القدرة والإرادة كشريعة وحقيقة
من Jawdat Said
3 - القدرة والإرادة كشريعة وحقيقة:
والمقصود من هذا العنوان بيان كل من القدرة والإرادة عند المتصوف والفقيه، فالصوفية يسمون أنفسهم بأصحاب الإرادات، ويسمون تلميذ المتصوف بالمريد، ويعتبرون أنفسهم بأنهم بأصحاب الحقيقة. كما أنهم يرون إمكان وصول الأمي والعامي إلى درجات عالية في الإرادات، وهو نموذج من التطبيقات على ما ذكرنا سابقاً من أن الإرادة قد ترتفع إلى درجة عالية عند العوام والأطفال ذكوراً وإناثاً بحيث يبلغون أقصى درجات الإرادة، وذلك ببذل النفس والمال. بينما لا يمنك أن يصل إلى القدرات إلا بجهود، لا تتيسر للعوام والأطفال. وكذلك أمر التصوف والفقه، فالمتصوف يمكن أن يقطع المراحل قفزاً ويصل، ويسمونه (الواصل). أما الفقيه فلا يمكن أن يصل إلا بالدرس والجد سنين طويلة. وقد يرمي المتصوف بأنه متعلق بالرسوم، وبأن الفقهاء محجوبون. وليس هذا موضع بحثه الآن، ولا يهم ما بين المتصوف والفقيه من خصام ووئام، ولا أن المتصوف قد يغرق في الإرادة ولا يعود يفرق بين الإرادة الشرعية والكونية، فيرى الكون كله مراداً لله ومنها المعاصي حيث يرى المعصية طاعة لله … وهذا الاختلاط بين الإرادة الكونية والشرعية شائع مشوش، وإن لم يصل عند الكل ما وصله عند الحلولية من المتصوفة. الإرادة الكونية هي إرادة الله في أن جعل الإنسان قادراً على فعل الطاعة والمعصية، فإذا فعل طاعة يكون قد عملها بإرادة الله الكونية، أي بأقدار الله له على ذلك، وإن فعل المعصية فكذلك … أما الإرادة الشرعية فهي إرادة الحلال والحرام (الواجب والمحظور). فإذا استخدم الإنسان إرادة الله الكونية في الطاعة فقد رضي الله عنه، وإن استخدمها في المعصية سخط الله عليه … مثال ذلك شراء المصحف أو شراء الخمر، ولكن أن تجعل الخمر حلالاً كالمصحف لأن الله أراد قدرتك على هذا وهذا، فهنا مصدر الخطأ الذي يقع فيه الحلولي، ومصدر التشويش الذي يقع فيه المسلم الطيب عادة حين يرى أن المعاصي من قدر الله … ويمكن أن نرى الكوني والشرعي في قوله تعالى: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ (سورة الأعراف: الآية 54) فالله خلق المؤمن والكافر.. ولكن الله لا يأمر بالكفر، وإنما يأمر بالطاعة:
﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها. قل إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾ (سورة الأعراف: الآية 28).
كما أن (الخلق) يتجه إلى الكوني، و(الأمر) يتجه إلى الشرعي. إلا أنه قد تأتي الكلمة الواحدة يراد بها الكوني أحياناً ولشرعي أحياناً. فقوله تعالى:
﴿حرمت عليكم الميتة﴾ (سورة المائدة: الآية 3): أمر شرعي. ولكن قوله: ﴿وحرمنا عليه المراضع﴾ (سورة القصص: الآية: 12): أمر كوني.. كذلك قوله تعالى: ﴿أمر ألا تعبدوا إلا إياه﴾ (سورة يوسف: الآية 40): أمر شرعي …
ويمكن الإشارة - ونحن نبحث موضوع المتصوف والفقيه - إلى جانب آخر، وهو أن التخلف حينما أصاب العالم الإسلامي، ظهر عند المتصوف (في شطحاته)، وظهر عند الفقيه (في جموده)؛ فكان المتصوف من قبل يملك المرونة بحسب الجانب الإرادي حيث تغلب عليه المقاصد، أي كان مرناً في الجانب الفقهي. وكان الفقيه ملتزماً للقواعد بشكل ظاهر في بيان الحلال والحرام … ولكن التخلف حينما أصاب كلاً من المتصوف والفقيه، شطح المتصوف فلم تعد له كوابح، وجمد الفقيه فلم يعد يستطيع حركة ولا اجتهاداً. وجانب ثالث، هو أن المتصوف يغلب عليه جانب العبادة، بينما الفقيه يغلب عليه جانب العلم وربما المنطق والفلسفة والحدود … يقول ابن تيمية في هذا في عدة مواطن من الفتاوى: (إن فسد من عبادنا فيهم شبه بالنصارى، ومن فسد من علمائنا فيهم شبه باليهود..) لأن النصارى ضالون ففسادهم في القدرات أكثر لأنهم يخالفون عن جهل.. واليهود مغضوب عليهم ففسادهم في الإرادات أكثر أي فساد النيات عندهم أكثر لأنهم يخالفون عن علم.
