التاريخ قبل الفلسفة الواقع قبل العلم و المسمى قبل الاسم

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

ويمكن أن يعبر عن الجملة الأولى بأن التاريخ قبل الفلسفة. إن العلم و الفلسفة متعلقان بالإنسان، ويمكن أن نقول عبارة أخرى: الحكمة من التجارب، ولكلمة الفلسفة صلة بالحكمة، ونحن نسمي الأشياء بعد وجودها وكشفها، لأن الأشياء التي لا تراها ولا تكشفها له اسم واحد غيب مجهول عدم النجوم والمجرات بعد أن يكتشفوها يسمونها بأسماء والأطفال يسمون ويبحث لهم عن اسم بعد الولادة أو قبله، حين يتوقع مجيؤهم هكذا الأمور في أول الأمر عند ولادة الأحداث أو عند التعرف عليها، و الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحصل العلم من مراقبة الواقع، ويسمي الأشياء بعد التعرف عليها، في كل اللغات اسم للشمس والقمر والليل والنهار وللموت والحياة و الإنسان هو الحيوان الناطق الذي يسمي الأشياء.

"وعلم آدم الأسماء" بهذه القدرة صار الإنسان إنساناً يتعرف بالأسماء والقراءة على الأشياء، وهنا يبدأ الموضوع يتغير حين يبدأ الإنسان بالقراءة، فإن الواقع لا يأخذ القبلية والأولية فيصر الإنسان في حياته العملية، العلم قبل الواقع الاسم قبل المسمى فحين يقرأ يبحث عن معاني الكلمات التي لا يعرفها وهنا يمكن أن نلاحظ إن الذين يحصلون العلم من الوقائع قلة والذين يبتكرون الأسماء ويولدون مصطلحات نادرين. ولكن تجمع هذه الأشياء النادرة والقليلة صار من الكثرة عدم قدرة الإنسان على التحصيل، فبدأ التخصص كما بدأ تقسيم العمل في حياة الناس حيث كان الناس في حياتهم الأولى: جامعين للثمار والنباتات القابلة للأكل بل أن يتعلم الناس الزراعة وكذلك كانوا صيادين قبل أن يستأنسوا الحيوان. وكان سابقاً الإنسان يكون جامعاً للعلوم: لغوياً وفيلسوفاً وطبيباً وفلكياً.

فحدث التخصص بتوسع المعارف فلابد من إيجاد العلاقة بين التخصصات وتبادل نتائج الصناعات والخدمات ومع ذلك كله فلابد لكل فرد أن يكون عنده من اللغة ما يمكنه من التفاهم مع الآخرين وأن يكون له مدخل الى القراءة ليدخل الى هذا العالم من هذا الباب. بل إن الإنسان بعد الزراعة والصناعة واجه مشكلة المعلومات مشكلة الفلسفة و التاريخ المتسارع والمتوسع وانفجار المعلومات وأدوات نقل المعلومات فاجأتنا الى درجة أن يتوقف الإنسان ليستعيد توازنه وأن انفجار المعلومات فرض على الناس قيماً جديدة أو على الأقل صار يفهم القيم القديمة بشكل جيد ليست أحلاماً، أو لم تعد أمنيات غير قابلة للتحقيق بل وقائع لابد من تفهمها والتكيف معها.

كان الزمن يسبر ببطء حيث الإضافات كانت قليلة جداً ولا يشعر بها الإنسان ويتغيرون بدون شعور منهم وقد لاحظ ذلك ابن خلدون واعتبره داءً دوياً لا يفطن إليه إلا آحاد الناس، لم أسق هذه المقدمة الباردة الطويلة الخالية من الإثارة أو التي تفتقد الإثارة لخلوها من جاذبية العرض والتسلسل فمثلاً: أنا أعرف التاريخ من أربعينات هذا القرن، وخاصة لقرب مولدي جغرافياً من فلسطين فبعد عام 1948 بدأت الانقلابات وخاصة في سوريا وعمت البلاد العربية وكانت دوافعهم تحميل أوزار الأوضاع السيئة التي حدثت في فلسطين للعهود التي كانوا ينعتونها بالبائدة الذين فرطوا في فلسطين وضيعوا الأرض المقدسة.

أشياء كثيرة قيلت انقلابات واعدامات واغتيالات وعذابات في السجون وتشريد ومطاردات، آلام تلاحق آلاماً، فتن يرقق بعضها بعضاً، ثم لما حدث بعد عقدين من ذاك التاريخ 1967 ليس فلسطين فقط وإنما نحن صرنا مشردين أيضاً، هناك برزت أصوات مع محاولة تفسيرات للحدث بأنها نصر وليست هزيمة. فعلاً يمكن أن يكون نصراً إذا كان السبب سبباً لليقظة وكان من جملة التفسيرات التي قيلت في تحليل ذلك من أن الهزيمة، هزيمة ثقافية، وليست عسكرية.

ولا حُكام وإنما مجتمع بأكمله وكان هناك رجل من الجزائر يكتب عن تخلف الأمة وفكرة القابلية للاستعمار، إلا أن هذا ليس الذي أريده، أريد أن أعرف كيف أن التاريخ يسبق الفلسفة وأن الفلسفة والفهم تتكون ببطء شديد من خلال المعاناة المآسي، أو أن الناس العاديين يتغيرون قبل الفلاسفة أو أن الفلاسفة لا يقودون المجتمع وإنما يتبعونه. كما أن وضع الأسماء يأتي بعد تحقق الأشياء والأمور. الزراعة كانت تتحقق في الواقع قبل أن يمارسها الناس.

إن الانقلابات توقفت في العالم العربي وإيمان الناس بها انخفض رصيدها، وهذا شيء يعيشه الناس ولكن لم يسم بعد هذا الواقع إلا في صورة عودة الملكيات ووراثة الملك، هل حقاً هذا هو التفسير الصحيح للوضع الراكد في العالم العربي، أم أن هناك تغير جذري في النفوس يتكون في الواقع العملي، أم أن هناك حدثاً كبيراً مثل الانقلاب الفلكي الذي حدث في الرؤية الفلكية ليحدث في المجتمع تفسير جديد للظاهرة الاجتماعية بل للظاهرة الإنسانية التي توقعتها الملائكة للإنسان في مطلع الخليقة من الفساد في الأرض وسفك الدماء فكأن علم الله في الإنسان بأن يكشف دوره في تحقيق علم الله بأن الإنسان سيخرج من الفساد وسفك الدماء الى العدل وكلمة السواء والاحسان والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

إن كشف ذلك سيخرج الناس من الظلمات الى النور أكثر مما أخرجهم معرفة سنة تسخير الكهرباء. لأن روح الإنسان المنفوخ من الله هو العلم والمعرفة وكشف الرؤية القرآنية وهي الرؤية النبوية. إن هذه القدرة هي الروح ومن هنا كان القرآن روحاً فقال في هذا "أوحينا إليك روحاً من أمرنا" إن هذا الوحي هو الروح وهو الحياة فبهذا يتسخر الكون كله للإنسان ويحقق علم الله.

نعم إن انقلاباً حدث وصار واقعاً ومولوداً وموجوداً. ولكن لاقدرة على شرح ذلك أو على وضع اسم له إنه يلفنا جميعاً. إنه مولود جديد. ولكن كيف يمكن فهمه؟ وكيف يمكن أن نعترف به؟ لماذا اعترفنا بإسرائيل؟ لماذا توقفت الانقلابات؟.

إن الهنود الحمر حين وصل الأسبان إليهم توقفت آلهتهم عن الكلام، والعالم توقف عندهم إنهم لم يستطيعوا فهم الشيء الذي جاء إليهم. إن القائد الأسباني كورتيس كان يدفن الخيول التي كانت تنفق حتى لا يفهم الهنود أن الخيل يمكن أن تموت وتقتل، ليظل إيمانهم وعجزهم عن تفسير ما يرون، يمكن أن نقول إننا نشبه في أن مشكلتنا فهم الواقع وتفسيره الصحيح إن الظاهرة الغربية شيء جديد على العالم لم نتكيف معه إننا نشتري أسلحة ميته كان الأسبان يخفون أن خيلهم تموت.

ولكن هل يمكن إخفاء أن حل المشكلات بالعنف مات؟ من خمسين عاماً ونحن لاقدرة لنا على فهم هذا الواقع الذي يلفنا ماذا يمكن أن يطلق عليه إن السلام مع إسرائيل تسليم بهذا الواقع دون فهمه ومعرفة كيفية تجاوزه، إن الاتحاد السوفيتي لم يتهشم بفقره من أسلحة التدمير، ولم يأت إليهم عدو مثل إسرائيل التي صنعت لنا! إن إسرائيل ولدت وهي ميتة، دماغها متوقف، ويحقن ليخيل إلينا أنها تسعى، وأن فيها حياة إنها لعبة كبيرة، إنهم جاؤوا بسحر عظيم إننا نعيش ما قبل التاريخ ما قبل القراءة، لأننا لا نقدر أن نقرأ الأحداث ولا نسمي الأحداث، لأنها فوق تصورنا! إن حل المشكلات المعقدة سهلة ولكنها مستحيلة عندنا! لأننا لا نفهم آلياتها وسننها وأسلوب تسخيرها!.

إن الذين يثقون بآبائهم ثقة مطلقة ولا يقدرون أن يتأملوا آيات الآفاق والأنفس، لا يقدرون على الفهم إن سنة الله في البشر أنهم يمكن أن يصلوا إلى درجة الإغلاق لثقتهم بالآباء وإعراضهم عن آيات الله.

(وكأيٍ من آيةٍ في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)

(وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا)

(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)

(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)

(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا عنها غافلين)

(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)

هذه سنن اجتماعية كل المجتمعات قابلة لأن تصاب بها والعقوبات التي تعقب هذه التصورات تأتيهم بالعذابات الأليمة التي تكون سبباً للاستيقاظ. إن حربي الخليج من هذا النوع من العذابات، ومن لم يصدق فليكرر الحرب وشراء الأسلحة بدل أن نتمكن من فهم العوامل التي جعلت أوروبا تتحد بدون حروب هذا معنى الاعتبار بالتاريخ.