المظاهرات الغاضبة

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

لما قامت انتفاضة القدس هب العالم العربي ومن وراءه العالم الإسلامي، ومن ورائهم تعاطف مستضعفوا الأرض جميعا. وهذه الانتفاضة تنقل بالصوت والصورة إلى جميع أنحاء العالم، وهي ميزة الأحداث المعاصرة. ومع وصول أخبار الانتفاضة إلى البيوت العربية خرجت المظاهرات الغاضبة تطالب بالجهاد واستعمال السلاح.

ينبغي أن لا تشككني هذه الانفعالات الهائجة في سنن الله في المجتمعات. في سنة 1956م لما أُممت قناة السويس عند الإعداد للعدوان الثلاثي كانت الإنفعالات في أوجها في العالم العربي، وكنت أراقب الأحداث من موقف متأمل بارد، وقد لاحظ أحد أصدقائي أنني غير متفاعل مع الأحداث الكبار التي تتعرض لها الأمة العربية، فقلت له: إن هذه الأحداث من كثرة ما مررنا بمثلها لم تعد تشغلني عن تأمل المشكلات بشكل آخر. وقلت له إن شخصاً يبحث في مكان ناء لكشف ما جاء به الإسلام والأنبياء وفق آيات الآفاق والأنفس يقوم بمهمة أكبر من إشغال نفسه بالأحداث المأساوية التي نكررها ويكررها العالم أجمع. وقد قال أحد المراقبين لسيرة الرسول، أن شخصين خرجا في الليل في مكان ناء من هذا العالم وقلبا نظام الأرض من ذاك التاريخ الى يومنا هذا. وكان هذا يشير إلى هجرة الرسول (ص) من مكة الى المدينة مع أبي بكر.

هكذا يعمل العلماء أيضا. يعملون في مكان ناء وسط الأحداث لاكتشاف آيات الآفاق والأنفس. كان عالم النفس السلوكي الروسي بافلوف يقوم في مخبره بمراقبة إمكانية استبدال المثير الطبيعي بمثير صناعي عند الحيوانات. وأثناء الحرب تأخر أحد مساعديه في وصوله إلى المخبر فسأله عن سبب تأخره فقال له إنه كان يسمع خبراً مهماً عن جبهة القتال. فقال له بافلوف، هل هناك ما هو أهم مما نعمل فيه. كأنه يقول، نحن نبحث عن عوامل سلوك الإنسان وكشف قوانينه لأننا إن كشفنا ذلك فبإمكاننا أن نجعل سلوك الإنسان خاضعاً للعلم ويمكن أن نقضي على سلوك الحرب عند البشر. ولما كان باستور الفرنسي يبحث في مخبره عن كشف قانون التخمر وكيفية عمل وإنتقال الكائنات الدقيقة كان الناس يموتون بداء الكلب والجدري من حوله، ولم يخرج في مظاهرة غاضبة ويترك مخبره ولكن العالم جميعا تعافى من الموت من داء الكلب وجرثومة الجدري. إن المظاهرات الغاضبة التي تلجأ إلى الكسر والحرق والقتل لن تغير الواقع لأنها شبيهة بانقلابات الليل وإن كانت تحدث في النهار. إن اعتماد المتظاهرين على القوة وإزالة الآخر بدون إزالة تصوره للمشكلة الاجتماعية الإنسانية كالذي يأتي بالانقلاب ويعتمد على قوة التغيير بالكسر والحرق والقتل. وهذا يكون على ملة الأقوام المعارضين للأنبياء والذين يغيرون بالقتل خلال التاريخ يتبادلون السلطة مع المستكبرين، ولا يتغير شيء، لأن الأمر مبني على الإعتماد على عضلات الإنسان وليس على عقله في فهم سنن الكون. وهؤلاء يظنون أن أفضل إستخدام للإنسان يكون بتخويفه وإكراهه وليس بإقناعه. هناك السنن التي تسخر المادة والإنسان بدون تدميره وقتله وبدون تلويث البر والبحر وبدون تعريض الكائنات الحية للموت والفناء، وبدون تعريض الإنسان للمسخ بإخضاعه للوهم والسحر والتخيل بأن الحبال والعصي أنها تسعى.

إن التخيل بأن سبب الفساد كله هم زعماء العرب وهم الذين يحولون دون توجيه طاقة الشعوب إلى الأعداء وأنه بإزالتهم تزول المشكلات العربية من الوجود يشل التفكير ويعمق الوهم. رحم الله مالك بن نبي الذي قال إن الكفاح ضد الأجنبي المستعمر يمكن أن يساهم فيه كل الأفراد والأدوات حتى القش ولكن بناء الأمة لايمكن أن يكون من القش والغضب والكراهية. ولا يمكن أن يكون بالإنتفاضات الغاضبة والإغتيالات وإنما بالفهم العميق للمشكلة.

