الدين والقانون، قصة آدم وزوجه

من Jawdat Said

مراجعة ١٠:٤٣، ١٨ أغسطس ٢٠٠٩ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

الدين والقانون


Aldeenwalkanon.gif
تحميل الكتاب
المقدمة
أسس الدين والقانون من رؤية قرآنية
الإنسان في الدين والقرآن
وحدة النبوات
الرسل الذين لم يقصصهم الله علينا
العلماء ورثة الأنبياء
ختم النبوة
الخروج من الخوارق إلى السننية
ارتباط آيات الآفاق والأنفس بآيات الكتاب
كلمة السواء
لا إكراه في الدين
قانون النسخ
السلطة للجهاز العصبي
قصة آدم وزوجه
قصة ابني آدم
ما الدين وما القانون؟
السلام العالمي
شروط القتال في الإسلام
عصر الفتن


بعد هذا التمهيد الطويل والقصير معاً يمكن أن نرجع إلى دعوة الأنبياء ، إنهم هم الذين فهموا وحدهم التطور الذي حد حين دخل الإنسان إلى عالم الفهم ، عالم المعرفة ، عالم إنسان سفر التكوين :

« قال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخيرَ والشرَ » تكوين ( 3 : 23 ) .

هل لي أن أذكر مرة أخرى أننا الأنبياء جاؤوا ليتنافس الناس في فعل الخير فحولناه إلى تنافس في فعل الشر ، فكيف سنعود إلى عهد الأنبياء ؟ العهد الذي عقدوه مع الله في أن يدخلوا إلى عالم الحب والرحمة ، إلى عالم المعرفة ، إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم ، إلى القلب السليم ، القلب الممتلئ معرفة ورحمة وحباً . قلت في الأسطر الأولى من مقالتي : إنني أريد أن أعرض فكرة القرآن عن علاقة الإنسان بالوجود ، يذكر القرآن هذا الموضوع في مشهد حواري مثير للخيال والمعرفة التاريخية في آن واحد .

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ) ] البقرة : 2/30-31 [ .

يتحدث عن الإنسان حين كان مشروعاً لم يتحقق بعد . وكلمة خليفة : أي مخلوق يسند إليه مهمات لكي يحققها ، واعتراض الملائكة على هذا المخلوق بأنه غير مستأهل أن يحمل هذه المهمة ، حيث إنه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء ، ولكن جواب الله : إنه قال لهم إني أعلم في هذا المخلوق ما لا تعلمون من إمكانات يُمكنه أن يحققها ، وكأنه يقول : إن هذه الإمكانية منبثقة من أنني جعلته قادراً على التسمية ، أي على وضع الأسماء للمسميات ، بهذه القدرة استحق الإنسان ما لم تتمكن من علمه الكائنات الأخرى ، بل الإنسان نفسه لا يزال الباب أمامه ضيقاً والطريق مكرباً في أن يكشف علم الله المستقبلي ، فكأن البشر لا يزالون يعيشون على توقعات الملائكة من الإفساد في الأرض وسفك الدماء ، ولم يبدؤوا في تفهم ما علم الله في الإنسان ، وما أعطاه من قدرة على وضع الأسماء ، ( الجهاز العصبي المتصل بأجهزة الاستقبال كالسمع والبصر والمتصل بجهاز الإرسال أي أجهزة النطق ) .

( أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَاناً وَشَفَتَيْن . وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) ] البلد : 90/8-10 [ .

