البنى التحتية المتحكمة

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

تأسيس البنيان غالباً ما يكون تحت الأرض وغير مشاهد. وعلى قدر عمق ومتانة هذا الأساس المخفي يكون البناء راسخاً. إذا كان هذا في عالم الأشياء ومواد البناء فإن الأفكار الأساسية العميقة المتينة وغير المشاهدة أو غير المستحضرة في الوعي تكون قوية ومتحكمة ولا شعورية وفوق أو تحت ما يمكن أن يدخل الى عالم الوعي. ولكن تحكم الأفكار في الإنسان تكون قوية وصعبة التغيير، وآثارها وعواقبها وما يترتب عليها في واقع الحياة تكون مشاهدة وفاقعة الى درجة تفقأ العين وتتسلط على الناس، ولا قدرة لهم على تغييرها لأن أسسها المنتجة خافية عميقة غير مدركة وغير متداولة في البحث. هكذا شأن الأفكار.

خلال فترات طويلة تتعمق الأفكار وترسل الى اللاوعي المتحكم فتصبح مثل الأعضاء في الجسد التي تعمل تلقائيا خارج الوعي كالقلب والرئتين والجهاز الهضمي. كذلك في عالم الأفكار تتحول الأمور التي كانت في الوعي الى اللاوعي. هذا قد يكون مفيداً كما في الجسد والأعضاء التي تعمل خارج وعي الإنسان حتى وهو نائم حتى لا ينشغل الإنسان في إرادته الواعية ليتخصص الوعي في أشياء أخرى. ومع كثرة تداول أفكار معينة تتحول إلى اللاوعي مثل عمليات الأعضاء اللاإرادية.

ولكن ينتج عن هذا مشكلات كصعوبة التخلص من الأفكار الضارة الى درجة العجز، إلا إذا وصلت الى درجة غير قابلة للإحتمال. يتحدث القرآن عن هذه المراحل بأشكال مختلفة: "إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".

هنا يقرر القرآن حالة اللاوعي واللاشعور وعدم الإدراك على أن هذا الذي يقوم به الناس فساد وضرر. وكذلك يقول: "وإن تدعهم الى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً".

وهذا يدل على صعوبة الانتقال من الضلال المترسخ في اللاوعي الى الهدى الذي لم تتضح بعد معالم نفعه وفائدته. والقرآن يقول: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتـهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم". في هذه الآية يتحدث القرآن عن الصعوبة في التغيير لا عن الاستحالة لأنه هنا يضع نهاية للعجز عن الإدراك واستمرار العمى والصمم عندما تبلغ النتائج الضارة درجة غير قابلة للاحتمال.

هنا يفتح القرآن الباب الذي كان مغلقاً، أي يضطر الإنسان الى التخلي عن الضلال بعد عذابات وخسائر لا تطاق، فيضطر الفرد والمجتمع تحت وطأة العواقب غير المحتملة الى تغيير الموقف. والعلم الآن يبحث هذه المشكلات تحت عناوين مختلفة.

فمثلاً يبحث علماء الدراسات الاجتماعية مشكلة الإنسان الذي عنده إيمان بمسلمات لا يشك فيها ولا يقدر فيه على تقبل الصواب. هذا الذي استشهدنا له بقوله تعالى : "وإن تدعهم الى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً". وكذلك قوله تعالى "ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشدا".

هذه الأحكام ليست مطلقة ولا نهائية ولكنها نسبية وفي مرحلة معينة وزمن معين. نفهم هذا أيضاً من موقف الرسول (ص) من أهل الطائف عندما دعى الله أن لا يهلكهم لعله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به. وهذه نظرة غير مغلقة عن الإنسان. فقد يغلق التفكير على جيل وجيلين وأكثر، فيعجزون عن الاهتداء وترك الخطأ والضلال وما وجدوا عليهم آباءهم، ولكن ليس وضعهم حكم مطلق.

هكذا كان الأمر في مطلع البشرية، لأن بطء عمليات التغيير وبطء وسائل الاتصال وعدم معرفة أخبار وأحداث الأمم الأخرى كان يجعل الاهتداء أكثر صعوبة وأطول مدى. ويمكن أن نفهم هذا من دعوة نوح عليه السلام على قومه بأن لا يذر منهم على الأرض دياراً "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا".

ولكن عيسى عليه السلام كان مختلفاً عن نوح: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق …" الى أن قال:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم".

هكذا يتطور التاريخ وهكذا تتراكم التجارب خلال الزمن ليحدث للناس الاعتبار ولا يكرروا الأخطاء. ماذا أقصد من هذا الحديث؟ حين يبحث المصلحون في تغيير أحوال المجتمعات وما يجدون من صعوبة في تغيير ما بأنفس الناس من المفاهيم والأفكار والتقاليد يطلقون أسماء مختلفة على عجز الإنسان عن التكيف مع الظروف المتغيرة. المشكلة ليست في تسمية هذه الحالة الإنسانية لأن كل المجتمعات تصاب بمثل هذا، ولكن المشكلة أن بعض الناس يتسرعون في الحكم على البشر في حالة معينة وعلى عدم إمكان صلاحهم وتغييرهم.

هذه هي العنصرية اللاتاريخية التي تشوه الإنسان وتحكم على بعض البشر بأنهم غير قابلين للتحضر. إنه لمأساة أن تظل هذه الأمور خفية وأكثر الناس يحدث لهم يأس من التغيير وآخرون يستغلون هذا لاستمرار تسلطهم. كيف نضيء هذه الظلمات المدلهمة؟ وكيف نجعل الناس على ضياء؟ إن آخر الأسماء التي تطلق على حالة الإغلاق الآن هي كلمة "الأصولية" بعد "الصرامة العقلية" و"الدوغمائية". وكان من تعريفهم لهذه الحالة قولهم أيضاً إن الإنسان الذي يعجز عن أن يغير موقفه حين تتطلب الظروف الموضوعية التغير عنده عقلية عاجزة عن التكيف مع التطورات الجديدة.

لماذا يعجز العالم مثلاً عن إلغاء حق الفيتو في الأمم المتحدة؟ أو أن يكون هذا مطلباً إنسانياً كما يطالب بحقوق الإنسان؟ ما هي الأسس التي تحول دون المطالبة بإلغاء الفيتو؟ إن ممارسة الخروج عن الخضوع لحق الفيتو أو باطل الفيتو الذي خيل إلينا أنه حق وهو باطل الأباطيل هو مطلب إنساني الآن. إن الأنبياء جميعاً جاؤوا بالتوحيد وإدانة الشرك واعتباره الذنب الذي لا يغتفر ما لم يتخلى الإنسان عنه. ما هي البنى التحتية التي تجعل مثل هذه الأمور قائمة وراسخة ومحتملة ولا ينتقدها أحد، بل يتمناها الذين يفقدونها؟ الأنبياء جاؤوا لتغيير هذه البنى التحتية التي تحمل مثل هذه السخافات. هذه البنى هي أصنام هذا العصر والتي لا نجد من يفضحها مثل ما قال موسى عن عجل السامري : "انظر الى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ولننسفنه في اليم نسفا".

ما هي البنى التحتية المتحكمة فينا في العالم العربي والتي لا نشعر بها ولا قدرة لأحد على إعادة النظر فيها؟

إن مشكلتنا هي مشكلة اكتشاف الإنسان والقدرات الكامنة فيه والمكبوتة. الأنبياء جاؤوا لرفع الآصار والأغلال عن الناس المتعبين من الأحمال الثقيلة التي على ظهورهم والقيود المعيقة على أيديهم وأرجلهم المغلولة الى أعناقهم. هذا هو التوحيد الذي يحرر الإنسان من السلطات الأرضية كلها، من آزر الى الشرعية الدولية. ولكن العالم كله لا يزال يقول عن الأنبياء أنهم سحرة ومجانين: "كذلك ما آتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين". "ولتعلمن نبأه بعد حين".