4 - موقف أهل الدين والسياسة من نقص القدرة والإرادة:
ذكرنا فيما سبق أن ركني العمل هما القدرة والإرادة، وأن النقص قد يكون في كليهما أو في أحدهما … وأن النقص في حضارة عالم الإسلام اليوم إنما هو في جانب القدرات، ولكننا ذلك نرى الناس يتجهون إلى إبراز أهمية الإرادات ويحاولون تلافي النقص فيها - وكان الأحرى بهم أن يتجهوا إلى تلافي النقص في القدرات - فيتجه أهل الدين إلى علم الكلام، ويتجه أهل السياسة إلى مصادر جديدة للإرادات.
أما في موطن الاختلاف، فكل من أهل الدين والسياسة يتجه إلى الإدانة في نقص الإرادات أو عدم وجودها ولا يتجهون إلى الإدانة في نقص القدرات: فيتجه أهل الدين إلى التزمت ورمي كل من يخالفهم بالزندقة والمروق عن الدين، ويسارعون إلى الاتهام بالكفر، فينشأ عن ذلك تكفير بعضهم بعضاً، كما ينمو التشكك في الإخلاص والإرادات. وكان منشأ محاكم التفتيش من مثل هذا الاتجاه.
وفي العالم الإسلامي يبرز هذا النقص في التوجس خيفةً من كل محاولة لكسب القدرات، أو وصف محاولة استخدام القدرات بأنها قنطرة اللادينية، أو أنها أخطر بدعة تهدد الشريعة والدين. ويكون التنابز بألقاب الكفر بضاعة لمتخاصمين، ويتوجه الشك مباشرة إلى الإيمان، فيخشى على إيمان الذين يسعون لاكتساب القدرات. ويمكن أن يلاحظ ذلك - بسهولة - كل من راجع سجل الأفكار في العالم الإسلامي …
أما في مجال السياسة، فنجد الحالة نفسها … فنراهم لا يدين بعضهم بعضاً في القدرات، بل يتجهون مباشرة بكل عفوية إلى الإدانة في النيات والإرادات، في صورة الاتهام بالخيانة والعمالة؛ فكل من يخالفهم خائن وعميل. وما أسهل توزيع هذه الألقاب على بعضهم في أدنى خلاف ينشب بينهم، ولست بحاجة إلى ذكر أمثلة، إذ عليها نصبح وعليها نمسي … فوسائل الإعلام التي تضخمت في هذا العصر عالمياً تطفح بمثل هذا الاتجاه ولا يكون الاتهام في مثل هذه الظروف الحضارية - عادة - بنقص القدرات أو بنقص العلم، وباحتمال الخطأ في الفهم إذ (كل ابن آدم خطاء) بل يتوجه مباشرة إلى النيات وإدانة المقاصد والإرادات. ولعل السبب في هذا هو استخدام البضاعة المتوفرة وهي الإرادات حيث يغيب العلم، فلا يستخدمونه في بحث القضايا، بل يستخدمون الإخلاص فيكون الطعن في إخلاص المخالف، لا في إظهار خطئه وجهله.
وهذا الأسلوب هو أسلوب السهولة في الإدانة، لأن الإدانة في القدرات (في العلم وفي الفهم)، تحتاج إلى جهد عقلي وإلى إبراز الأدلة.. أما الإدانة بالكفر أو الخيانة، فلا تحتاج إلا لمجرد الكلام …
هذا هو الواقع في مجتمع فقدت فيه الأفكار قيمتها الذاتية. وإن لهذا الأسلوب في الإدانة سيئات كثيرة من أبرزها: أن الإدانة تكون مؤلمة أكثر عندما يعرف المتهمُ في نفسه الإخلاص، بل أنه صادق في إخلاصه، سواء كان من أهل الدين أو من أهل السياسة. فالأول يحب الله ورسوله ويخلص لهما، ومستعد لتقديم كل شيء في سبيل الله. والثاني يعرف في نفسه إخلاصه لأمته وبلده، ولا يخطر في باله أن يخون أمته أو يبيعها. فإذا ما اتهم بهذه التهمة أهل الدين أو أهل السياسة، تكون الجراحات مؤلمة مأساوية.. وكم تكون الصدمة شديدة حين يكشفون سوء ظن الآخرين بهم أو اتهامهم مباشرة … حتى إن هذا الاتجاه يظهر في التجمعات الصغيرة، فيكون همها كشف ذي الوجهين، ولا يكون همهم في رفع مستوى إدراك الذين يلوذون بهم، لهذا تحدث الانشقاقات والحرمانات، والطرد، وتحريم المطالعات غير المقررة، وفرض الرقابات الشديدة على مصادر المعرفة في المدارس الدينية والعقائدية، ويبذلون في ذلك كل جهد ووسيلة مشروعة أو غير مشروعة. ومن يراجع أساليب محاكم التفتيش في تنسم الاتهامات لأدنى الملابسات، يعرف كيف أن النقص في القدرات يؤدي إلى دمار المجتمعات.
ومن سيئات الإدانة في الإرادة (الإخلاص) هو أن أصحابها يعوّلون فقط على المخلصين لهم دون النظر والتأكد من كفاءاتهم في أداء الواجب … فتنحط نتائج الأعمال وتتعرقل الأمور، وتنعقد السبل، ولا ينتج عن ذلك تنافس في تحصيل القدرات، بل التنافس في التقرب والتزلف قدر الإمكان مما يزيد الطين بلة. وهذا الأسلوب في الإدانة لا يحل المشكلة، لأنه لا يعالج أسبابها، بل يزيد المشكلة تعقيداً.
ثم إن الاتهام بنقص القدرات ليس مؤلماً كالاتهام بنقص الإرادات، إذ يمكن للمرء أن يعترف بنقص القدرات دون شعور بوخز في الضمير، ودون شعور بالإثم وبآلام مخاض ولادة جديدة.
قد يسهل علينا الآن الاعتراف بنقص قدراتنا المادية - الشيئية - وكذلك حين ندخل مستوى القدرات الفهمية، سيسهل علينا الاعتراف بنقص قدراتنا الفهمية، كما هو شأن أهل العلم والفهم، إذ أن أقدر الناس على الاعتراف بالنقص في العلم أهل العلم. ولا يزال الإنسان يسعى لكتم جهله حتى يدخل باب العلم، فإذا دخل دار العلم لم يعد يقلقه أن يظهر جهله … وهذا ما حمل ابن تيمية على أن يسطّر في وقت مبكر عن عصرنا هذه الملاحظة التي لها أهميتها الخاصة لأن كل الذين ينظرون ويدققون النظر في آيات الله في الآفاق والأنفس يلاحظون هذه الظواهر. قال رحمه الله في وصف هذه الظاهرة:
(فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون)(1).
فهذه إشارات خفيفة إلى مشكلات كبيرة نعانيها، فهي لا تنتظر أصحاب الإشارات الخفيفة، وإنما أصحاب قدرات علمية فهمية وليست مادية شيئية، وذلك لتطهير مجتمعنا من المشكلات. وهذا واجبكم أيها الشباب المؤمن، وقد أنعم الله عليكم بنعمة الصحة والفراغ …
﴿ولتعلمن نبأه بعد حين﴾ (سورة ص - الآية: 88).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.