ألا من كان له أذنان للسمع فليسمع! إن الانتصار بالحرب والسلاح وبالإكراه والإذلال ليس إنتصاراً وإنما تبادل للمواقع المبنية على نموذج واحد من الإيمان والتصور لنظام العالم المادي والإنساني. إن الذين لايستطيعون أن يفهموا الواقع العالمي و حق الفيتو للقوي لم يدخلوا العالم الإنساني، ولا ينظرون إلى الإنسان على أساس إمكانيات جهازه العصبي المعجز وإنما على أساس ما يملك من أموال وقوة (جند وعتاد).

لقد نسينا "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى"، وآمنا بالذي قال لصاحبه وهو يحاوره: "أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا". إن بلالاً وسمية وعماراً كانوا متظاهرين ولكن لم يكسروا ولم يحرقوا شيئاً ولم يغتالوا رجلاً ولا إمرأة وإنما كانوا يتظاهرون وهم يحملون فكرة للعالم. كانوا يحملون فكرة أتى بها إبن عبد الله وفكرة إن فهمناها وقبلناها نملك بها العرب وتدين لنا بها العجم. فكرة. كلمة. وليست سيفاً ولا قوساً. إن المظاهرة الفكرية ليس فيها بطش باليد ولابالحديد وإنما فيها فكرة تصدع قلب الإنسان. فمتى سنتعلم إمكان القيام بمظاهرة لاصياح فيها ولاتنويح بقبضة الأيدي؟ لا كسر ولا حرق ولا بسط لليد بالبطش ولاللسان بالإيذاء؟ هنا أشعر أننا ضعنا عن معنى الكلمة وشردت الكلمة عن معناها عندنا. إن الفكرة الجديدة، فكرة السواء، فكرة الله، أكبر فكرة، لأنها تعني أن لا يكون السيف فوق القانون وأن لا تكون اليد فوق العقل. الإيمان بقوة الإيمان تسرب من بين جوانحنا. فسيد الشهداء ليس سيد المعركة وإنما شهيد الفكرة. وقريش كانت تنكر أن بلال مثل سادة قريش. إن هذا الإزدراء للإنسان بسبب جنسه ومذهبه يناقض التوحيد. وكان رفض هذا الازدراء للإنسان خارجاً عما يحمل من فكر هو ما أنكر على نوح في قديم الزمان "فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر".

إن فكرة التوحيد ليست مشكلة سماوية إلهية وإنما مشكلة أرضية اجتماعية. وحلها يكون ب"تعالوا إلى كلمة سواء"، أي أن لا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا، أن لا يطاع غير الله في معصية الله "ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لاتعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه مانراك إلا بشراً مثلنا وما نراك إتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي …قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون".إن الأنبياء جاءوا بالرحمة ونوح يقول لقومه: "أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم" ويقول الله لمحمد "وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين" أي للمؤمنين والكافرين الذين عميت عليهم الرحمة. لقد عميت علينا الرحمة فلم نعد نستطيع أن نظهر إيماننا على أساس الرحمة بل بالكسر والإحراق والبطش. متى سنفهم ونتمكن من ضبط الناس بحيث لايكسرون ولايحرقون ولا يقتلون وانما يقبلون التحدي مثل بلال وسمية وأبو ذر الذين قال الله عنهم وعن أمثالهم "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد "؟

هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله؟ إذا كسرنا وحرقنا وقتلنا لانكون أوذينا لأجل إيماننا، وإنما لأجل كسرنا وحرقنا. فمتى يتمكن العالم أو المثقف من ضبط الناس الغاضبين الذين ضاع صوابهم من الغل والكراهية ولايرون حلاً إلا البطش والكسر والإحراق؟ هذا هو إنكار المنكر باليد، ونحن نريد هذا النموذج من المثقف الذي يضبط الناس ويقودهم بحيث يدربهم على قبول الموت ببرودة أعصاب.

المشكلة ليس الاستعمار ولا أدواته. المشكلة فينا نحن. لما نحل المشكلة التي بيننا ستحل المشكلات كلها وليس الانتصار على الاستعمار هو الذي سيحل مشاكلنا. إن الجزائر انتصرت على الاستعمار ولكن لم تنتصر على نفسها في قبول كلمة السواء، ولم تصبر على كلمة السواء بدون قتل.