الواقع والصور الذهنية
من Jawdat Said
إن مشاعرنا وأهواءنا وصورنا الذهنية تصنع مواقفنا من الأحداث والأشياء، ولكن هذه الصور والأفكار والأهواء التي في نفوسنا لا تغير حقائق الأشياء والأحداث، بل تبقى كما هي، ولو كانت الأشياء تتغير بتغير أفكارنا لما أمكن للكون أن يبقى، نعم (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) المؤمنون: 23/71.
لو كان الأمر كما ظن الناس لفسد نظام الكون، ولترتب على ذلك أن تدور الأجرام البعيدة بملايين السنين الضوئية حولنا خلال أبع وعشرين ساعة.
وكما كان أمر حركة الأرض والشمس مشتبهاً على الناس؛ فإن علاقة الحكام والسياسيين بأنظمة وقوانين سير المجتمعات تشتبه عليهم أيضاً، فهم يظنون أن حركة المجتمعات إنما يصنعها الحكام السياسيون، ويظنون أن الشعوب بمن فيها من المفكرين وأهل العلم لا تأثير لهم على هذه الظاهرة.
ولكن الفرق بين فهمنا الخاطئ لتفسير حركة الشمس، وفهمنا الخاطئ لتفسير حركة التاريخ، هو أن الشمس لا تتأثر مطلقاً بأفكارنا نحن، إذ ليس لديها مشاعر وعواطف نحونا، فهي لا تغضب ولا تفرح بأفكارنا نحوها، ولكن السياسيين يختلفون عن الشمس والكواكب، فهم يتأثرون بأفكارنا ويغصبون أو يفرحون بسببها، بل إن في العالم سياسيين يتركون السياسة استجابة لأفكار وآراء شعوبهم، هذه الأفكار والآراء التي يمكن أن تتغير وتتبدل إما إلى أعلى أو إلى أسفل، وإما إلى الأمام أو إلى الخلف، إنها قابلة للتغيير، والذي يفهم التاريخ وقانون سيره؛ هو الذي يستطيع أن يمسك دفة توجيه العالم، فهل نستطيع أن نكشف قانون مذهب ابن آدم؟ وهل نستطيع أن ندرك الصعوبات التي تواجه ابن آدم الذي يتحدى بالمسلم، يتحدى الآخر الذي يتحداه بالحرب؟
إنه عالم مختلف جداً، مختلف بكل جزئياته وكلياته، إنه عالم يدور الصراع فيه بين الفهم والقهر، ولكن القهر في عالم الفهم لا يجدي. هل نستطيع أن نفهم أن عالم القهر ليس كعالم الفهم؟
حين يعجز عالم الفهم يبدأ عالم القهر، عالم الإكراه، فهما عالمان مختلفان تماماً؛ عالم الفهم عالم جديد جداً في دنيا الكائنات، وهم لم يتكيفوا معه بعد، إنه تطور، إنه خروج من عالم الأنعام إلى عالم الإنسان، إلى عالم حمل الأمانة، إلى عالم الرقي، إلى عالم الإبداع، إلى عالم التفاهم بالرموز، إلى عالم يمكن فيه نقل العواقب بالرموز، ويستطيع الناس فيه أن يتفاهموا بالكلمات لا بالّلكمات، إلى عالم يلتزم فيه الناس بالكلمات: (وأَلْزمَهُم كَلِمةَ التَّقْوى) الفتح: 48/26، فالتزموا كلمة التقوى.