الجهاد و(لا إكراه في الدين)
من Jawdat Said
إن وقائع الدهور هي التي ستشهد للأبعاد التي تأخذها آية (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وعالمنا اليوم قدم لنا في هذا الموضوع ما لم يعلمه الناس، وما لم يفطنوا به.
إن حماية (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) على مستوى العالم كله هي مهمة الأنبياء، وهي وظيفة الجهاد في سبيل الله، سواء بالفكر أو باليد، وإذا ارتفع الإكراه (فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) النساء: 4/90.
هل نستطيع أن نكشف البون الشاسع والاختلاف الكلي بين عالم الإكراه وعالم اللاإكراه؟
إن عالم اللاإكراه ليس له نقيض إلا عالم الإكراه، والذين لا يمارسون الإكراه هم الذين حموا أنفسهم وأموالهم، واستحقوا العدل والإحسان.
هل نستطيع أن نفهم ارتباط لاإكراه في الدين بآية الرشد، وارتباط آية الرشد بآية: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) الممتحنة: 60/8-9؟
فلنسمِّ آية اللاإكراه، آية الرشد، ولننظر من خلال آية (لا يَنْهَاكُمْ) إلى آية الرشد! إن آية (لا يَنْهَاكُمْ) موجهة إلى مجتمع الغي، كما هي موجهة إلى مجتمع الرشد، ومجتمع الرشد هو المجتمع الذي يحتوي كل الآراء والمذاهب والرؤى، المختلفة في تفسيرها للوجود، ماعدا الذين يقتلون الناس ويخرجونهم من ديارهم من أجل أديانهم، ولابد هنا من فهم الدين بالطريقة التي فهمنا بها مصطلح الإيمان، وأنه قد يكون إيماناً بالصواب، وقد يكون إيماناً بالخطأ أو بالباطل، ولذلك قال الله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) النساء: 4/51. فالدين أيضاً يمكن أن يكون دين الله، ويمكن أن يكون دين فرعون أو المشركين أو الكافرين: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ: … إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) غافر: 40/26، (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ.. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الكافرون: 109/1-6.
إذن، آية: ((لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)، هذه الآية لم تحدد نوع دينه، ولكنها حددت السلوك الذي يتصف به، وهو الامتناع عن القتل والتهجير، ولابد من تفهم كلمتي: المقاتلة في الدين، والإخراج من الديار. فكل من يمارس القتل لأجل الأديان والآراء والمذاهب التي في الرؤوس، والتي لم تتحول إلى ممارسة للقتل والإخراج من أجل الدين، أياً كان هذا الدين، كل من يمارس هذين السلوكين يقاطع ولا يوالي، ومن لم يمارسها فإنه يستحق البر والقسط.
بهذه المفاهيم جاء الأنبياء: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ، قَالَ: يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) النمل: 27/45-46، ولكن من هما الفريقان؟ وما صفاتهما وكيف نتعرف عليهما ونميزهما؟
الفريق الأول: هو الرسل الذين يدعون إلى عبادة الله وحده، والفريق الثاني: هو أولئك الذين يرفضون دعوة الرسل، ونستطيع أن نقول: إنهما فريقان: فريق الموحدين، وفريق المشركين، فريق المؤمنين وفريق الكافرين، فريق الراشدين وفريق الغاوين، فريق اللاإكراه وفريق الإكراه، فريق الذين لا ينهانا الله عن برهم وفريق الذين بنهانا عن توليهم، كما حددتها آيتا: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ) و(إِنَّما يَنْهَاكُمْ).
ينبغي أن نذكر أيضاً آيتي النساء اللتين تبيناه: الذين لم يجعل الله لنا عليهم سبيلاً، والذين لنا عليهم سلطاناً مبيناً: (فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) النساء: 4/90، (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً) النساء: 4/91.
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) البقرة: 2/255، الفريقان هما فريق الرشد وفريق الغي، فريق الذين يقاتلون في الدين ويخرجون من الديار، وفريق الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم.