الخروج من الأوهام
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
منذ أكثر من شهر وأنا أعيد قراءة كتاب (العقلانية العلمية) لبيير بورديو الذي يحاول أن يؤسس أعمال الإنسان على العقلانية، وفي كل مرة يُرجِع بورديو المشكلات إلى تصورنا للعالم والأوهام والفرضيات الخاطئة التي ننطلق منها. ولكن القارئ لن يخرج من الكتاب بطائل لأن مؤلفه يوحي بالعدمية. وربما أنا أيضا لا أتمكن من إقناع قرائي بأفكاري ويرون أنني أحرث في العدمية حين أركز على إيماني بعقل الإنسان لا بعضلاته.
لقد آمنت بمذهب ابن آدم الذي لم يبسط يده لقتل أخيه، وكانت ثقته في الروح التي نفخ الله فيها من المعرفة. وثقة ابن آدم في التسخير هي التي جعلته يقف هذا الموقف المتحدي أمام أخيه. لقد آمن ابن آدم الأول بالحق وكفر بالباطل ولم يشرك بربه أحداً. كان هذا الموقف نتيجة تصوره للعالم. أريد أن أؤسس الفكرة على بديهيات أولية، ثم يكون التقدم وترسيخ المراحل حتى لا نقطع ما أمر الله به أن يوصل. إن الانقطاع في مرحلة ما ودخول الأمور الوهمية أودخول الشرك مهما كان خفياً أوقليلاً يحبط الأعمال والمساعي. ينبغي أن يكون البناء على التقوى وينبغي أن يبنى التقوى على أساس متين، لا على شفا جرف كمثل القرآن ولا على الرمل كمثل الإنجيل، لأن الذي يبني على الرمل يسقط بناءه حين تأتي الرياح والسيول ويكون سقوطه عظيما. "أم من تأسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم".
الإنسان هو الأساس، وسأظل أقول إن قانون الإنسان الإحسان لا الإساءة. "لا تستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم". ينبغي أن نكشف قانون الإنسان ونتقدم به خطوة خطوة بحيث لا نميل عن الهدف ولا نتوقف إلا لنتأكد من صلابة الانتقال من أساس إلى أساس. فكما يعطي الإنسان بالإقناع والإحسان فهو أيضا لا يعطي على الإكراه والإساءة إلا أقل ما يمكن، ويظل مستعداً للإنتقام في أول لحظة يتمكن فيها، لأن الإكراه كالبناء على الرمل وعلى الهاوية، كالذي ليس له قرار. إن أي خطأ في نقطة الإنطلاق ينتج الفساد، وأي بناء على الخراب سينتهي إلى الخراب. ولابد أن نتذكر هذا ونلتزم في تذكره لأن خراب القلوب في نسيانه.
كثيراً ما أشعر أننا نفقد المنطق ونتقاتل ونستقتل في غير مكانه ولانسلك الصراط المستقيم. إن عدم فهم قانون الإنسان وأفضل الطرق لاستثماره يؤدي إلى سلك الطرق الطويلة الملتوية المليئة بالفساد وسفك الدماء، ويملأ القلب بالغل والكراهية الناشئين عن الوهم والجهل والخطأ وظن السوء والمكر والخداع "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله"، "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم". وكون الأوهام والأخطاء منتشرة لا تعني أنها طرق مستقيمة قصيرة. إن الذين يحتقرون الإنسان ويستخفون به يخادعون القانون الإلهي في الكون، ويخادعون أنفسهم. إن ظنهم أن الإساءة إلى الإنسان هي الحل يمثل مرحلة فكرية خاطئة عن الإنسان عند الإنسان الذي يجهل قانون الوجود ويجهل نفسه، ويجهل أن الكون كله مسخر له على أساس القوانين الثابتة، "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". الكون كله مسخر للإنسان الذي يكشف القانون. ولقد قلت في مقال سابق من أن عقل الإنسان رفع قدرة عضلاته، بل كشف الإنسان وسائل لرفع قدرة عقله حين جعل المعرفة ميسرة في عصر المعلومات. ومع ذلك لا نزال نعيش الأوهام لأن المنطلق هو الإكراه ولم يحل السلام في القلب بعد ويرونه بعيداً. من هنا ألح على ضرورة أن يكون منطلقنا الفكري مبنيا على الإيمان بنظام الوجود، لأن حياة الإنسان كلها تستوي أو تلتوي حسب تصوره لنظام العالم.
إن البشرية في مرحلة الطفولة، عاجزة لا تقدر أن تخدم نفسها، وعمر وعيها قصير جداً. لم ينته خلق العالم بعد، وإنما لا يزال يخلق، والآن يتسارع ويتسارع. إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً. إن ما جاء به الأنبياء نزل من السماء وصار في الأرض إلا أنه لم ينزل على القلوب بعد. وليس معنى هذا أن ذلك ليس ممكنا بل هو قريب من الإمكان أكثر من أي عصر مضى، ونحن نتقدم إليه بخطىً أسرع. وأنا أرى هذا التقدم يوميا. كنت أقول عن حق الفيتو أنه الشرك الأكبر في العالم لأنه ضد التوحيد وضد المساواة وضد كلمة السواء وضد رسالة الأنبياء جميعاً. وأنا كنت أقول عن حق الفيتو إنه ينبغي أن ينتهي من العالم حتى يتساوى الناس، وكنت أقول إن الخمسة الكبار الذين لهم حق الفيتو في العالم يتساقطون، سقطت بريطانيا أولاً ثم الاتحاد السوفيتي أخيراً، ولم يبق في الميدان إلا القطب الواحد وكانت الصين تمتنع عن التصويت والآن بدأ القطب الواحد أيضا بالامتناع عن التصويت واستخدام حق الفيتو. هذا تقدم ونمو مهما كان بطيئاً، ويمكن تجاهله، ولكن أن يصل إلى قمة العالم فهذه ظاهرة جديدة. إن معنى القانون أن يطبق على كل مخلوقات الله من البشر وأن لا يبقى آلهة بشر.
لم تصل رسالة الأنبياء إلى القلوب ولم يؤمن بها الناس. ولا نزال نستهزئ بما جاء به الأنبياء، "يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون". إن التاريخ لم يبدأ من عندنا ولن ينتهي بنا، نحن الذين نعيش الآن على الأرض. فإذا كنا لانتحمس للشيئ الذي لن ندركه في حياتنا الدنيا القصيرة فإن هذا نقص في فهمنا للعالم. لم يخلق العالم في لحظة واحدة مكتملاً. هو كالجنين يلتحم في لحظة واحدة، ولكنه يمتد في مرحلة رحمية وطفولة طويلة.
إلى الآن لم نتفهم اليابان، ولا تهدم الإتحاد السوفيتي، ولا تقدم أوربا إلى الاتحاد، ولا السبب الحقيقي في عدم قدرة العرب على لقاء عربي بعد حرب الخليج الثانية إلا بعد عقد كامل. كل هذه تدل على بطء حركة المعلومات في عالمنا العربي. ومع ذلك فقد نضجت أفكار أجنة حمل في هذا العقد الطويل وستولد. إن امتناع أمريكا عن استخدام حق الفيتو واعتراف اللقاء العربي بوجود رغبات للشعوب أشياء جديدة تدل على التغير البطيء. ينبغي أن تزول ألوهية البشر، ولن تزول الألوهية من قمة العالم مالم تخرج من قلوبنا نحن أولاً.
عندها ستصل إلى القمة أيضا فيصير معنى للقانون ويطبق على الجميع. ينبغي أن يكون هناك قانون وسلطة تشريعية وسلطة قضائية في العالم، وهذه معطلة في العالم ومحكمة العدل الدولية غائبة لا يترافع إليها أحد، وميؤس منها، تماما كما يقبل الناس الظلم و لا يذهبون إلى المحاكم لأن السلطة التنفيذية هي الأعلى، حيث القوة في اليد القوية وليست في العقول الراشدة.
لم يولد الرشد بعد، لأنه ينبغي أن يولد ليس بشكل متردد خجول وإنما بإيمان راسخ لا مبالي مثل بلال الذي كان يقول أحد أحد ومثل سحرة موسى الذين قالوا "آمنا برب موسى وهارون وأقضي ما أنت قاض". تبدأ الأمور بما بالأنفس، وبتصورنا للعالم، وهذا التصور هو الذي يحكمنا، فإذا غيرنا ما بأنفسنا يتغير ما حولنا فوراً طبقاً لسنة الله، "ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا"، و"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغييروا ما بأنفسهم".
ولكشف هذه القوانين "فليتنافس المتنافسون" "ولمثل هذا فليعمل العاملون".