الفصل الثاني، كتاب العمل

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

العمل قدرة وإرادة


Alamalqudrawaerada.gif
تحميل الكتاب
المقدمة
الفصل الأول، مصطلحات البحث
الإخلاص والصواب
مصطلحات أخرى للإخلاص
الفصل الثاني
العمل
منطلقات العمل
التسخير
انظروا كيف بدا الخلق
كيف يتولد العمل
تعريف العمل
أركان العمل
الفصل الثالث، الإرادة
مفهوم الإرادة
من أي شيء تتكون الإرادة؟
بعض خصائص الإرادة
الإرادة روح الأمة
الإرادة كقيمة وكصناعة
الفصل الرابع
عمق المشكلة
كيف يحصّل الإنسان القدرات
ملكة تحصيل القدرات
الإرادة كانت قدرة
القدرة الأخلاقية الكامنة
أسلوب آخر لتعريف الصواب
الفصل الخامس - تطبيقات
هل عند العالم الإسلامي إرادة؟
عمى الألوان
القدرة والإرادة كشريعة وحقيقة
موقف أهل الدين والسياسة من نقص القدرة والإرادة


يروى أن صوفياً خرج إلى الصحراء متعبداً، فرأى في طريقه طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر، ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع؛ فلم يمض وقت طويل حتى جاء طائر آخر، فأطعم الطائر كسير الجناح كما يطعم الحمام فراخه فعجب الصوفي وقال في نفسه: فيمَ أسعى وأتعب؟ ثم أوى الرجل إلى غار … وسمع به أحد المتعبدين، فذهب إليه وقال له: ما حملك على القعود في هذه الغار؟ فقصّ عليه قصته … فقال له: ويلك!! لمَ أحبَبتَ أن تشبه الطائر الأعمى؟ ! هلاّ فعلت ما فعل الطائر السليم الذي أتى بالطعام، فتسعى لكسب الرزق لنفسك وغيرك؟ .. فرأى الصوفي صدق هذه النصيحة، وترك غاره وغدا يسعى كما تسعى الطير التي تغدو خماصاً وتعود بطاناً.

العَمَل

1 - منطلقات العمل:

يبصر الإنسان الأشياء بخلفيته الثقافية وبمواريثه الاجتماعية، والإنسان وإن كان له عينان يبصر بهما، إلا أن له بصيرة يفسر بها ما تبصره عيناه. وهذه البصيرة يصنعها المجتمع، ويأخذها الإنسان منه.

يروى أن صوفياً خرج إلى الصحراء متعبداً، فرأى في طريقه طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر، ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع؛ فلم يمض وقت طويل حتى جاء طائر آخر، فأطعم الطائر كسير الجناح كما يطعم الحمام فراخه فعجب الصوفي وقال في نفسه: فيمَ أسعى وأتعب؟ ثم أوى الرجل إلى غار … وسمع به أحد المتعبدين، فذهب إليه وقال له: ما حملك على القعود في هذه الغار؟ فقصّ عليه قصته … فقال له: ويلك!! لمَ أحبَبتَ أن تشبه الطائر الأعمى؟ ! هلاّ فعلت ما فعل الطائر السليم الذي أتى بالطعام، فتسعى لكسب الرزق لنفسك وغيرك؟ .. فرأى الصوفي صدق هذه النصيحة، وترك غاره وغدا يسعى كما تسعى الطير التي تغدو خماصاً وتعود بطاناً.

إن المسلم التقليدي لا يرى في مثل هذا المشهد إلا الطائر الأعمى، ويغيب عنه الجانب الآخر. ومع أن الصوفي في المثال السابق كان شاهد عيان للحادثة، وكان الثاني سامعاً، فقد كان اعتبار الأخير بالحادثة إيجابياً: إذ رأى وجه العبرة الصحيح. وهذه الرؤية هي التي يلح عليها القرآن حين يأمرنا بالاعتبار بأحوال من خلوا من قبل … ﴿ألَم ترَ إِلى الملأ مِن بني إِسرائيل مِن بعد موسى … إِنَّ في ذلك لآية لكم إِن كنتم مؤمنين﴾ (سورة البقرة - الآيات 245 - 248). وقد فسَّر اللغويون الرؤية بمعنى العلم، لأن السامع مثل المعاين في الرؤية والاعتبار. والشاهد في هذه الحادثة أن المسلم الذي يسمع القصة قبل أن يصل إلى نصيحة الرجل الثاني، يصادف في نفسه إعجاباً بالعبرة التي فهمها الصوفي الذي قعد في الغار.

وقد يدخل شخصان منزلاً، فيرى كل منهما جانباً لا يشاهده الآخر، فقد يتأمل أحدهما الدهان المزين للجدران، بينما يتأمل الآخر وسيلة التدفئة..

وإذا دخل أشخاص مكتبة، فكل منهم يلتفت إلى الكتب التي تبحث في أمور تشغل باله، فيرى أحدهم ما لا يراه الآخر.

كذلك الناس الذين يمشون في الشوارع يلاحظ أحدهم المساجد، وآخر الملاهي، وثالث الأماكن التي تباع فيها التحف القديمة … وهكذا كلٌّ يلاحظ بحسب اهتمامه ويرى مالا يراه الآخر.. إن عيونهم التي في وجوههم تلتقط مثل آلات التصوير كل المشاهد، ولكن الذي يحضر الأفلام في الداخل ينتقي مشاهد معينة فقط، وهذا يعني أن وراء عيوننا عيوناً أخرى تقوم بعلية انتقاء. وهذه العيون الخلفية هي لتي يتحدث عنها الله تعالى حين يقول:

﴿.. فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور..﴾ (سورة الحج: الآية 46).

﴿وكأيَّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها، وهم عنها معرضون﴾ (سورة يوسف: الآية 105).

عن التربية هي التي تصنع هذه العيون الخلفية.

وإن القرآن حين يتحدث عن العيون التي لا تبصر من مشاهد الحياة إلا بعض جوانبها، وتعمى عن الجوانب الأخرى، فلا ترى إلا ما تريد أن ترى، أو لا ترى إلا ما أراد لها اختصاصها أن تراه، فإنه يعظنا وينبهنا ألا تقع بهذا الخطأ الكبير.

فالخلفية الثقافية هي التي جعلت أحد الرجلين لا يرى من المشهد إلا الجانب الأعمى السلبي، وجعلت الآخر يرى الجانب المبصر الإيجابي. إن مثل هذا التفاوت في الاعتبار يحدث كثيراً في الأفراد، ويحدث في الأمم إلا أن ما يحدث في الأمم أهم وأعم. وكما أن الأفراد لا يلاحظون من المشاهد إلا بعض جوانب اختصاصاتهم واهتماماتهم، كذلك الأمم تختص ببعض الجوانب. والذي يعطي المجتمع اتجاهه ليس وجود أفراد قلائل يفهمون الموضوع، وإنما توفر نسبة مناسبة تعطي مستوى معيناً للاتجاه.

وهذا يفسر لنا استغراب الصحابة الذي ورد في الحديث الشريف: (أنهلك وفينا الصالحون؟ ! قال: نعم، إذا كثر الخبث) رواه البخاري في كتاب الفتن.

وقبل الشروع بتعريف العمل وبيان كيفية حدوثه، لابد من شرح بعض المفاهيم الأساسية.

أ- التسخير:

من المقرر في كتاب الله، والمشاهد في الواقع أن الكون مسخر للإنسان، وأن هذا التمكن من التسخير يزداد بازدياد العلم:

﴿اللهُ الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخَّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخَّر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلومٌ كفار …﴾ (سورة إبراهيم: الآيات 32،33،34).

﴿وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ (سورة الجاثية: الآية 13).

والتسخير يعني: الخدمة مجاناً (جاء في مختار الصحاح، سخرَّه تسخيراً: كلفه عملاً بلا أجرة). ولكن هل يخدم الكون الإنسان - في الواقع - مجاناً أم لا؟

إن الكون يخدم الإنسان مجاناً إذا فهم الإنسان كيف يوجّه الأوامر إلى الكون، وتزداد قدرة الإنسان على التسخير كلما زاد فهم الإنسان لكيفية توجيه الأوامر إلى الكون - وتوجيه الأوامر: هو معرفة السنن - ودليل هذا أن إنتاج الأرض والحيوان والنبات والحديد.. كل هذا يزداد إذا فهم الإنسان سننه، أي تزداد طاعة الكون له، وكأن هذا الكون خقله الله خادماً مطيعاً للإنسان، ولكن شرط الله على هذا الكون ألا يطيع الإنسان إلا إذا دعاه عن طريق معين، فإذا دعاه ن غير هذه الطريق فلا يستجيب الكون ويظل معرضاً صامتاً أمام الإنسان. إن الذي لا يعرف كيف يحرك الكون هو إنسان جاهل للنداء الذي يستجيب الكون على نغمته.. وهذا النداء هو كشف السنن واستخدامها.. وكما يستعصي القفل أن يفتح بغير مفتاحه، كذلك الكون لا يستجيب إلا بعد سماعه كلمة السر.

إن السيارة مهما كانت مستعدة للحركة، فإنها لا تتحرك مع من لا يعرف فن قيادتها.. بل كل الآلات لا تتحرك للإنسان الذي يجهل كيف يحركها.. وهذا الكون لا يتسخر للإنسان إلا إذا عرف كيف يسخره، فالشجر مثلاً كان ولم يزل مسخراً له، ولكن في أول الأمر كان الإنسان يسخره بتناول ثمره دون زرعه، وبعد أن تعلم الإنسان زرع الشجر، زادت الأشجار وسائر النباتات من طاعتها للإنسان. وكذلك الحيوانات بعد أن كانت ثروة للصيادين، عرف الإنسان طريقاً آخر يسخر به الحيوان ويجعله أليفاً ذا فوائد أكبر وأكثر..

فالتسخير يزداد بازدياد العلم، ولقد رأيناه - بوضوح - فيما سبق في آيات الآفاق التي تسمى (تكنولوجيا). وأما التسخير في آيات الأنفس فهو أقل وضوحاً، ومن تأمل قوله تعالى:

﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ (سورة الرعد: الآية 11).

يدر التسخير بالوضوح نفسه أيضاً.

إن اكتشاف التسخير في آيات الأنفس يهدي إلى إمكان تسخير سنن الأنفس حتى يصل الإنسان حين يذكر أخاه بسوء إلى مرحلة النفور التي يشعر بها من يأكل لحم أخيه ميتاً:

﴿ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه؟ ﴾ (سورة الحجرات: الآية 12).

إن الهدف الذي يضعه الله للإنسان في هذا التشبيه مدعم بواقع التاريخ، فالإنسان قد بلغ درجة النفور من أكل لحم الإنسان الميت،ولكن هذا العالم المتمدن - نسبياً - لا يزال يجد من التلذّذ والتّلمظ في الغيبة - أي في ذكر الآخرين بسوء - ما يجده الإنسان في أكل لحم الضأن الغض، بل ما كان يجده الإنسان البدائي في أكل لحم أخيه الإنسان أيضاً كما هو مسجل في التاريخ وإلى عهد ليس ببعيد في بعض المناطق من العالم … فإذا كنت اليوم تجد نفوراً من أكل لحم الإنسان، فلا يرجع ذلك إلى ذكائك مزاياك الخلقية، وإنما يرجع إلى التربية، وما عانته الإنسانية في الوصول إلى هذه المرحلة.

والآن ينبغي أن نتصور كيف تكون النقلة حتى يصير الناس يرون ذكر مساوئ الناس واغتيابهم شيئاً سيئاً ومنفّراً، مثل ما يُرى أكل لحم الإنسان. ونفور الإنسان من أكل لحم الإنسان يظل كما هو منفراً ومقّززاً، بحيث لا يقلل سوء الإنسان وفساده من هذا النفور شيئاً، وكذلك ينبغي أن لا يكون سوء الناس وفسادهم مبرراً لما يجده الناس من الارتياح في اغتياب بعضهم بعضاً. ليس قصدنا هنا أن نعطي الآخرين موعظة في الأخلاق، وإنما نريد الإشارة إلى القانون الخلقي الذي يمكن من رفع مستوى الإنسان والانتقال به من شيء سبق أن تجاوزه كثير من الناس، إلى مجال آخر لا يكاد يستطيع أن يتجاوزه قليل من الناس، وأن في الإمكان أن يصير هذا مثل ذاك.. كما يمكن تصور خَلْق آخر وراء ذلك.. كما قال تعالى: ﴿ويخلق مالا تعلمون﴾ (سورة النحل: الآية 8).

وهكذا يمكننا أن نقول:

إن التسخير يأتي نتيجة العلم بسنن الله في خلقه، فالعلم والتسخير والسنة (القانون)، أمور مرتبطة بعضها ببعض. فالسنة قانون الله، والعلم هو معرفة هذه السنن، والتسخير نتيجة هذه المعرفة.

