الكبار يرون أن هذا الحق يخدمهم ولو عاجلاً و لا قدرة لهم على التفكير بالمستقبل (العاقبة المؤجلة) وأما عالم الصغار أمثالنا الذين خضعوا للقوة خلال قرون متطاولة و لم يعرفوا غير شريعة الغاب فلا قدرة لهم على تتصور ذلك والاعتراض عليه. هب أن السياسيين الكبار يسكتون على حق الفيتو، و لكن لماذا يسكت مثقفو عالم الكبار عن هذا الحق؟ ولماذا لا يعترضون عليه؟ ولماذا لا يرونه انتهاكا لحقوق الإنسان و مناقضة للديمقراطية؟ لابد من الاعتراف أن المثقف إلى الآن لم يبلغ الرشد حتى يستقل في القرار أو أن يوجد لنفسه كيان مستقلا عن السياسيين اللذين جميعهم إلى الآن يعتمدون على القوة المادية و ليس على القوة الفكرية يعتمدون على العسكر وليس على القانون، ولن يتخلى عالم الكبار عن شريعة الغاب و عدم المساواة و فرض الامتيازات إلا مغلوبا على أمرهم و ليس للقانون ولا بحقوق الإنسان ولا بالمساواة (=الديمقراطية).
إن رصيد العدل و الديمقراطية ليس مكانه الاعتماد على ضمائر السياسيين وإنما في وعي الشعوب المستضعفة. بعلم الفلك والرياضات و فهمهم للآليات الاجتماعية الحقيقية وليست الوهمية المسيطرة، فكما في الأمم المتخلفة يمكن تجاهل واجبات الناس و التخلي عنها كذلك يحدث في عالم الكبار و التخلي عن حقوق الإنسان التي بدأت تتحول إلى سلاح بيد أكبر المنتهكين لحقوق الإنسان لمطاردة المنتهكين الصغار في العلم وعلى كل حال هذا يمكن أن يكون تقدماً أيضاً لأن هؤلاء الذين يفسرون حقوق الإنسان كما يريدون سيضطر المستضعفين ليكشفوا واجبات الإنسان وليس حقوقه، لأن الإنسان لا يمكن أن يكون له حق إلا إذا أدرك الناس معنى الواجب، أي أن يدرك أنه ليس بندقية لا يميز بل إنسان قابل للفهم و التمييز وليس أداة لخدمة المستكبر.
كل الكلام الذي نقوله لا قيمة له ما دام الإنسان يرى نفسه أنه لا يمكن إلا أن يكون بندقية، من الذي يكشف نفسه أنه ليس بندقية وأنه يمكن أن ينقل هذا الفهم إلى الآخرين بشكل يقنعهم بأنهم متمكنون من أن لا يكونوا بنادق بيد المستكبرين. إن الخضوع للحقائق الاجتماعية أقصد الأوهام التي صارت تؤثر في نفوس الناس أكثر من الحقائق الحقيقية، يعتبرها القرآن مرضاً، لكن القرآن ينسب هذا المرض إلى القلب ويريد به مرضاً في الفهم وليس مرضاً جسديا،ً وكما هو شائع الآن بكثرة بالمرض الذي يصيب القلب الجسدي، فلهذا لما يقول القرآن "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نحشى أن تصيبنا دائرة".
ولقد نسب القرآن المرض للقلب أكثر من عشرة مرات ولم يكن المراد به مرضاً جسدياً ولا في واحدة منها وإنما المراد المرض في الفهم والفكر و الاعتقاد، أي الفهم الخاطئ و الإيمان بالوهم حيث يظنون أنهم إن لم يسارعوا في الاستجابة لأمر الذين يملكون القوة ستدور عليهم الدائرة و ستقوم قيامتهم، هذا الوهم المسيطر على العالم جميعاً و على أساس هذا التسليم بالوهم يقوم هيكل الأمم المتحدة، ويسمونها الشرعية الدولية و كذلك يحترم حق الفيتو ولا يمكن أن يلمسها أحد بالانتقاد، وأنه سبب الفساد الأكبر في العالم الإنساني قاطبة فيما سبق من الزمان، والآن فيما سيأتي من العصور حتى يتخلص الناس من وهم سلطان القوة و الاعتراف بسلطان الفهم والفكر و القدرة المودعة في الإنسان، على أن يتمكن من تسخير ما في السماوات و ما في الأرض.
إذا فهمنا هذا سنفهم أن الإنسانية لا تزال في المهد و ليست في عهد الشيخوخة و لا في نهاية التاريخ، بل إن تاريخ الإنسان لم يبدأ بعد الآن "كلا لما يقض ما أمره" إلى الآن لم يتحقق علم الله في الإنسان من أنه سيتخلص من عهد الفساد وسفك الدماء وذلك حين يبدأ الناس يشعرون أنهم ليسوا أرباباً، و قبل ذلك ينبغي أن يفهموا أنه لا يمكن لأحد أن يستعبدهم إلا بإرادتهم و رضاهم، فإذا رفض الإنسان ليس هناك قوة تستطيع قهره كما فعل آل ياسر و كما فعل أبو ذر فإن لأبي ذر ذكر مستقبلاً في التاريخ القادم مرتبط بالتاريخ الماضي لأننا سندرك معنى قول رسول الله عن أبي ذر من أنه يعيش وحده و يموت وحده و يبعث يوم القيامة أمة واحدة، وأنا أعيد ما قال جلال الدين الرومي :
الله هو المسؤول بالعون و الإسعاف لنقتلع بهذه الإبرة جبلقاف