المثقف المختبئ والمنسحب
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
كل مرة أريد أن أبحث الموضوع يفلت مني فأحوم حوله ولا أسلط الضوء عليه ولا أجعله في البؤرة. نستطيع أن نقول بادئ ذي بدء: 1- المجتمع: شعوب ومثقفون وحكام. 2- الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. النصيحة لله ورسوله بفهم ما يطلبونه من الناس. أما أئمة المسلمين: فهم أصحاب السلطة. وعامتهم: فهم بقية الشعب. فالناصحون: هم الذين يفهمون الله ورسوله، وينبغي أن يكون فهمهم لله ورسوله على أساس آيات الآفاق والأنفس. لأن الله يقول (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). أي إن الذي سيدل على صدق الله ورسله أي صدق رسله وكتبه التي أنزلها هي شهادة آيات الآفاق والأنفس. والعالم يتقدم بسرعة في فهم آيات الله في الآفاق = الكون المادي الذي يتطور بسرعة. وآيات الله في الأنفس = أي المجتمعات وكشف قوانينها وسننها في تزكية المجتمع أو تدسيته، لأن الأنفس قابلة للتزكية بكشف سننها، وتدسيتها بعدم معرفة سننها أو مخالفة سننها.
في الواقع إن العالم الإسلامي كان قد تخلف من وقت صفين الى ابن خلدون، ثم ليس تخلف عن فهم الله ورسوله بل بدأ ينحدر الى الأسفل.
إن كشف أو رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس تحول الى عالم آخر، وكتاب الله وآياته في الآفاق والأنفس يصدق بعضهما البعض، أن الذي خلق الكون والأنفس هو الذي أنزل الكتاب. ولا بد من كشف العلاقة بين الكتاب المنزل وآيات الآفاق والأنفس، ونحن الى الآن لم نهتد الى العلاقة بين آيات الآفاق والأنفس وآيات الكتاب، فبعضهم يعرف الكتاب قبل أن يعرف الناس آيات الآفاق والأنفس، وبعضهم يعرف شيئاً ما من آيات الآفاق والأنفس ولا يعلم آيات الكتاب، وقلّ أن تجد الذي يتمكن من أن يأتلف عنده الشاهد والمشهود له، فلهذا المشكلة في حملة آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس هؤلاء هم معلموا الجوامع ومعلموا الجامعات وكلاهما العالم والمثقف لا قدرة لهم على النصيحة لعامة الناس وللسلطة.
إن أستاذ الجامع والجامعة تخليا عن دور النصيحة وكشف إصلاح العلاقة بين عامة الناس وأئمة الناس، وإن كلمة أئمة الناس قد تجمع بين المثقف والسلطة ولكن السلطة تضخمت وتقلص دور المثقف، وأنا حين جعلت العنوان: المثقف المختبئ والمنسحب!. كنت أريد، كيف أن العالم والمثقف أوحى إلى العامة أنه ليس بيدهم شئ؟ وأن السلاطين هم الذين يملكون كل شيء! وصدّق هذا عامة الناس فوقعوا ضحية سهلة لا حول لهم ولا قوة ولا قدرة لهم أن يفتحوا أفواههم إلا بكلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) والمثقف استراح لهذا الاقتناع من عامة الناس، أن المثقفين مساكين ليس لهم حول ولا قوة، وربما يستشهدون بالاضطهاد الذي يقع على العلماء والمثقفين، لكن المشكلة ليست بهذه السهولة فالأمر أعمق وأعقد، فالأمر يتعلق بالإنسان هل ميزة الإنسان بعقله وفهمه أم بعضلاته؟ هناك ينبغي أن يبحث الموضوع بروية وصفاء ووضوح، هل قوة الإنسان في عضلاته أو في رأسه ودماغه وفكره؟ وما لم نحدد موقفنا من هذا السؤال بوضوحٍ وجلاء فإننا لا يمكن أن نحسم المشكلة الإنسانية عامة ولا المشكلة الإسلامية خاصة، في ظاهرة أولية بسيطة ربما احترامنا للإنسان يكون بفكره، فاحترام العلماء والمثقفين والأساتذة والمفكرين لا يخطر في بالنا أن يكون لجثتهم وعضلاتهم أو أسلحتهم وإن كان كثير من الشباب الذين أغرموا بالرياضة مثلهم الأعلى الذين يستخدمون عضلاتهم!.
أولا وبادئ ذي بدء إن لم نحسم الموضوع في المشكلة الإنسانية أن كرامة الإنسان في دماغه في عقله في جهازه العصبي الفكري وليس في جسمه وقوة عضلاته لأن كثيراً من الحيوانات تفوق الإنسان في قوة العضلات، فالطفل على رقبة الفيل منظر يحدد تماما كرامة الإنسان أنه وبوعيه ومالك بن نبي ضرب هذا المثل حين يقود الطفل الجمل، وجلال الدين الرومي حين يسوق القصص يقول خذ من هذه القصة حصة، فحين يسوق قصة الأسد مع الأرنب الذي كان دوره أن يكون فطور ملك الغابة حين تأخر الأرنب وغضب الملك قال الأرنب: سبب تأخري أن أسداً آخر تعرض لي وإن شئت أريتك فقبل الأسد ومشى وراء الأرنب فقال جلال الدين الرومي: من أراد أن يعرف قيمة العقل على الجسد فلينظر إلى الأسد الذي يمشي وراء الأرنب!. والأمثلة عند الأقدمين على هذا كثيرة.
ولكن آيات الآفاق والأنفس أرانا أمثلة تاريخية. فمالك بن نبي بن نبي حين يذكر مثل الطفل والجمل لا ينسى أن يذكر هولاندا كيف كان يقود اندونيسيا؟ هذا هو الذي أصغر من حجم الطفل يقود ما هو أضخم من حجم الجمل! وذلك بفضل تزكية النفس أو تدسيتها، والآن حين نرى تشبيه مالك بن نبي لإسرائيل بأنه المنديل الأحمر في يد مصارع الثيران، فإنه ينقل لنا مثل مصارعة الثيران الإسبانية التي صارت مشاهدة بوسائل الاتصالات الحديثة فهل السياسي الذي يمكن أن يفهم هذا؟ أو عامة الناس؟ أم الذي ينبغي أن يفهم هذا؟ المثقف المختبئ المنسحب الذي هو عقل الأمة الذي هو وأسلافه هم الذين صنعوا البلازما الذي يعيش أئمة الأمة وعامتهم فيه. فهذا المختبئ المنسحب الذي يطمئن الى أنه لايدينه أحد لأنه لا سلطة له، ولأن عامة الناس لم يكشفوا سلطة العقل والعلم إن المثقف أيضاً يشارك عامة الناس في الوهم من عدم إمكان مواجهة السلطان! إلا من قبل عامة الناس لأنهم ضحايا السحر الذي يكتبه المثقفون والسلطة يخاف من الاثنين خوفاً شديداً ولكنه يحرص على الاحتفاظ على بقاء سحر الجهل واستقالة العقل فإن العلم والعقل مخلوقات قاصرة لم تبلغ الرشد يستدعيهم السلطان ليشهدا له شهادة الزور ثم يأمرهم بالانصراف لأن دورهم هو هذا!.
فمتى يبلغ العقل والعلم عندنا الرشد؟ ليعرفوا مكانتهم فيخرجوا من الاعتماد على قوة الصنم! ليعتمدوا على قوة الفكر، فمالم يفصل المثقف قوة الفكر عن قوة العنف فسيظل ضحية العنف لأنه لم يستطع بعد أن يستقل فكره عن الإيمان بقوة العنف، إن العنف وأدواته أصنام هذا العصر فمالم نفكر بها ونجتنبها ونخرج من طاعتها ستظل الأمور معقدة حتى غير قابلة للتحليل والتفكيك لكشف آليات الاضطهاد والسحر بالوهم، لكن التاريخ يقدم لنا نماذج في لحظات معينة من أن عامة الناس حين يفقدون السلطة وأدواتها فإنهم يستطيعون أن يتغلبوا على أعدائهم بوسائلهم الخاصة، فلبنان البلد الصغير الممزق طائفياً في ظرف عجيب جاءت أمريكا وفرنسا واسرائيل بقواتهم لكن هذا الشعب الأعزل الممزق وهو في حرب أهلية مأساوية استطاعت أن تطرد قوات المار ينز الأمريكية وجنود فرنسا وقوات إسرائيل التي حاصرت بيروت بدون حاجة للأمم المتحدة ومعاهدات؟! وهكذا حدث في الصومال وأطفال الحجارة؟! ولكن السياسي والمثقف وإيمانهم بقوة العنف يجعلهم حيارى فيظنون أن قنبلة باكستان وثورتها اللتان تدعوان الى الاشمئزاز يمكن أن يغير شيئاً! لقد مات العنف وتعفن وصار منتناً ولكن إيماننا به يجعل مثقفنا ينسحب ويختبئ ويقول: المشكلة عند السياسي وليس عندي!
ولكن المصائب تنبه أحياناً الى مكان المشكلة فكان مما قيل في هزيمة حزيران 1967 من أن هزيمتنا ثقافية. من المنسحب المختبئ الذي لم يقم بواجبه فصدق عليه قول عيسى عليه السلام في الإنجيل: إذا كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون ؟!