الخروج من ظلمات التخريب إلى نور السواء

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

أجلس اليوم وأكتب هذه الكلمات والأفغان يدمرون تماثيل بوذا بالمدفعية والصواريخ والمتفجرات التي ابتكرها الغرب، الذي هو الشيطان بالنسبة للمسلمين وخاصة للمسيطرين على الأفغان من جماعة طالبان. يحملون الأسلحة التي صنعها الغرب ويدمر بها بعضهم بعضاً كما يدمرون بها تماثيل بوذا. لقد قرروا في عيد الأضحى هذا أن يضحوا بكلمة السواء، وبآية "لا إكراه في الدين".

نسمع بعض الاحتجاجات على تكسير تماثيل بوذا من قبل مراكز إسلامية وأنه ليس من الضروري كسر هذه التماثيل لأن المعنى الذي تحملها هذه التماثيل لم يعد خطراً، ولكن تكسير التماثيل له نظائر كثيرة في العالم الإسلامي، مثل حرص المسلمين على ضرورة التمسك بقتل المرتد. متى سيفهم المسلمون أن هذا مثل ذاك؟ إن الآلية الفكرية التي تحكم هذين المثلين واحدة. متى نصير نفهم هذا ومتى ستتسع حوصلتنا الفكرية لنكشف أن هذا مثل ذاك بل أشد؟ بل ولم يجف بعد دم محمود طه الذي أعدم في السودان حين حكموا بالإسلام.

كنت ذكرت في مناسبة سابقة من أن برونو أعدم حرقاً بالنار في إيطاليا يوم 17 فبراير عام 1600 وبعد بأربعمائة عام في 17 فبراير عام 2000 احتفلت إيطاليا كلها لهذه الذكرى الحزينة إعادة لشأن برونو كما احتفلت قبل أربعمائة عام إبتهاجاً بحرقه. إن الأنبياء خلال التاريخ قُتلوا وأُلقوا في النيران لأسباب تشبه الإشكالية التي تحدث الآن في الأفغان. إن لغة الحوار مختلفة والمنطلقات والمراجع مختلفة. فلا حوار الآن بين الأفغان ومعارضيهم حتى من المسلمين أو المراكز الإسلامية التي تدين مثل هذا العمل.

بعد أربعمائة سنة برأت الكنيسة المسيحية جاليلو من الهرطقة وأن هذا الذي وصل إليه المفكرون في علم الفلك ليس محرماً دينياً. إنه لمثل عجيب مهما كان مؤلماً، ولقد تطلب فهمه عناء كبيراً وزمناً طويلاً. يسهل علينا الآن أن ندين الكنيسة ونقول إن دينهم هكذا ولكن من الصعب أن يكشف المسلم ما يفعله هو الآن باسم الدين وما يرتكبه من أخطاء.

إن تطور المفاهيم هي التي تمكنني من أن أكتب مثل هذه المقالة التي أحاول فيها تحليل المشكلة. إن أسلوب التلقي ومراجع التلقي والمفاهيم التي ينطلق منها الناس في فهمهم للنبوة والكتاب المنزل وآيات الآفاق والأنفس هي التي تجعلهم يتصرفون بشكل أو آخر. إن فهمنا للتاريخ وما يحدث فيه من تغيرات هو الذي يصيغ أفعالنا.

وأنا حين أقول وأكرر القول من أن مرجع القرآن هو التاريخ يتعجب الناس مني ويقولون لي التاريخ كله أكاذيب وما يكتب عن التاريخ أكاذيب. فأقول لهم بشيء من الأسف والأسى أن التاريخ ليس ما يكتبه الناس عن أنفسهم ولا ما يكتبه أعدائهم عنهم، بل هو المآل الذي يؤول إليه مصير الناس. وحين أقول إن تاريخ الاتحاد السوفيتي ليس هو ما كتبه الروس عن أنفسهم ولا ما كتبه أعدائهم عنهم، وإنما التاريخ هو مصير الاتحاد السوفيتي، وكيف لم يأت إليهم عدو وسقطوا من الداخل، أتى الله بنيانهم من القواعد. ولكن حين أتحدث عن الاتحاد السوفيتي علي أن لا أنسى أن أتحدث عن العالم الإسلامي. هذا العالم الضخم بشرياً وجغرافياً، والعالم القزم علمياً.

إن العالم يتغير ببطء بحيث لا يمكننا أن نكشف ماذا حدث وماذا يحدث ولا أن نرى العالم الإسلامي يستيقظ ببطء شديد وتحت وطأة الآلام والخسائر والسلوكيات الغبية والعجز عن التراجع. عشت زمناً طويلاً وأنا أطلب الرشد في أماكن مختلفة إلى أن أدركت بعد طول عناء من أن "لا إكراه في الدين" هو الرشد الذي ضيعناه من زمن بعيد. "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها". ضيعناه ولم يدخل إلى النور والوعي كسنة وقانون ينتج عنه مؤسسة تحميه وتعيد إنتاجه.

