الشورى في أحد والخندق
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
أريد أن أتابع وأحلل موضوع الشورى. فنحن حين نستهين بالشورى التي قرنها الله بالصلاة، فإننا نستهين بذكر الله الذي هو ذكر سننه. إن الشورى من صفات المؤمنين: "الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم".
إن الشيء الذي ينبغي أن ننـتبه إليه في أمر الدين كله وشأن الحياة هو أن لا يُكره الناس على شيء لا يؤمنون به. هذا شيء أساسي في حياة الناس، به يتبين الرشد من الغي والهدى من الضلال. إن المجتهد في الرأي له أجر وإن أخطأ وله أجران إن أصاب. وأجر الخطأ يكون بقدرة الناس على تصحيح الخطأ، لأن الذين لا يجتهدون لا يمكنهم أن يتراجعوا عن الخطأ ومرجع الأمر كله أن الإنسان يعطي على الإقناع ما لا يعطي على الإكراه. فهذا الذي قال عنه الرسول (ص): "ما كان العنف في شيء إلا شانه وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وإن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. هذا ملاك الأمر كله، لأن الهداية بالبينات والهدى. والله ألهم النفوس الفجور والتقوى إلا أن المجتمع هو الذي يستثمر هذا بتزكية النفوس فيفلح من يزكيها ويخاب من يدسيها، وإذا ربطنا هذا بأوضاع البشر خلال التاريخ، فإننا سنرى أن الإكراه كان هو الوقود الذي يحرك التاريخ الماضي، فلهذا استمر الفساد وسفك الدماء حتى عند المسلمين.
ولكن ليس من الإنصاف أن نحمّل المسلمين الأوائل إدراك ما وصل إليه البشر خلال التاريخ من ترشيد في أساليب اتخاذ القرارات الحاسمة في حياة المجتمع وتحقيق علم الله في البشر من أنهم سيخرجون من الفساد في الأرض وسفك الدماء، لأن الأسبقيات التاريخية لم تكن تقدم نماذج يمكن الاستفادة منها. فكيف نؤاخذ الماضين في ضياع الرشد والشورى في تلك الأيام الغابرة ونحن إلى الآن لا نتمكن من فهم وتحصيل ما وصل إليه الناس في العصر الحاضر الذي نعيش فيه، وربما لا قدرة لنا على فهم ما عاناه الناس من العذابات الأليمة، لأن العذابات الأليمة هي التي توقظ الناس وتضطرهم إلى تغيير ما بأنفسهم من الأفكار المسيطرة المتحكمة فيهم فتمنعهم من التحول بيسر وسهولة. فهذا يحتاج إلى التخلي عن مسلمات طال عليها الأمد، نشأ فيها الصغار، وهرم عليها الكبار، وتوارثتها الأجيال، وألبسوها الحلل المثالية، وحقروا ما وصل إليه الناس من أساليب لحل المشكلات التي فيها صلاح العباد والبلاد، وتجنب الفساد في تضييع الأموال وحقن الدماء التي تهدر سدى ولا يعقبها إلا الحسرات والأحقاد. فنحن نتحدث عن الشورى واتخاذ القرارات الهامة للأمة جميعا وعن المواضيع التي هي رأس قائمة الأمور التي ينبغي فيها استنفاد الجهد في العلم والخبرة، ويجب أن تكون أساليب تحديد أهل الشورى مبنية على الكفاءات العلمية والعملية.
في المواجهة مع المشركين في أحد، الذين جاؤوا ليثأروا من خسائرهم في بدر، قال رسول الله لأصحابه: "فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها-وكان هذا رأي بعض الناس – وكان رسول الله يكره الخروج لكن رجالا من المسلمين ممن كان فاته مشهد بدر قالوا يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أننا جبنا عنهم وضعفنا وقال آخرون أقم بالمدينة ولكن لم يزل الناس برسول الله (ص) الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم فخرج رسول الله استجابة لرغبة الناس الذين يريدون الخروج.
إن القرار يرجع إلى المجاهدين فهم الذين سيقاتلون ومن مبادئ القرآن أن لا يخرج للقتال من لا يؤمن بالقتال فإن خروجهم فيه ضرر وليس فيه نفع ويقول الله عنهم، "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، "حتى أن ثلث الجيش رجع ومع ذلك قبل رسول الله طلب أغلبية الناس بالخروج وخطط للمعركة من جديد وكان فيه النجاح أيضا لولا حدث ما حدث من عدم التزام بالأمر.
والبشرية حين تلمست الديمقراطية والإقناع والخروج من الإكراه باسم الحرية وحقوق الإنسان استطاعت أن تفعل هذا بشكل محدود، ولم تظهر إلا في بقع قليلة من العالم وبمعانات شديدة. ولكن لا تراجع عنها، ويجب ترسيخها وتوسيعها. ورصيد الديمقراطية العلم والمعرفة ووعي الناس. والناس بدؤوا يشعرون أنهم يدخلون عصر المعلومات وسيعم هذا وسنكشف ذلك في واقع حياة الناس وفيما تركه لنا الأنبياء، وفي موقف ابن أدم الأول الذي رفض الدخول إلى العنف وقال لأخيه: "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك". هذا يعني أن ابن آدم الأول خرج من شريعة الغاب بدءا وختاما، لأنه شعر بأنه خلق آخر، يلتزم الصواب ويسخّر العالم. علينا أن نكتشف القرآن وسيرة الأنبياء من جديد مع آيات الآفاق والأنفس، وما كان من أمر الشورى في حياة الرسول (ص).
والأمر العجيب الذي حدث في الخندق أن الأحزاب جاءت من أنحاء الجزيرة العربية وحاصروا المدينة وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون، ويصف القرآن الشدة الشديدة التي وقع فيها أهل المدينة وهنا ورد في السيرة: أنه لما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله إلى عيينة والحارث قائدي غطفان على أن يعطيهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة والتوقيع على عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك ولم يوقع على الاتفاق ولم يرد الرسول أن يفعل ذلك إلا بمشورة الناس على ما يفكر فيه الرسول (ص) فلما أراد الرسول (ص) أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما واستشارهما فيه فقالا له: يا رسول الله أأمرا تحبه فنصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال بل شيئا أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم واشتدوا عليكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يارسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله (ص) فأنتم وذلك، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فـمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا.
هذه هي الشورى ابتداء من الرسول، وهذا معنى "وشاورهم في الأمر"، "وأمرهم شورى بينهم". ولهذا كان يشاورهم وهم يشيرون عليه ابتداء من غير طلب منه كما فعل الحباب في بدر، وكما فعل سلمان الفارسي في الخندق. ونحن علينا أن نكشف ديننا في الكتاب وفي سنة الرسول والأنبياء جميعا وفي آيات الآفاق والأنفس التي تشهد لآيات الكتاب بأنه الحق. "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".