الإنسان كلاً وعَدلاً مدخل
من Jawdat Said
هذا العصر برزت فيه مشكلة توجيه الإنسان واحتل مكان الصدارة بين الأمور التي يمتاز بها هذا العصر ، فإن كانوا يسمون هذا العصر عصر البخار والكهرباء ، والذرة والفضاء ، فإن ما تنبَّه إليه هذا العصر من سنن توجيه البشر أهم من كل ما سبق ، ولا قيمة لما سبق إن لم ينجح الإنسان في التوجيه الصحيح للإنسان . والذي جعل ابن خلدون يحتل مكان الصدارة بين العلماء العالميين هو تنبه إلى السنن - القوانين - التي تجعل البشر يرتفعون في مستوى العمران (الحضارات والنهضة) أو ينخفضون .
والهدف الذي نرمي إليه من هذا البحث هو أن يتبين للقارئ : أنَّ البشر يمكنهم باستخدام السنن المتعلقة بتغيير النفس من رفع أو خفض مستوى الأفراد والمجتمعات حسب الهدف الذي يرمي إليه الإنسان الذي يقوم بهذه المهمة .
والصفة التي تمكن الإنسان من أداء واجبه ليصل إلى الهدف الذي يرمي إليه ، يطلق عليها في مصطلحات العصر الحاضر حين يبحثون هذا الموضوع (الفعالية ، والنموّ ، والمقدرة التأثيرية) كما يطلقون على العجز الذي يصاب به الإنسان مصطلح : (اللافعالية ، أو السلبية ، أو التخلّف) وهذا الموضوع جدير بالاهتمام ، وعبر عنه القرآن في مثل الرجلين الذي ضربه الله فقال : ( وضَربَ الله مثلاً رَجلَينْ : أحَدهُما أبْكَمُ لا يَقدِرُ على شيء ، وهو كَلٌ على مولاهُ ، أينما يوجهْهُ لا يأتِ بخير ؛ هل يستوي هو ومَن يأمُرُ بالعدل ، وهو صراطٍ مستَقيم ؟ ) النحل - 76 .
فإذا فهمنا معنى الفعالية واللافعالية فبإمكاننا أن نفهم أن الكلمة التي وردت في الآية وهي كلمة (الكَلّ) هي الكلمة القرآنية المقابلة لمصطلح اللافعالية والسلبية ، بل كلمة القرآن أدلُّ على هذا المعنى حيث أن كلمة (الكَلّ) لا تدل على اللافعالية فحسب بل تدل على أنه عبء على من يتولاه سواء كان فرداً أو مجتمعاً . كما وأن كلمة (العدْل) في القرآن تقابل مصطلح الفعاليَّة بشكل أدق ، لأن الفعالية لا تشترط دائماً أن تكون فيما ينفع بل قد يكون المرء فعالاً فيما يضر . أما كلمة العدل ففعاليته في الحق دائماً ، كما وأن أمره بالعدل ذاتي الانبعاث وليس مدفوعاً إليه .
والآية تدل بشكل دقيق واضح على الفعاليَّة واللافعالية في مَثَل الرجلين الذي ضربه الله : مثل الرجل الأبكم الذي لا يقدر على شيء وهو كّلُّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير . إنَّه وصف دقيق للافعالية في عدم القدرة على شيء وفي عيشه عالة على الآخرين . كما تدل على أن عجزه عام وليس في جانب واحد لأنه أينما يوجَّه لا يأتِ بخير . وإذا لاحظنا أن الفعالية واللافعالية تظهران في كل جوانب الحياة ، وتَعُمان كل أجزائها ، فإن من الخطأ محاولة علاج مسألة جزئية من نتائج اللافعالية دون معرفة شروط الفعالية ، التي سيوفِّر تحصيلها خيراً كثيراً ، ويختصر لنا الطريق . ومن هنا تبرز أهمية شروط الفعالية وسنحاول ذكر ذلك فيما سيأتي .
ولنفهم معنى الآية بشكل أوضح نقول : معنى (المَثَل) في حقيقته أن يذكر شيئاً يمكن للإنسان أن يدركه بسهولة ليصل بواسطة ذلك المثل إلى شيء آخر أدق وأعمق يحتاج إلى انتباه .
وإذا نظرنا إلى هذه الآية على ضوء ما يساق المَثَل من أجله ، نسأل ما الشيء الذي يريد الله أن نفهمه بواسطة هذا المَثَل ؟ إنه ينبغي أن ننظر أولاً إلى مضمون المثل الذي يضربه الله بوضوح وبساطة . فبعد الفهم السهل الواضح ، ننتقل إلى القسم الآخر الذي من أجله ضرب الله المثل .
ومعنى المَثَل بوضوح وبساطة ؛ وهو عدم المساواة بين شخصين ، شخص عاجز (كَلُّ) لا يصلح أن يكلَّف بأداء أية مهمة . وشخص آخر نشيط فعال (آمِرٌ بالعدل) إذا توجَّه إلى أمر تشعر بأنه يؤديه على وجهه ويحصل على أحسن النتائج . ونفي المساواة بين هذين الشخصين من أوضح البدهيَّات ومما لا يخفى على أحد . ولكن الهدف من مثل هذا المثل هو التنبه إلى السبب الذي يجعل هذين الشخصين بهذا الفارق البين في قيمة كل منهما . لأن التنبُّه إلى السبب هو المفتاح الأول لتوجيه جهد الإنسان في تحويل الشخص من أن يكون كلاً إلى أن يكون آمراً بالعدل وهو على صراط مستقيم ، جعله في (أحسن تقويم) بدل أن يصير (أسفل سافلين) . والذي يهدف إليه القرآن هو بيان الحالة التي يصير إليها الإنسان إذا رُبِّي واصطنُع على أساس المنهج القرآني ( أفَمَنْ يمشي مُكباً على وَجهِهِ أهْدى أمَّمْ يمشي سَوِياً على صراطٍ مستقيم ؟ ) الملك- 23 .