ومن هنا نعرف أهمية العلم، فإذا فهم المسلم معناه جيداً، فسيشهد هذا العلم بصدق الإيمان بالله واليوم الآخر وضرورتهما، كما شهد العلم بصدق قوانين الجاذبية، حيث تمكَّن الإنسان من التعامل معها ورؤية عاقبة هذا التعامل، وكيف أن من يخرج على قوانين الجاذبية ويحاول أن يقفز من السطح أو الطائرة دون أن يراعي قوانين الجاذبية فإنه يتحطم …

إن العلم اليوم يشهد بالقوة نفسها لعقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، كما يشهد التاريخ أن الذين لا يراعون قواعد الإيمان بالله واليوم الآخر يتكسرون ويتحطمون، كما يتكسر الذين يقفزون من الطائرات ومن الأسطح، دون مراعاة قوانين الجاذبية. كذلك المجتمع الذي لا يأمن الإنسان فيه بوائق جاره، أو يعقّ الأبناء فيه والديهم، أو لا يراعي الناس فيه الحقوق والواجبات التي أمر الله بها في علاقات الناس بعضهم ببعض، فإن هذا المجتمع يتكسر بسبب خروجه على قوانين الأخلاق أو قوانين الله في البشر، كما يتكسر الذي يخرج على قانون الطبيعة في الجاذبية والاحتراق.. وصدق الله إذ يقول:

﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط﴾ (سورة آل عمران: الآية 18). فإذا كان للجاذبية قانونها، فإن للأخلاق قوانينها، وللإيمان قوانينه أيضاً. وكما يعاقبُ الذين يخالفون قوانين الجاذبية، كذلك وبالصرامة نفسها يعاقب الذين يخالفون قوانين الأخلاق والإيمان. وإذا اعترى أحداً نوع من الشك، فالسير في الأرض والنظر إلى العواقب يزيل الشك، وإذا لم نكن من يسير في الأرض فلنقرأ م وصل إليه الذين ساروا ورأوا …

﴿سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين﴾ (سورة النمل: الآية 69).

وكلمة السر التي تجعل الكون مستنفراً لخدمتنا، يبدأ الحصول عليها باستخدام السمع والبصر والفؤاد، وإن الذين لا يستخدمون أجهزة الوعي التي منحها الله لهم، لا يسخر لهم الكون، بل ينظر إليهم بسخرية لاذعة ولو قُدرِّ له أن يتكلم لقال لهم: كيف أتسخر لكم وانتم لا تزالون مثلي؟ ولم تستخدموا مزاياكم (السمع والبصر والعقل) التي ميزكم الله بها عن سائر المخلوقات.

إن استخدام هذا الجهاز الثلاثي هو الذي جعل الإنسان خلقاً آخر غير بقية المخلوقات:

﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ (سورة المؤمنون: الآية 14).

هذه هي الأمانة التي عرضها الله ﴿على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلمواً جهولاً﴾ (سورة الأحزاب: الآية: 72)؛ ظلوماً إن لم يستخدمها، وجهولاً إن لم يعرف قيمتها العجيبة. لهذا يحث القران كثيراً على استخدام السمع والبصر والفؤاد، وحسبك قوله تعالى:

﴿ولا تقف ما ليس لك به علمٌ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً﴾ (سورة الإسراء: الآية 36).

وكما يجب على كل فرد أن يستخدم في هذه اللحظة هذا الجهاز لنجاته في الآخرة، فإنه يجب على البشرية وعلى الدوام أن تستنفر هذا الجهاز لنجاحها في الحياة الدنيا. وميزة هذا الجهاز أنه يكشف سنن الكون فيتسخر للإنسان. والأهم من ذلك أن يكشف سنن النفس الإنسانية؛ ولهذا كأن حديث القرآن عن سنن الكون مجملاً، بينما حديثه عن سنن الإنسان ونفسه مفصلاً. وإن التاريخ الحقيقي لا يبدأ من تسخير الكون الخارجي، بل من تسخير الكون الداخلي حين يرجع الإنسان إلى نفسه.

﴿وفي أنفسكم … أفلا تبصرون!!!؟ ﴾ (سورة الذاريات: الآية 31)، ﴿قل هو من عند أنفسكم﴾ (سورة آل عمران: الآية 165)، ﴿حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ (سورة العد: الآية 11).

ونريد أن نحدق في المشكلة أكثر، لنضع الموضوع تحت المجهر ونكشف سننه، لعلنا نزيد علمنا بالمشكلة، فإن زيادة العلم زيادة في القدرة والإرادة.

عن هذه الكلمات التي قدمتها، كالنبتة تبدأ نحيفة لينة، إلا أن فيها شوق الحياة لإثبات الذات، وأرجو أن تصير معالم هذه القارة المجهولة معلومة، وإنني حين اسميها القارة أحط من قدرها كثيراً، فهي ليست قارة بل هي أم القارات، وليست من قارات الأرض وإنما رأس الحربة في هذا الكون الذي خلقه الله، وهي موضع سره تعالى الذي جعله قبلة ملائكته، حين أمرهم بالسجود لهذا الإنسان في ذلك اليوم المشهود حيث قال:

﴿إني جاعل في الأرض خليفة …﴾ (سورة البقرة: الآية 30).

إلا أن الملائكة تنبأت لهذا الخليفة بالإفساد في الأرض وسفك الدماء:

﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك﴾ (سورة البقرة: الآية 30).

واحتارت الجن في أمره: ﴿وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا﴾ (سورة الجن: الآية 10).

واستهان إبليس به، وازدرى أمره لمّا رآه مخلوقاً من طين، فامتنع عن السجود له: ﴿قال أأسجد لمن خلقت طيناً؟ !﴾ (سورة الإسراء: الآية 61)، ﴿لأحْتَنِكَنَّ ذريته إلا قليلاً﴾ (سورة الإسراء: الآية 62).

ولكن الله سبحانه وتعالى حكيم فبيَّن الأمر بقوله:

﴿هذا صراط علي مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين﴾ (سورة الحجر: الآيتان 41،42)

وقد جعل الله هذا الإنسان آية عظمته ودليل قدرته حين علّمه ما علّمه: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم﴾ (سورة البقرة: الآيتان 31،32).

ولكن الإنسان ما يزال حتى اليوم يحقر نفسه مع ما وضعه الله فيه من القدرات، وما يزال عند الذي توقعته الملائكة من إفساده في الأرض وسفكه للدماء مع ما زوده الله به بما يؤهله لأداء الأمانة والقيام بأمر الخلافة، وبلوغ الكمال الذي أراده الله له.

وإن الإنسان اليوم ما يزال يعيش أزمة الثقة بالإنسان وأزمة تحقير الإنسان مع ما أراده الله له من تثبيت الثقة بقدرته، وذلك بما وضعه فيه وهيأه له، وهذا النظر الذي يعرض به القرآن وضع الإنسان يوحي بالثقة بمستقبل الإنسان، وانه سيحقق ما علمه الله فيه وجهلته الملائكة.

ولكن البشر إلى الآن لا يثقون بالإنسان ولا يرون غيه إلا ما رأته الملائكة والجن، ولن يتمكنوا من إدراك إمكانية تحقيق علم الله بالإنسان إلا بمعرفة التاريخ ورؤية أمثلة لخروج الإنسان من حالات شاذة إلى الحالة السوية، من مثل انتقال الإنسان من أكل لحم أخيه ميتاً إلى التقزز من هذا الأمر. فمن خلال معرفة آيات الله في الآفاق والأنفس، والتبصر في التاريخ، وكيف بدأ خلق الإنسان والمراحل التي قطعها عبر التاريخ … إن من يبصر هذا كله يمكن له أن يرى من خلال الغلالة الكثيفة من عثرات الإنسان، وإحرازه بعض النجاح في اجتياز العقبات؛ يمكن أن يستشف من المستقبل ما يجعله يتأمل قوله تعالى: ﴿إني أعلم مالا تعلمون﴾ بان الإنسان سيتغلب على توقعات الفشل ويحقق ما علمه الله فيه.

وكان محمد إقبال يعيش هذه المعاني،فيقول - في قصيدته شكوى وجواب شكوى - داعياً ربه للمسلمين: (أفهمهم يا رب ما ألهمتني، واعد إليهم يقظة الإيمان)، ويرفع شكواه المحزنة عن واقع المسلمين إلى رب العالمين، فتصور جواب الله تعالى له:

(يا هذا إن قصتك لشجية محزنة، فقد أبلغتَ شكواك، فأثبت قدرة الله فيك) شكوى وجواب شكوى. فلسفة إقبال تأليف الأعظمي والصاوي طبع القاهرة 1950 ص 92.

كان إقبال بهذه الأمثلة يريد أن ينبه المسلم إلى القدرات المودعة في هذا الإنسان - والتي ينبغي أن يثيرها ويستخدمها - عاجزاً ولكنه يحمل في صبغيات جسمه ما أودعه الله فيه من إمكانات وقدرات.

إن في أعماق الإنسان هندسة ما علمه الله فيه وجهلته الملائكة ﴿إني أعلم مالا تعلمون﴾ (سورة البقرة: الآية 30).

ألم تكن القراءة والكتابة قدرة كامنة في بنيان الإنسان؟ فحين استخرجها عن طريق استخدام السمع والبصر والفؤاد، وأصبح قارئاً وكاتباً بالفعل، خرج إلى عهد جديد في الحياة.

أوليست في هذا الإنسان قدرات أخرى كامنة لا تقل عن القراءة والكتابة، إذا استخرجها صعد في مدارج الكمال، وأثبت قدرة الخالق فيه؟ . وهذا لا يتم إلا بحسن استخدام السمع والبصر والفؤاد التي إن عطلها الإنسان ارتد إلى اسفل سافلين بعد أن خلقه الله في احسن تقويم حين أودع فيه ما أودع من الإمكانات والمواهب.

ب- انظروا كيف بدا الخلق؟

﴿قل سيروا في الأرض، فانظروا كيف بدأ الخلق؟ ﴾ (سورة العنكبوت: الآية 20).

لِمَ يأمرنا الله أن ننظر كيف بدا الخلق؟ كيف نصبت الجبال وتكونت على ظهر الأرض كالأوتاد مغروسة في باطنها شامخة على ظهرها..؟

هل يمكن أن ننظر كيف بدأ نصب الجبال؟

وكيف خلقت الإبل برؤوسها الصغيرة ورقابها الطويلة وجهازها الهضمي وأخفافها؟

وكيف بدأ الله خلق هذه الأجهزة، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟

وكيف بدأت اللغات والمجتمعات؟ وكيف بدأ تكوّن القوانين والنظم والثقافات؟

وكيف بدأت الحياة الأخلاقية عند الإنسان؟

وكيف … وكيف …؟

لِمَ يأمرنا الله بالنظر إلى كيف بدأ الخلق من الذرة إلى المجرة؟ ومن الإبرة إلى الصاروخ؟ ومن عطف الأم إلى المودة بين الزوجين؟ … إلى الأشياء في مستوى المجتمعات؟ …

يأمرنا بذلك كله حتى نعرف كيف نسخر الكون، وكيف نشكر …

﴿وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون﴾ (سورة السجدة: الآية 9).

ويبين الله لنا الزوجية في خلق الإنسان وفي كل المخلوقات المادية والمعنوية فيقول:

﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين، لعلك تنكّرون﴾ (سورة الذاريات: الآية 49).

الخلق كله في نموه وتغييره من الأزواج، والخالق هو الله الفرد الصمد، لم يكن له كفواً أحد. فكل مخلوق من زوجين: ﴿سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون﴾ (سورة يس: الآية 36). فالمادة، والنبات والحياة، وأمور لا نعلمها، كلها من الأزواج. ففي مستوى المادة: تتألف الذرة من السالب والموجب، والنبات من كل زوج بهيج ﴿فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتّى﴾ (سورة طه: الآية 53).

فمن الأزواج يكون الميلاد، والمواليد لها آباء وأمهات، وكذلك فإن خصوبة الحياة الفكرية تنتج من المقارنة بين فكرتين حيث تتولد فكرة جديدة … وكذلك الحياة العملية تتولد من القدرة والإرادة.

قال ابن تيمية: (قال الله تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين﴾ (سورة الذاريات: الآية: 49)، والزوج يراد به النظير المماثل، والضد المخالف، وهو الندّ، فما من مخلوق إلا وله شريك وندّ، والرب سبحانه وحده هو الذي لا شريك له، بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعداً، وأما الواحد الذي يفعل وحده فليس إلا الله، فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له، فالمشاركة واجبة للمخلوق ولازمة له).