السبب والنتيجة

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
مقالات ذات صلة
......................
انقر هنا لتحميل المقالات (Doc)

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

تعلمت من مالك بن نبي طريقة بحثه لمشكلات الحضارة في العلاقة بين السبب والنتيجة، فلا تختلط علينا منتجات الحضارة بعوامل الحضارة، وإن اختلاط السبب بالنتيجة يضع العربة أمام الحصان. فلا نظن أننا إن اشترينا منتجات الحضارة نكون اقتنينا الحضارة!

كان يكثر الحديث حول هذه المواضيع ويتحدث عن التكريس والبناء، وكان من جملة ما يتحدث به عن مشكلات الحضارة: إن كل حدث نتيجة لما قبله ويكون سببا لما بعده. كان يقول يمكن أن نشتري سلة المهملات ولكن السلة تبقى فارغة والمهملات مبعثرة.

كان توينبي يتحدث عن هذا الموضوع مفرقا بين منتجات الحضارة وبين القيم الحضارية، وأن أشياء من منتجات الحضارة تسبق الحضارة في الإنتقال الى أبعد من مكان الحضارة، فكما منتجات الحضارة في هذا العصر يمكن أن تعم العالم ولكن هذا ليس معناه هذا أن الحضارة عمت العالم. وكان يقول أن بعض منتجات الحضارة متنقلة وبعضها تولد عند كل المجتمعات. مثلا القوس: هل ولدت في مكان واحد وانتقلت بعد ذلك إلى بقية أنحاء العالم؟ أم المجتمعات كل واحدة منها ابتكرت هذا المنتج الحضاري منفصلا عن بقية المجتمعات؟ كل مجتمع ابتكر المحراث. وفي هذا الموضوع إنني أجد الآية المفتاحية في القرآن "سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة". والبشرية وفق هذه الآية لما ساروا في الارض ونظروا بدأ يتبين لهم كيف بدء الخلق من الذرة إلى المجرة ومن أولى الكائنات الحية إلى الإنسان، وأن هذا الخلق جاء متسلسلا حيث كانت الحياة كلها تحت الماء.

كان الكون يبدأ بالسحب الهيدروجينية ومنها تتكون كل العناصر الفيزيائية ومن الارتباطات الكيميائية بين العناصر تولد المنتجات الكيميائية، ومن الأوكسجين والهيدروجين يتولد الماء وعند هذا الارتباط تتولد وظائف جديدة للماء. هذه الوظائف الجديدة ليست مادة ولكن تنبثق عنها. فكل أنواع الحياة من الماء (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون). ارتباط الهيدروجين بالأوكسجين ينتج الماء، والماء سبب لنشأة الحياة وتنوعها وتطورها، وفي النهاية تولّد من الحياة الجهاز العصبي للإنسان الذي صار له وظيفة فهم ارتباط الأسباب بالنتائج. فرأى كيف تشعل النار أو تولد وتنشأ من مواد الطبيعة.

عند الإنسان الذي هو قمة تطور الخلق أو تكون الخلق وارتباط وظائف الماء بالمادة ارتبطت وظيفة الجهاز العصبي بظهور وظيفة الفكر ورؤية الأسباب والنتائج، وصار التدخل فيها لتسخير الأسباب في التحكم بالنتائج أمرا يسيراً. عند فقد الإنسان لتسلسل الأسباب والنتائج وتطورها يفقد القدرة على تحديد السبب الذي يحدث النتيجة، وهنا تبرز الخيالات لملئ الفراغ.

والإنسان كما يمكن أن يلاحظ مغرم بالبحث عن الأسباب للأحداث، فهو دائم البحث عن الأسباب وبفرض قانون وسبب لكل الأحداث، ولكن أحيانا لا يظهر بشكل جلي ارتباط الأسباب بالنتائج فتأتي الفرضيات لملئ هذا الفراغ، وهكذا يفترض الإنسان أسبابا غير واقعية وهي بدورها تخفي الأسباب الواقعية فيضل الإنسان ويقع في الحيرة. وبما أن ارتباط الأسباب بالنتائج ليس عقلياً، أي أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يكشف السبب الحقيقي لأن العقل بعدي وليس قبلي، بمعنى أن العقل يفهم ارتباط السبب بالنتيجة بعد المشاهدة فيعلم أن النار تحرق بعد الحرق. فهذا معنى البعدي. ولكن الإنسان بممارساته ومشاهداته يؤمن بالأسباب وأن لكل شيء سبب بمعنى أن الإنسان بالمشاهدة عرف ارتباط النتائج بالأسباب. لكن تحديد السبب وإزالة الأسباب الحقيقية عن الأسباب الوهمية يحتاج إلى دقة ملاحظة وتعمق أكثر. الإنسان يسلم بالأسباب ويفهم أن لكل شيء سبب في المتغيرات التي تحدث ويبحث ويكد في البحث لإزالة وإبعاد الأسباب الخادعة ليقرر ويحدد بدقة الأسباب الحقيقية.

فمثلاً وظيفة الماء تتولد من الأوكسجين والهيدروجين وليس من غيرهما وهذا القانون ثابت لا تبديل له ولا تحويل، فلم يكن أو يخلق وظيفة للماء بدون هاتين المادتين. هنا عقل الإنسان يقف ويقول لا أعلم لماذا ولكن هو الواقع الذي أراه، حتى أرى في الواقع ما يفرض علي تغيير فهمي بظهور شيء غير الذي أعرفه.

هنا ينبغي أن نعلم المجال الذي تعمل فيه إرادة نظام الكون، هذا النظام الثابت الذي لا يتغير ولايتبدل وأن مبدعه كلي القدرة قادر على أن يجعل الماء ينتج من تركيب آخر لأن العقل بدون ثبات النواميس يفقد فعاليته.

عند عدم فهم القوانين يحدث شيء من الاختلاط الذي يجعل الإنسان يفقد ميزة عقله أي ربطه الأسباب بالنتائج، وإذا حدث أن لاحظ الإنسان شيئا جديدا لا يكون تغير السنن الثابتة ولكن نكون اكتشفنا سنة جديدة ثابتة في هذا الكون الذي نكشف فيه أشياء لم تكن معلومة لدينا. هنا يمكن أن نقول إن ظهور وظيفة الماء والملح من تراكب المواد سنة وقانون ثابت لا يتغير ولا يتبدل ولكن ظهور وظيفة الماء في المادتين وظهور وظيفة الجهاز العصبي من التراكيب المادية المعروفة خارق من الخالق وليس من صنع البشر ولا من وضعهم، ولكن لهم قدرة على تسخيرها. هذا الخارق هو خارق من حيث العقل لا نعلم لم ينتج هذا عن هذا ولكن الارتباط بين الحدث وأسبابه ثابت. ونحن في العالم الإسلامي ايماننا بكلية القدرة الإلهية تجعلنا ننسب إلى الله الخوارق أي تبديل السنن وتحويلها. هذا غير وارد لا في واقع الكون ولا في منطق العقل الذين كلاهما من نظام الكون الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، وبهذا القانون وبهذا التفصيل صار الإنسان قادرا على تسخير كل هذا الكون لأنه كله سنن والإنسان قادر على أن يسخر السنن. القدرة التسخيرية كامنة في الإنسان مثل القدرة الكتابية قابلة لإبرازها وتنميتها وقابلة لإهمالها وتدسيتها، فمشكلاتنا الاجتماعية من هذا النوع المركب الثابت الذي إذا كشفنا قوانينه سخرناها وشكرنا الذي أبدع الكون والإنسان، وعلى قدر التسخير والعلم يكون الشكر والطمأنينة وزوال الحيرة والتردد، ويكون التسخير ككشف السبب وكشف الغمة والحيرة وهذا الذي نعكف عليه أي ارتباط الأسباب بالنتائج والمشكلة عندنا أن نحول القدرة الكامنة إلى قدرات علمية متراكمة حتى نعلم أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .