التباس الحق بالباطل

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
مقالات ذات صلة
......................
انقر هنا لتحميل المقالات (Doc)

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

هناك قصة شائعة بين الناس، أريد أن أسلط عليها بعض الأضواء، لأن الأساس الذي تنطلق منه ملتبس علينا. فكم مرة سمعنا من على المنابر بتبجح وبصوت متهدج قول الأعرابي لعمر بن الخطاب: "لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا"؟ ويقال أن عمر رد على الأعرابي: "الحمد لله الذي جعل في الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه". ما هذا الكلام الذي يصم الآذان، ويعتبر فخرا للإسلام والمسلمين؟ إن إشاعة مثل هذه الحكاية وعدم الفصل فيها وتوضيحها هي التي جعلت حالنا على ما هي عليه الآن. لقد فهمنا ديننا من هذا الأعرابي، ولهذا غيرنا اعوجاج عثمان بسيوفنا، وغيرنا اعوجاج علي في سبيل الله بسيف عبد الرحمن بن ملجم ولا نزال ممتشقين سيف الأعرابي نقّوم به اعوجاج السياسيين والحكام بسيوف الأعراب. ولكن لا يستقيم العوج بل يزداد العوج عوجا. هب أن عمرا قال مثل هذا القول تشجيعا للنقد، لكن هل ينبغي أن نجعل ديننا ملتبسا ونفهم تغيير العوج بالسيف؟ أما تكفي تجربة القرون ونحن نغير بالسيف الأشخاص ولا يتغير شيء من الواقع؟

كم نعيش في إلتباسات، وإلا فإن لعمر مواقف مختلفة ومضيئة في موضوع تغيير الحاكم خالية من اللبس الذي أدخلناه فيها. لقد قال لنا الرسول (ص) معلما الناس الوضوح الذي جاء به: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يضل عنها إلا زائغ"، أي أن الطريق واضح لا غموض ولا ظلام فيه، ولكن كيف حدث الظلام وكيف حدث الالتباس؟

حدث الالتباس حين ظننا أن الناس لا يقبلون الحق إلا بالإكراه وظننا ظن السوء بالحق، لأننا اعتقدنا بأنه لو ترك للحق وللباطل فرص متكافئة فسينتصر الباطل، بينما القرآن يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". ونحن التبست علينا علاقة الحق بالباطل، فظننا أن الباطل إذا جاء سيزهق الحق. هذا الفهم اللاشعوري المتغلغل في أعماقنا جعل الحق ملتبسا بالباطل والله تعالى يقول لنا "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون". ويقول للناس: "لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون". هذا الالتباس ينبغي أن يزول من نفوسنا وما لم يتغير ما بأنفسنا فلن يتغير ما بواقعنا. نحن نظن أن الله سيخسر الانتخابات إذا أعطيت الحرية للناس. إننا نحن الذين سنخسر الانتخابات وليس الله، ولكن التبس علينا الحق بالباطل وظننا بالله ظن السوء وافترينا على الله الكذب، وصددنا عن سبيل الله. يقول الله: "ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين". من أخسر منا أعمالا في العالم كله؟ وهل ظلمنا الله أم ظلمنا أنفسنا؟ إن الله ليس بظلام للعبيد. ينبغي أن لا نفتري على الله الكذب. والأمور الواضحة أصبحت ملتبسة إلى درجة لا قدرة لنا على الفصل فيها وإضاءتها

ينشأ الالتباس من قلة المعرفة ويحدث غموض بسب الظلام الذي يحيط الجو الثقافي، ويؤدي هذا إلى فقدان النور والضياء فمن هنا يقول الله تعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات". هذه الآية جاءت بعد آية الرشد التي تلت آية الكرسي. وآية الكرسي جاءت في تعظيم الله عز وجل بينما جاءت آية الرشد في تعظيم الإنسان وتكريمه من قبل الله. قال تعالى: "لا إكراه في الدين" وهذا تكريم للإنسان ولبني آدم جميعا، "ولقد كرمنا بني آدم". ينبغي أن نبرز هذا التكريم للإنسان حتى لا يلتبس التكريم بالإهانة، حتى لا يلتبس الأحسن تقويما بالأسفل سافلين، وحتى لا تختلط التزكية بالتدسية، ولا يشتبه الحق بالباطل، والرشد بالغي.

المبدأ الأول في المشكلة الإنسانية أن لا يختلط علينا القانون الإنساني الأول، وهو أن الإنسان يعطي على الإقناع ما لا يعطي على الإكراه. إن الإنسان لا يعطي على الإكراه إلا أقل ما يمكن أن يعطيه، ويعطي الإنسان بالإقناع أكثر ما يمكن أن يعطيه، فيعطي ماله ونفسه وهو راضٍ ويتمنى أن يعطي أكثر. أي يتمنى الإنسان أن يكون مالكا أكثر ليعطي أكثر مما أعطى، ويتمنى أن يحيى من جديد بعد أن بذل نفسه ليبذل نفسه مرة أخرى. أين هذا من ذاك؟ وكيف يمكن أن يلتبس هذا بذاك؟ "إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادا ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة".

جاء الرسول (ص) بالدين الذي لا إكراه فيه ولا التباس فيه وطبق هذا نظريا وعمليا وقدم خير أمة أخرجت للناس. ينبغي أن نكتشف الإنسان من جديد، وأن نكتشف دين الله من جديد. وإذا كان هناك من يريد أن يطفئ نور الله فإن الله يأبى إلا أن يتم نوره. يقول الله: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون". ويقول الله: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون". يكرر القرآن أن هذا النور سيتم والله متم نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره وسيتحقق هذا في التاريخ، ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون. والناس يتقدمون إلى قبول هذا رغما عنهم. فإذا كان الله يقول "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، فإن الرشد هو اللاإكراه والغي هو الإكراه، وهو الطاغوت الذي من ذرية الإكراه، وضد الرشد. جميع دول العالم تضع في دساتيرها مفهوم "لا إكراه في الدين" وتشير إليها بعبارة "حرية العقيدة"، لأن الدين الذي يأتي بالإكراه لا يكون دينا. والإيمان الذي يأتي بالإكراه لا يكون إيمانا، والسياسة والحكم اللذين يأتيان بالإكراه لا يكونان رشدا. ينبغي أن يكون هذا الموضوع واضحا، وخاليا من الالتباس بحيث لا يحيط به غموض ولا ظلام.

إن الرسول (ص) قال لأعرابي شبيه بأعرابي عمر إنه سيخرج من ضئ ضئ هذا قوم يمرقون من الإسلام كما تمرق السهم من الرمية. والرسول (ص) لم يقل عن الذي يقّوم بالسيف بأنه سيد الشهداء، وإنما عن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويُقتل لإظهاره العلم، لا للذي يخفي العلم ويلجأ إلى السيف. فالذي جاء به الأنبياء هو أن يكون السيف محكوما بالكتاب والعلم، لا أن يكون الكتاب والعلم محكومين بالسيف. فالحق يجب أن يكون فوق القوة لا أن تكون القوة فوق الحق، أو أن يكون الحق ذليلا للقوة. نحن لا قدرة لنا على إعادة الحق إلى مكانه، لأننا خذلنا الحق وعظمنا القوة، فخذلنا الحق وتُركنا أذلاء للقوة محليا وعالميا. لا نشعر لحظة واحدة بعزة الحق، بل نحن مسحوقين تحت وهم وتخيل أن القوة تصنع الحق. وعمر كان يشجع على النقد وعلى نصح الأمراء بتقوى الله، "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها".

سنستيقظ رغما عنا وستشهد آيات الآفاق والأنفس على صدق آيات الكتاب. "أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد."