الفعل والانفعال

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

حتى يغيروا ما بأنفسهم


Change.gif
تحميل الكتاب
مقدمة مالك بن نبي
مدخل كتاب حتى يغيروا
سنة عامة للبشر
سنة مجتمع لا سنة فرد
سنة دنيوية لا أخروية
في الآية تغييران
مجال كل من التغييرين
الجانب المهم هو التغيير الذي يقوم به القوم
ما بالقوم نتيجة لما بالنفس
لتحقيق التغيير لا بد من تغييرين
مفهوم التغيير عند الآخرين
علم النفس الفردي والاجتماعي
العلاقة بين سلوك الإنسان وما بنفسه
ما بالنفس يتفاوت في الرسوخ
كيف تلقى السنن القبول عند المسلمين
العقل والسنن في القرآن
يظهر أثر ما بالنفس ولو كان ما بالنفس وهماً
الفعل والانفعال
المنهج والتطبيق


العمل الآلي لبعض أعضاء الجسم

سبق أن ألمحنا إلى أن كثيراً من أعضاء الجسم تعملُ آلياً دون تدخل الإرادة ، وقلنا كذلك إن الأفكار التي بالنفس تتفاوت في درجة العمق والتغلغل .

وهذه المفاهيم التي تعمقت ، تقوم في كثير من الأحيان بأعمال آلية دون تدخل الفكر الواعي عند الإنسان . بل يفقد الإنسان صوابه وإرادته عند الغضب والانفعال، أو تضعف إرادته بدرجات متفاوتة. وفي هذه الحالة يتصرف الإنسان على أساس دوافعه المتغلغلة، ويقل تدخل القدرة الواعية أو يكف بالمرة. فلهذا يُوصي القاضي أن لا يحكم أثناء غضبه.

إن أصول ها الموضوع ثابتة لا تنكر، ولكن فروعه وتطبيقاته متشعبة في نواحي الحياة تشعباً كبيراً. فمثلاً قد نرى في الطرقات أشخاصاً يطاردون الأطفال، لأن الأطفال كشفوا فيهم بعض نواحي الضعف، كأن ينادونهم بألقاب معينة تثيرهم. إن الأطفال هنا كشفوا ضعفاً في إرادة هذا الإنسان، فيخرجونه من طوره الواعي بسهولة، إذ اهتدوا إلى النقطة التي تثيره، أو إلى الزر الذي إن ضغط عليه حدث لدى هؤلاء استجابات معينة. حقاً إن هؤلاء جديرون بالرثاء، لأن الأطفال يتحكمون بانفعالاتهم.

ولكن يا ترى هل يمكننا أن نرى أننا نحمل في أنفسنا مثل هذه الأزرار؟ إن كشف أحدٌ كيف يضغط عليها يُثيرنا أيضاً ؟ وإن لم يكن في مستوى مطاردة الأطفال في الطريق، ونخرج أيضاً عن طورنا. إن هذه الأزرار موجودة عند كل الناس ولكن لا يستطيع كل واحد أن يضغط، ولا كل من ضغط يمكن أن يحدث نفس الانفعال. فقد يذهب بعضُ الناس إلى إنسانٍ يريدون إثارتهُ فيذمُونَ له رأيا، أو يستخفون من شيء يقدسه حتى تغلي مراجل قلبه، فيخرجون من التباحث إلى التَّهاتُر والتشاتم، وقد ينتقلون من استخدام اللسان إلى استخدام الأيدي. ولكن لنفرض أن هذا الذي أراد الآخرون إثارته، جاءه من يخبره بقصدهم، فلا شك أنه سيرجعهم مخفقين، بتماسكه أمام لُعبته حين أصبح على وعيٍ من قصدهم.

النضج الفكري

وهذه المرتبة من التماسك والنضج، يمكن أن يصل إليها الإنسان بجهده حين تزداد معرفته وتتسع خبرته بالناس والحياة، فلا يترك لأحد سلطاناً على أعصابه وانفعالاته.

وقد يكون الذين ذهبوا إليه لا يقصدون إثارته، ومع ذلك يتهاتر الطرفان لأن الأزرار المكشوفة تحدث الانفعالات بالضغط عليها، ولو بغير قصد الإثارة. فكثير من اللقاءات تجذب لمثل هذه الحوادث المؤسفة. فإذا خرجنا من هذه الأمثلة التي يقوم بها الأطفال في الشارع، ومن الأمثلة التي يقوم بها بعض الأذكياء الخبثاء في مستوى إثارة شخص معين، يمكن أن ننتقل إلى مستوى المجتمعات التي تحمل مواريث معينة في فهم الحياة والكون.

لورانس نموذج على ما ذكرناه

إن هذه المجتمعات تنطبق عليها نفس الفكرة في إمكانية الإثارة. فإن كان يمكن رؤية بعض البسطاء، فإنه يمكن رؤية زمرة من الناس دربهم الكبار على التلاعب بالمجتمعات وإثارتها، ليؤدوا دورهم، في الوقت المحدد، في مجتمعات ما تزالُ بسطةً لتبلغ مرحلة النُضجِ والرُشد. فإذا جاء هذا الوقت ألقى الأخصائيون (فتيشة)(1) تنفجر تحت أقدام المجتمع فتخرجه عن طوره، ليضربوه على أثر ذلك ضرباً مؤلما، أو ليظهروه أمام العالم مسخرةً لا يملك إرادة، وإنما هو في صورة وحش، ينبغي أن تُقيد حدودُ إمكانياته. ويكون هذا سبباً في تبرير ما يقومون به من إجراءات للحد من حرية حركته أو الحجز عليه كالسفهاء. إن العرف يقر الحجر على السفيه، ولكن العرف لم ينتبه بعد إلى إمكانية إبقاء السفيه سفيها، بل وزيادة سفهه. فإذا تنبه المجتمع إلى ذلك ، قام بعمل يزولُ معه خُبثُ الأذكياء المُدربين للتلاعب بالشعوب. وكان لورانس مثلاً ممتازاً في الإنسان المدرب على إثارة عواطف مجتمع في الاتجاه الذي يريده، لتسخيره.

مثال لجمال الدين الأفغاني

ولعله من المناسب أن نستأنس هنا بما قاله جمال الدين الأفغاني في خاطراته بمناسبة أحداث السودان يومذاك : «من أن بريطانيا أخرجت من جرابها ألعوبة (حصار كوردون)، فأصدرت أوامرها إلى المصانع، ليباشروا مد سكة حديد من سواكن إلى بربر.. وتزعم أن لا باعث لها على ذلك إلا الرغبة في تخليص كوردون إن كان في خطر.

إذا فرضنا هلاكه - كما هو الغالب - أو خلاصه. فهل تهدم دولة إنكلترا طريق الحديد أو تتبرع بها لمصر سخاءً. كلا والله. لا هذا ولا ذاك، ولكن طريق للاستيلاء على السودان. قال المخزومي: أتيت يوماً لجمال الدين وكاشفته بقولي: «هذه المقالة نقلتها إلى (الخاطرات) حسب إشارتك، ولكن توقفت عن نقل ما تبقى. لأنني ما رأيت جدوى في نقل حوادث جرت وانقضى أمرها وكاد الناس أن ينسوها، ولا فائدة من إعادة ذكرها.

سمع لي جمال الدين بإصغاء، ولما انتهيت قال: يا شيخ بني مخزوم، وعزة الحق: إن ما تراه اليوم من الفضول بذكر حوادث مضت، وأعمال أتى بها الإنكليز في مصر والهند إن مضت أعيانها، فستأتي أشكالها وأمثالها. فبريطانيا لا تفتر تحدث فتوقاً في البلاد فتدخل من أضيقها فتوسعه، وترقب أصغر حدث فتجسمه، وتعمل على عشق عصا القوم، وتقسمهم أحزاباً وتكون نصير المتباغضين. سُنةٌَ جرت عليها دولة بريطانيا ورجالها فلا يحيدون»(1).

لم يكن هم الأفغاني ذكر الأحداث، ولكن التنبه إلى السنة التي تتبعها بريطانيا مع الشعوب. ويظهر تألم الأفغاني من عدم فطنة المخزومي إلى هذا القصد. ويعرف الأفغاني أنها إن مضت أعينها فستأتي أشكالها وأمثالها. وحقاً إن إنكلترا أخرجت من جرابها بعد عشرين عاماً من هذا الحدث، حاوياً آخر في الوقت المناسب، كما قال مالك بن نبي: «عرف الأوروبي كيف يختار السياسة التي تناسب تلك الساعة، هو الذي يتمتع بالمقدرة الانتهازية الجبلية الفطرية، فعرف لورانس مثلاً - في الساعة التي هدد فيها (فون أرمين) قناة السويس 1915م - كيف يثير الثورة العربية المشهورة، حين دلل ضعف الشيخوخة لدى عجوز، هو الشريف حسن، وتملق حفنة من الزعماء الشباب المخمورين بفكرة المملكة العربية»(2).

إن كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) فيه تفاصيل دقيقة، كيف قام لورانس بالمهمة على أحسن وجه، وكيف استغل عدا ما أشار إليه مالك، بدو الصحراء الذين لا نعرف لهم قيمة، واختار منهم حرسه الخاص ، مئة من الشبان الأشداء، كلهم ماتوا في سبيل حماية لورانس ما عدا بضعة نفر منهم.. وقد خاض نيفاً وثلاثين معركة في سبيل بريطانيا، ولكن دون أن تراق قطرة دم بريطاني.

ولا فائدة من ذكر هذه الأحداث إن لم تُحصنا من الوقوع في أمثالها.

الخلاص من سيطرة الانفعالات يكون بفهم السنن

ولن يحصننا إلا تفهم السنن المسخرة للإنسان، وإلا سنظل مسخرين لمن يعرفونها. ولن نصل إلى السنن، إلا إذا كابدنا دراسة واسعة للأحداث ضمن هدف محدد، غير مجرد الاطلاع.

والشيء الذي يجب أن نستفيد منه في هذا الموضوع هو، أن ترك المجتمع دون رفع مستواه يعرضه لأن يبقى في مستوى المعتوهين. قد يكون عَتهُ بعض الأفراد طبيعياً، مع إمكان تقليل عددهم إلى حد أدنى . ولكن عَتَهَ المجتمع ليس طبيعياً، وإنما هو عَتَهٌ من صنع أيديهم: « وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » النحل - 33 -.

إن إدخال سنن هذه القضايا في وعي الإنسان، وإدخال هذه الآليات النفسية إلى مستوى الوعي، واستبدال هذه الآليات بآليات أخرى، أمر يستحق انتباهنا. لأن في الإمكان غرس الأفكار في مستويات معينة في درجة العمق والآلية.

إن تغيير الشعور واللاشعور صار ممكناً الآن . وقد يعجز الفرد أن يغير شعوره ، أو أن قدرته على ذلك ليست مطلقة ، ولكن المجتمع له القدرة على تغيير ما بنفس أفراده ، مهما كان بالنفس سطحياً أو عميقاً ، لأن هذا علم . وهذا العلم هو موضوع آية البحث في هذا الكتاب .

استخدام المسيطرين على الأمم لهذه القاعدة

مثلاً حين يقول أحد زعماء الصين: «إن الذي علينا أن نقوم به من توعية للشعب إلى الخطر الذي يحيط به، لم نقم نحن به، وإنما قام العدو بهذه التوعية حين صارت قنابله تسقط على الشعب، وربما إلى الآن الذين لم تصلهم القنابل لم يتوعوا بعد إلى الخطر».

هذا الزعيم يشعر بأنه كان في الإمكان نقل هذا الخطر إلى ضمير كل فرد قبل سقوط القنابل، ولكن لم يقوموا به، فيشعر بالتقصير إزاء ذلك. لما نشأ مثل هذا الفهم عندهم، استطاعوا أن ينقذوا شعبهم من أن يكون قصعة، يتداعى إليها اليابان والروس والأمريكان، الذين صاروا الآن يفكرون كيف يخطبون وده رغبةً ورهبة.

إن تلقين ضمير الجماهير إزاء الأخطار، علم يقوم به الاختصاصيون في عالم يعي كيف تسير الأمور. إن لا مبالاة الفلاح بالنظافة، وما يجلب ذلك من أوبئة، مشكلة ينبغي أن تعالج، وأن يعلم من يعالج، علم تلقين الضمير، علم تغيير ما بأعماق النفس.

إن كنا نضرب المثل بالنظافة فهذا مثل، ولكن المشكلة أن يظل الإنسان في عالم اللامبالاة في مصيره في هذا العالم ومصيره في الآخرة.

وحين يصبح التلاعب بأفكار المجتمعات وتوجيهها إلى حيث يراد، علماً منسقاً له دوائره وعلماؤه، ومؤسساته، وحين يؤلف كتاب في مثل هذا الموضوع عنوانه: «اغتصاب ضمير الجماهير» حين يتم كل ذلك، لا بد أن يصير عند هذه المجتمعات علم آخر تتحصن به ضد هذه التوجيهات وذلك الاغتصاب.

إن مرحلة عطالة عقل الإنسان، وعدم رؤية سنة الله في الكون والبشر، هي المرحلة الخطيرة. وهذه المشكلة هي التي تُبرز لنا يومياً مواليد وذريات من المصائب، نعتبرها أنها أخطر مرحلة.

إننا دخلنا أخطر مرحلة، حين أقفلنا العقول منذ زمان بعيد، هناك كنا نقيم ببطء حول أعناقنا الطوق الحجري الذي سيرهق حياتنا في المستقبل.

إن علم تغيير ما بالنفس وما ينبغي أن نغيره، والزمن الذي يحتاج إليه إذا استخدمت الإمكانيات بكفاءة، هذا العلم هو الذي يخرجنا من الحيرة التي نعيش فيها.

فإن لم يتيسر لنا أن نفهم هذا، ولم يتيسر لنا من يقدم لنا الحجج الكافية للإقناع في هذا الموضوع، فسنظل نعيش في عالم لا نشعر أنه يخضع لسنن، وسنصاب بالعطالة التي تشل نشاطنا.