وهذا الشيء نفسه حدث في فهم الطاغوت. ولكن ستعم فكرة "لا إكراه في الدين". فلقد أتى الله بنيان الإكراه من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم، وسيعم هذا الأرض وسيظهر على الدين كله، لأن الإكراه لا يصنع إلا الباطل، ومن لم يصدق فلينظر إلى الماضي وليتأمل الحاضر ولينتظر المستقبل. فمن هنا كان الإعلان القرآني "لا إكراه في الدين" تصورا جديدا للدين ولله وللإنسان، لأن الإكراه في الدين مسخ للدين ولله وللإنسان وهو الفساد الأكبر الذي يحبط كل الأعمال وهو الذنب الذي لا يغتفر. إن علم الله في الإنسان هو الذي سينتصر على الفساد في الأرض وسفك الدماء آت لا محال، وقد جاءت أشراطها، وسيعلمه الذين يتدبرون القرآن وستزول الأقفال وستسقط الأصار والأغلال التي ترسخت وتحكمت.

إن الأفغان يكسرون التماثيل ولا يقبلون تدخلات الناس في هذا العمل. ولكن كيف ومتى سنكشف سنن الله وسنن المجتمعات وكيف يكون جهل الناس نقمة عليهم وكيف يختلط الدنس بالمقدس؟ إن الأفغان يقولون أن الغرب يهتم بالتماثيل أكثر من اهتمامه بالبشر، ولكن الأفغان يتناسون أنه ليس هناك عداوات تاريخية بين الحضارة البوذية والحضارة الإسلامية، وهم الآن بجهلهم يخلقون نزاعات جديدة. أقول وأكرر وأعيد أن العالم جميعاً لم يبلغوا الرشد وأنهم على شريعة الغاب من أدنى المجتمعات التي تسمى دولة إلى قمة الأمم المتحدة.

وعلى مذهب أمريكا التي تحول دون نمو العالم باسم حق الفيتو الروماني: أنا قوي، أنا ربكم الأعلى. متى نصير نفهم الإيمان والتوحيد بأنه هو كلمة السواء و"أن لايتخذ بعضنا بعضا أربابا".

عندما نفهم هذا سنعرف أن تقدير رموز الأديان الأخرى هو تقدير لرموزنا أيضا، وإلا فإن الذي تتاح له الفرصة سيضع نفسه ربا على الآخرين ويدمرهم. ولكن بمعاناة شديدة ولدت عند بعض البشر محلياً، نعم محلياً فقط، ضرورة الاعتراف بالآخرين وبالمساواة. وهذا تقدم كبير وكبير جداً، وبفضل هذا التطور المحلي بالقبول بالمساواة تتحد أوربا الآن. حين نفهم هذا ونفهم أن الكون كله مسخر للإنسان ونفهم أن القرآن هو القول الفصل وليس بالهزل عند ذلك سيظهر الله دينه على الدين كله ويتم نوره.

علينا أن نتوجه إلى وعي الشعوب، لأن الإنسان لا قدرة له على التفكير ضد ما يؤمن به. ونحن آمنا بالعنف والإكراه واستخففنا بالعقل السنني. آمنا بالخوارق التي هي ضد المنطق وسنة التاريخ. وإيماننا بأن الإكراه بالقوة له الدور الأول في التغيير ينتج عنه فقدان الثقة بالعقل، وينتج عن هذا أن لا يثق أحد بأحد، وإلا لماذا نكرر أخطاءنا يوما بعد يوم. نقتل بعضنا ونغزو دول بعضنا البعض ونكسر رموز الأديان الأخرى ونعمل أنفسنا طواغيت على النساء. إن رفضنا لكلمة السواء وإيماننا بالإكراه دوخ عقولنا وزلزل كياننا من أعماقه. علينا أن نتمكن من التحليل وتغيير الأولويات وأن نعتبر بسنن التاريخ. إننا لا نعيش هذا العصر الذي أظهر الله فيه الآيات البينات. إننا نتصرف وكأننا لا نقرأ القرآن.

إن بعض البوذيين أظهر مواقف إنسانية تجاه جهل وعنجهية الطالبان عندما بدءوا بتحطيم التماثيل، فمثلا، هافان بولا شانتي، أحد رجال الدين العاملين في مركز بوذي في مدينة لوس أنجلس، قال لصحيفة أمريكية: "نحن حزينون ولسنا غاضبين"، وقال: "إن البوذية تعلمنا اللاعنف وأن كل شيء فان، فلماذا سنقلق على هذه التماثيل". متى ستحمل النسمات رائحة التسامح وكلمة السواء إلى العالم الإسلامي. يرونه بعيداً ونراه قريباً.