إن الذين اعترضوا على استخلاف الإنسان ذكروا سببين للاعتراض وهما : الفساد في الأرض وسفك الدماء . الفساد عدم المساواة ، والاستكبار والاستضعاف وينتج عن هذه العلاقة الفاسدة سفك الدماء . وسيتعلم الإنسان الخروج من الفساد في الأرض ، وسفك الدماء ، لقد عاش الإنسان الاسترقاق وتقديم القرابين البشرية ، وقطع مراحل جيدة في تقليل الفساد وسفك الدماء حين قلل من الفساد ، وأبطل نوعاً من الفساد بإلغاء الرق ، ونوعاً من سفك الدماء حين خرج من عصر تقديم القرابين البشرية ، وإن كانت أمامه أنواعٌ من الفساد وسفك الدماء عليه أن يتجاوزها أيضاً وبشكل مُلحٍ وعاجلٍ ، حيث لم يعد يؤدي أي دور إيجابي ، بل تحول إلى عبء وفضيحة في الاستخلاف في الأرض لإدارة الأعمال ؛ أن يعيش خمس العالم وهو يستهلك أكثر من أربعة أخماس إنتاج العالم وأن يعيش الخمس الأفقر على 1.4 من إنتاج العالم إدارة فاسدة ، وأن يموت الملايين في حروبٍ استكباريةٍ وقِبَليةٍ على مسمع ومرآى من هذا الإنسان الذي صار يعرف الخير والشر . يحدث هذا أمام عينيه ويمر بتغافل ، إن لم يساهم في مده واستمراره لأنه لا تزعجه الإدانة الأخلاقية لأنه لم يستطع بعد أن يفهم الأخلاق على أنها اقتصاد أيضاً . إنه لم يرتفع في مستوى فهمه حتى يرى الأرضية الاقتصادية للأخلاق والقيم كأن القيم خسارةٌ … لابد من إعادة النظر في معرفة الربح والخسارة على مستوى أبعد وأعمق قليلاً .

كما عرضنا المشهد المثير بين الله والملائكة في الحوار الذي جرى عن الإنسان ومهمته ، يمكن أن نعرض مشهداً حوارياً آخر بين الله والأنبياء ( آدم وزوجه ) والشيطان . فإن هذا المشهد الجديد يبين إمكانية أن يكون الإنسان موضع ثقة في أن يحمل العهد والأمانة ؛ أمانة الجهاز العصبي الذي امتاز به وصار عارفاً به الخير من الشر . « العهد ، الأمانة ، الميثاق ، الذمة ، المعرفة ، الوفاء » هذه الكلمات يستخدمها القرآن في إبراز الوضع الإنساني المتميز عن سائر المخلوقات فيقول :

( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ) ] الأحزاب : 33/72 [ .

إن السماوات والكائنات الأخرى لا قدرة لها على تمييز الخير من الشر ، بل ولا قدرة لها على المعصية ، إن الإنسان هو الذي صارت له القدرة على الطاعة والمعصية ، وصارت له قدرة على معرفة الخير والشر ، معرفة الضار والنافع ، هذه الأمانة حملها الإنسان ، إنه أسلوب في إبراز أهمية الوضع الإنساني . ولكن الحوار الذي يعرضه القرآن في مكان آخر فيه تفاصيل دقيقة عن إبراز الوضع الإنساني حين يتابع الحوار في مشهد استخلاف الإنسان في الأرض . حيث اعترف الملائكة بجهلهم لمّا تمكن آدم من استخدام الأسماء في نقل المعرفة والخبرة بالرموز . قال الله لآدم : يا آدم أنبئ الملائكة بأهمية استخدام الأسماء ، قال القرآن :

( قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ] البقرة : 2/33 [ .

ولما طلب من الملائكة استخدام الأسماء قالوا لا علم لنا ، قال الله للملائكة :

( أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ] البقرة : 2/31-32 [ .

ثم ينتقل المشهد إلى وضعٍ آخر :

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ ) ] البقرة : 2/34 [ .

ثم ينتقل إلى مشهد آخر :

( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ . فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا … ) ] البقرة : 2/35-36 [ .

وقال : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ . وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ . فَدََّلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ] الأعراف : 7/20-22 [ .

إلى هنا يُثْبِتُ المشهد أن آدم وزوجه وقعا فيما نهى الله عنه ، والشيطان أبى أن يسجد للأمم حين أمره الله . ولكنني أرى أن الذي يدعو للتأمل هو موقف كل من آدم وزوجه والشيطان . حين واجه الله آدم وزوجه والشيطان ، في الوقوع في المعصية وعدم تنفيذ الأمر ، كان جواب آدم وزوجه : والخطاب هنا موجه من البدء لآدم وزوجه من دون تمييز أو دونية أحدهما :

( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ . قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) ] الأعراف : 7/22-23 [ .

