التاريخ مرة أخرى

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

التاريخ هو معرفة كيف بدأ الخلق، كيف كان وكيف صار. إذا كان التاريخ هو معرفة، فإن الإنسان هو معرفة أيضاً. و الإنسان بدون معرفة صفر، وحجم الإنسان هو حجم معرفته، المعرفة المركزة المتواصلة الذي ليس له انقطاع، لأن انقطاع المعرفة يذهب بقيمة المعرفة، لأن المعرفة المتواصلة هو استمرار النور، والانقطاع هو الظلام، والذي ينقطع عن المعرفة مدة من الزمن يدخل في الظلام وخاصة في هذا الزمن المتسارع.

إن المعرفة التاريخية صحة نفسية كما أن صحة الأجساد تاج على رؤوس الأصحاء، كذلك الصحة النفسية المبنية على الصحة المعرفية هو الإنسان السليم. إن انقطاع الوحي (ختم النبوات) حدث لأنه أوصل الوحي النبوي إلى معرفة غير قابلة للانقطاع، لأن الوحي النبوي أمرنا أن نسير في الأرض وننظر كيف بدأ الخلق. إن معرفة كيف بدأ الخلق يوحي بمصير الخلق في المستقبل. إن امتداد معرفة كيف بدأ الخلق في الماضي يجعل امتداد معرفة كيف سيصير الخلق في المستقبل على قدر امتداد الماضي المعرفي يجعل المستقبل المعرفي ممتداً أيضاً. ولعل هذا هو الذي جعل آية (سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) متبوعاً بقوله تعالى (ثم الله ينشئ النشأ الآخرة) وهو الذي يستدعي أن نتذكر قوله تعالى (ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون). إن معرفة النشأة الأولى هو الذي يفتح الباب لمعرفة النشأة الآخرة. والإنسان في مرحلة الطفولة إن المعرفة التاريخية المستقبلية نتيجة المعرفة التاريخية الماضية. الإنسان يعيش بغموض ولا شعور المعرفة التاريخية لأنه هو الإنسان نفسه اختزال للتاريخ لأنه انطوى فيه تطور التاريخ و إيضاح هذا الغموض ونقل اللاشعور إلى الشعور. والوعي هو الذي يجعل الإنسان في النور نور المعرفة. نعم تعلمنا جملة (العلم نور) أول ما تعلمنا معرفة تكون الجملة الاسمية والفعلية ومعرفة المبتدأ والخبر. إن الذي فتح أمامي امتداد النور التاريخي هو مالك بن نبي يفضله قرأت توينبي و ويلز. إن ويلز يبدأ معالم تاريخ الإنسان بامتداد المعرفة الإنسانية إلى الزمن الماضي تاريخياً وامتداده مكانياً جغرافياً إلى الأبعاد الفلكية. إنه تفكر في خلق السماوات و الأرض (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً فقنا عذاب النار) النار فيه العذاب وفيه النور العذاب الذي فيه يؤدي إلى النور (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات).

وهذا الموضوع كان يشغلني كثيراً فكيف نخرج من الظلمات إلى النور؟ كيف نغير نحن العالم؟ كيف سنخرج من الظلمات إلى النور؟ كيف نصير نفهم التاريخ؟ كيف نكسب المعرفة؟ كيف نكسب الصحة النفسية؟ لما كان هذا الهاجس مسيطراً علي وكنت أقرا القرآن لأجد فيه حل المشكلة ولكن كنت في الظلام و لا نزال في الظلام، و اتصلت بي أخت من السعودية تتطلع إلى النور ولكن استشفيت من حديثها الحيرة والظلام، كيف نعرف الصواب من هذه الكثرة في التصورات، فأحسست لأول مرة بارتفاع درجة الاهتمام بإخراج الناس من الظلمات إلى النور و الحاجة إلى الأخذ بيد الناس للخروج من الظلمات إلى النور وخاصة لما كنت أقرأ القرآن و أجد فيه وصول الناس لدرجة الإغلاق في الفهم وأن الآيات لا تغني عنهم (وكأي من أية في السماوات و الأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) و قوله تعالى (وإن تدعهم للهدى فلن يهتدوا إذن أبداً) وكلمة أبدا توحي باليأس.

إن لم نفهم الموضوع خلال التاريخ من أن الناس يصلون إلى درجة الإغلاق ويزين لهم سوء عملهم ويرونه حسناً وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، ثم أخيراً اهتديت في القرآن إلى آية تقول (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون و لو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)، فأمسكت بالمخرج والخلاص. إن العذاب الأليم عذاب النار هو الذي يخرجنا من النار إلى النور من الظلمات إلى النور، هذا هو أسلوب القرآن (الله ولي الذي آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) من ظلمات وآلام الجهل و الحروب و الأحقاد والكراهيات والخوف المتبادل وإغلاق أبواب الخروج من المآسي التي نحن فيها. ولكن أسوء العذابات التي أخرست الألسنة حيرت العقول و الأفئدة مأساة الحرب الخليجية الأخيرة التي لا نجد لها مخرجاً لأنها كانت فضيحة معرفية، فضيحة تاريخية بكل معانيها ومأساة وعذاب وليس عذاب أليم فقط بل عذاب مهين لنا جميعاً، وشعور الإنسان بالهوان إغلاق أبواب المخرج منها هذا الذي يشعر الإنسان بالهوان الذي هو موت الفكر، ولعل القائل

"من يهن يسهل الهوان عليه . ما لجرح بميت إيلام

كان قد لمح شيئاً من مشكلة الهوان والعذاب المهين وأنا لما قرأت تاريخ ويلز وتاريخ توينبي، لأن مالك بن نبي نقل سطراً واحداً مشيراً إلى فكرة توينبي في نشأة الحضارات لما بحث مالك في شروط النهضة الأفكار المتعلقة بنشأة المجتمعات وعوامل ميلاد الحضارات وذكر فكرة التحدي لتوينبي فهذا جعلني أقرأ بتأمل وتحدي صعوبة الفهم والقراءة بعناد قراءة الملخص الذي طبعته جامعة الدول العربية وليت الجامعة العربية تركت السياسة وتوجهت إلى نشر المعرفة التاريخية إذاً لأفادت كثيراً.

ماذا سأقول في نفسي كلام كثير ولكن أشعر أننا نفقد القول الفصل الذي ليس بالهزل، من توينبي فهمت مأساة الحرب في التاريخ البشري، وهو الذي قرأت له من أن أميراً أو ملكاً انتصر في معركة فجاءه مهنئ على انتصاره فقال هذا المنتصر للمهنئ: الكلام بيني وبينك إن نصراً أخر مثله يكفي لأن يقضى علي نهائياً. ولكن البشرية لن تنتهي بأخطاء عصر ما أو بقعة ما إن البشرية لها هدف لم يبلغها بعد وسيبلغ. مما قرأت لتوينبي أنه كان علق تعليقاً على حدث أثناء الحرب الباردة بين الغرب بزعامة أمريكا و بين الاتحاد السوفيتي و اخترقت أجواءها و أظن أنها كانت أسقطت و كان من تعليق توينبي على هذا الحدث أنه استنكر هذا الحدث وهذا التحدي المتبادل وقال: "كنت سأفرح لو أن أمريكا اخترقت الأجواء السوفيتية بالطائرات لتلقي شحنات من كتاب برنارد راسل الذي بعنوان (هل للإنسان من مستقبل)" و كان راسل من أعداء الحرب و مع كل علاته إلا أنه كان معادياً للحرب بعناد، و تشبث والآن ماذا يوجد في هذا الكلام من عبرة، و الآن و أنا استمع إلى الأخبار صفقة شراء طيارات إف 16 بأرقام فلكية من الدولارات يشتريها بلد عربي، وأنا أرى مثل توينبي وراسل أنه لو أن هذا البلد العربي بدل أن يشتري هذه الطائرات الحديثة والقديمة في آن واحد، كان ساهم بثمن طائرة واحدة في ترجمة كتاب التاريخ الذي كتب بطلب من مؤسسة اليونسكو وطبعها وتوزيعها في البلاد العربية والإسلامية لكان أفضل لبناء أرضية الوعي في العالم الإسلامي، إن سلسلة عالم المعرفة التي تطبع في الكويت وتوزع في البلاد العربية بثمن يستطيع طلاب المعرفة الفقراء أن يشتروه بدون أن يهدم ميزانياتهم الفقيرة لها قيمة... وللحديث عن التاريخ قصص لا تنتهي حيث عواقب التاريخ هو مرجع كتاب الله الذي ختمت به الكتب السماوية لأن عواقب التاريخ هو الذي سيبين إن هذا الكتاب حق (ستريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) .