إن آدم وزوجه من غير أن يحاولا ( اللف والدوران ) اعترفا بكل الوضوح بالظلم الذي وقع منهما ، وطلبا المغفرة والرحمة وإلا فإن الخسارة ستقع عليهما ، ومع أن القرآن يذكر أن الشيطان قام بدور كبير في الإغراء ليأكلا من الشجرة وأنه سيمنحهما الخلد وملكاً لا يبلى ، وقاسمهما : إني لكما لمن الناصحين ، لم يذكر آدم وزوجه أن الشيطان أغراهما ، بل تحملا المسؤولية دون اتهام أحد ، بل ربما شعرا أن محاولة اتهام الشيطان بالإغراء والإغواء يدينهما مرتين ، بينما الاعتراف بالخطأ يمكن من تصحيح الخطأ ولا يُعَقَّدُ الحل ، ولعل آدم استحق الاستخلاف في الأرض لأنه قادر على الاعتراف بالخطأ وتصحيح الخطأ ، بينما الشيطان كان جوابه على معصيته :

( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ . قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ . قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ . قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) ش الأعراف : 7/11-16 [ .

كان موقف إبليس من معصيته أنه احتج بحجتين :

الأولى بأصله المادي ، أي بعرقه وأنه من جنس مختلف ومعدنٍ أرقى من معدن آدم .

والثانية بمذهبه في التفسير للوجود من أن سبب خطئه يرجع إلى الله الذي مكنه من الوقوع في الخطأ ، وربما يمكن أن نفهم من هذا أن مشكلة البشر ترجع إلى الافتخار بالعرق أي أصلهم المادي ، والمذهب أي نظريتهم في تفسير الوجود في النزاعات العرقية والدينية أو الحضارية . ثمة شيء آخر ، إن التفسير الخاطئ للموضوع لا يساعد على حل المشكلة ، لكن التفسير الصحيح يساعد على كشف سبب الخطأ ؛ لإزالته والاهتداء إلى الحل الصحيح ، فمن هذا الجانب ، إن تبرئة الذات واتهام الآخر ليس هو الطريق الصحيح لحل المشكلة ، وإنما يكون الحل من الذات وكشف الخطأ فيها ، فالقرآن يهتم بالظلم الذي يلحقه الإنسان بذاته لا الظلم الذي يلحقه من الآخر عندما يقول :

( َمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) ش النساء : 4/79 [ .

( وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ] النحل : 16/33 [ .

وإن أي حكم من الإنسان على الآخرين حكّم على نفسه إن خيراً أو شراً .

( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) ] فصلت : 41/46 [ .

والتاريخ يعلمنا أن الحضارات لا تموت شهداء ، وإنما منتحرة من المرض الذاتي ، وهكذا تتحلل الحضارات ، وهكذا تحلل الاتحاد السوفيتي ، وهكذا مآل كل التجمعات البشرية التي ترى نفسها أبناء الله وأحباءه . والقرآن يعرف المفهوم الذي يطلق عليه ( الأرثوذكسية ) بأنهم هم الذين يرون أنفسهم أبناء الله وأحباءه يقول القرآن :

( َقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) ] المائدة : 5/18 [ .

أنتم يسري عليكم قانون البشر الآخرين مثل سائر خلق الله ، ليس لكم ميزة ، الله ليس عنده أبناء فوق الشريعة والقانون .

( َقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ] البقرة : 2/113 [ .

تتضحُ تماماً الأحكام التي يصدرها الأقوام على الآخرين من أن الآخرين ليسوا على شيء ، إن هذا قانون وإن مثل هذا القول يقوله الذين لا يعلمون ينطبق على جميع الأمم .

( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ . بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ] البقرة : 2/11-112 [ .

الكل يمنون أنفسهم أن الجنة لهم فقط ، هذه أمنيات البشر ، قال الذين من قبلهم مثل هذه الأقوال ، ولكن قانون الله في التاريخ ليس على أساس الصور الذهنية ، فمن هنا جاء قانون الله الذي لا يفرق بين الناس .

( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً ) ] النساء : 4/123 [ .

هذه هي رسالة الأنبياء جميعاً وهذا ما جاء في الإنجيل عن يوحنا المعمدان :

« فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته ، قال لهم يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً لأني أقول لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار » متى ( 3 : 7-10 ) .

وفي الإنجيل :

« أقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشرق والمغرب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات ، أما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان » متى ( 8 : 11-12 ) .

وفي الإنجيل :

« لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي ، أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعلموا » يوحنا ( 8 : 44 ) .

التهمة الموجهة للأمم من قبل الملائكة من أن هذا الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء ، وقول الله إني أعلم ما لا تعلمون ، وقدرة الإنسان على وضع الأسماء التي بواسطتها سيحقق علم الله في التخلص من الفساد وسفك الدماء ، هل يمكن أن نخرج من حكم الملائكة على الإنسان بأنه مفسدٌ في الأرض سافكٌ للدماء ؟ وهل يمكن أن ندخل إلى علم الله في الإنسان بأسلوب علمي تاريخي يمكن أن يقنع الإنسان ، ويفتح أمامه مستقبلاً أفضل ؟ أنا أزعم هذا ويمكن أن أفهم ما علم الله في الإنسان . إن منطلق البحث في الجهاز العصبي للأمم القابل لنقل الخبرة والمعرفة من إنسان إلى آخر بالأسماء ، إنه انتقال من الجهاز العضلي إلى الجهاز العصبي ، انتقال من ( أنا حق وصاحب سلطان لأني قوي بعضلاتي ) إلى ( أنا حق وأنا صاحب سلطان لأني أملك جهازاً عصبياً قابلاً للفهم ) .

« أنا الفهم لي القدرة » أمثال ( 8 : 14 ) .

أنا الفهم لي القدرة على تسخير القوة وتسخير العالم ، إن الذي يعتمد على الجهاز العضلي لم يتطور عنده الجهاز العصبي لا ، لا بل هو غائب عن الخبرة البشرية .

« وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفاً الخير والشر » تكوين ( 3 : 23 ) .

« أنا الفهم لي القدرة » أمثال ( 8 : 14 ) .

« أنا الحكمة أسكن الذكاء وأجد معرفة التدابير » أمثال ( 8-12 ) .

« تعرفون الحق والحق يحرركم » يوحنا ( 8-32 ) .

والتاريخ والواقع العملي يقول لنا : إن الإنسان لا يُخْرِج معه سلوكَه وفهمَه من بطن أمه كما هو عند بقية الكائنات الحية ، الإنسان يبدأ سلوكُه بعد أن يخرج من بطن أمه ، الإنسان لا يخرج من بطن أمه وهو يعرف لغة ما ، إنه لا يخرج أحد من الناس من بطن أمه وهو يعرف أي لغة ، فقط يخرج إلى العالم من جسد أمه وهو يحمل الاستعداد والقدرة على أن يتعلم لغة ، على أن يتعلم الأسماء .

ولهذا كان رد الله على الملائكة الذين قالوا عن الإنسان إنه مفسد في الأرض سافك للدماء ، كان جواب الله : إني أعلم ما لا تعلمون . إني أعطيته القدرة على وضع الأسماء أي نقل المعرفة بواسطة الرموز ، وبهذه القدرة صار خليفة في الأرض . قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، ومعنى خليفة يمكن أن يستند إليه إدارة الأعمال ، صار قادراً على تسيير أموره بقدراته الخاصة . إنه يمكن أن يعرف الخير من الشر ، ويمكن أن يعرف النافع من الضار ، سيحتفظ بالنافع وسيترك الضار ، إنني أشعر وأنا أبحث هذا الموضوع أنني أتعامل مع شيء مقدس مع شيء جديد في الوجود ، مع شيء متطور ، كأنني أتعامل مع الطفل المولود الجديد حامل القدرات ، الناعم الدافئ القابل للنمو الذي ينبغي أن أتعامل معه برفق ، وبنعومة ، وبحب . إن هذا المخلوق في حاجة إلى الأمومة ، لأي رحمة الأم وعطف الأم . كيف تستقبل الأم هذا الوليد بفخار وإعجاب وسعادة غامرة ؟ ينبغي أن نستقبل هذا الوليد في الوجود بكل الفيض من الإعجاب والتقديس والرحمة والأمانة ، وعلينا أن نقوم بالطقوس التي ينبغي أن تُعطي لهذا الإبداع المنبثق من الوجود ، أرقى شيء في الوجود . وما هي الأمانة التي ينبغي أن نكشفها ونحملها لصيانة هذه الإمكانية ؟ في القرآن يتحدث الله عن هذه النفس فيقول ، بعدما تحدث عن الشمس والقمر والليل والنهار والأرض والسماء ، يتحدث بعد ذلك عن هذه النفس ، قمة التطور في الوجود يقول :

( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ] الشمس : 91/7-10 [ .

إنها النفس ، المسواة قمة العالم والتطور ، عندها قابلية الاستخدام للصلاح والفساد ، ولكن البشر هم أيضاً الذين لهم القدرة على تزكيتها أو تدنيسها . يتحدث القرآن عن هذا الخلق العجيب فيقول : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) ] المؤمنون : 23/12-14 [ .

هذا أحسن الخلق وقمة الخلق ،هذا المسند إليه إدارة الأرض وتطوير المجتمع الإنساني . هذا الذي صار عارفاً بالخير والشر ، هذا الذي يتعلم من التاريخ ، من الأحداث ولا يكرر الخطأ ، ويقول القرآن عن الإنسان :

( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) ] التين : 95/4-6 [ .

الإنسان بجهازه العصبي الفريد ، هذا الجهاز مادة خام قابل أن يعبأ بالخير وبالشر وقادر على معرفة الخير من الشر بالعواقب ، فهو متمكن من التغيير ، وحتى الفاسد يقبل التغيير والإصلاح ، هناك قانون رائع في القرآن :

( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) ] الرعد : 13/11 [ .

إن تغيير الإنسان له الأولوية . هذا الجهاز العصبي الفريد القابل لتغيير محتواه بالأسماء وبتعليمه وبتعلمه كيف بدأ الخلق ؟ في القرآن توجيه عميق في تحديد مصدر المعرفة بعد أن صار للأمم الجهاز العصبي الفريد القابل للاستيعاب ، القرآن يدله على مصدر المعرفة فيقول :

( انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي اْلآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ ) ] يونس : 10/101 [ .

النظر في السموات والأرض مصدر المعرفة ويقول القرآن للناس :

( سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) ] العنكبوت : 29/20 [ .

إن السير في الأرض والنظر فيها يفهم الإنسان منه كيف بدأ الخلق ومعرفة كيف بدأ الخلق هو الذي يعطي للأمم سلطة التسخير وتمييز الخير من الشر والنافع من الضار ، هو الذي يجعله يدخل إلى عملية الخلق والإبداع الذي هو من صفات الله ، وهذا هو الاستخلاف في الأرض كما في القرآن :

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأرْضِ خَلِيفَةً ) ] البقرة : 2/30 [ .

وهذا معنى القول الوارد في سفر التكوين :

« وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفاً الخير والشر » تكوين (3 : 23 ) .

الإنسان بجهازه العصبي صار خلقاً آخر ، بهذا انتقل الإنسان إلى عالم غير عالم الحيوانات الأخرى ، من هنا صارت له شريعة من نوع آخر ، شريعةُ نقل المعرفة بالرموز ، انتقل الجهاز العضلي إلى الجهاز العصبي ، هذا هو التطور الذي حدث . وبهذا التطور صغر حجم عضلات الإنسان وكبر جهازهُ العصبي ، ولكن بهذا الجهاز اكتُسِبَت قوى عضلات الحيوان فسخر الحيوانات واستأنسها ، واستغل عضلاتها وعاش على عضلاته فقط دهوراً طويلةً ولكن بجهازه العصبي استطاع أن يسخر عضلات الحيوان التي هي أقوى من الإنسان واستمر الإنسان مع عضلات الحيوان عشرة آلاف عام ، ثم سخر النار والبخار وأمسك بالكهرباء ووصل إلى درجة أنه عرف سر طاقة الشمس والنجوم ، إن شأن الجهاز العصبي للأمم أعلى من كل طاقات النجوم والشموس ، يقول القرآن :

( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ] الجاثية : 45/13 [ .

إن الإنسان عاش طويلاً معتمداً على عضلاته ، وكانت فاعليته في عضلاته ، ولم يتمكن من اكتشاف قدرات جهازه العصبي إلا بمعاناة شديدة ومتطاولة ، لهذا الملائكة لما قالوا :

( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ] البقرة : 2/30 [ .

كان معهم العذر ، ولكن الله علم في الإنسان أنه سيستفيد من جهازه العصبي في تحصيل المعلومات ، ومن جهازه النطقي الإرسالي في نقل المعلومات ، وسيتخلص من الاعتماد على عضلاته في حفظ ذاته وبيئته ، وإمكانات جهازه العصبي غير قابلة للتوقف ، إن الله رد على الملائكة ، واعترفت الملائكة بقلة علمهم وسلموا العلم لله ، واعترفوا بقدرة آدم على العلم ، ولكن الله ينتقل فيقص علينا قصة أخرى في القرآن كما في سفر التكوين ، هي قصة ابنَيْ آدم . تأثرت بهذه القصة وبهذا الخبر وتملكني الإعجاب إلى حد الذهول فكتبت كتاباً حول هذه القصة منذ ثلث قرن وسميت الكتاب ( مذهب ابن آدم الأول أو مشكلة العنف ) .