الإسلام و(لا إكراه في الدين)
من Jawdat Said
لقد تقدم التاريخ تقدماً كبيراً، وقطعت البشرية مراحل متعبة إلى أن اضطرت لقبول مبدأ: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
وقد تحدث المؤرخ توينبي عن فكرة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وقال: « لقد جاء بها الإسلام من زمن بعيد، ولم نقبلها نحن هنا في بريطانيا إلا في وقت متأخر جداً »، حتى إن مشكلة إيرلندا إلى الآن من عقابيل عدم رسوخ تلك الفكرة، لكن الفكرة ولدت على كل حال، وخرجت من الأرحام، والأفكار الجديدة المخالفة لما هو سائد في المجتمع؛ تأتي شاذة ومنكرة، سواء في الفلك أو الحياة أو النفس الإنسانية، فَتُرفض، ثم يتعرف عليها بعض الأشخاص الذين لهم قدرة على التأمل، ثم يبدؤون بالتحدث بها حتى تُقبل من الملأ، ثم تنتشر وتهم الناس، ثم تترسخ في الأعماق، فلا يعودون يذكرونها، بل يبنون سلوكهم عليها دون شعور منهم.
إن مشكلة التدين وقبول تغيير الدين لازالت مشكلة بشرية، فالدين كان يولد مع الإنسان، لا بل إن الإنسان يكتسبه بعد ولادته من مجتمعه، وبعد ذلك يجتهد المجتمع للمحافظة على دينه، ولا يسمح لأبنائه بالخروج عنه.
لقد دفعت الإنسانية ثمناً باهظاً حتى قبل الناس الفكرة القائلة بـ (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وغن كانوا لم يطمئنوا إليها بعد.
إن العالم الإسلامي يرفض هذه الفكرة، وإن كان يقبلها في مستوى الأديان مع كثير من السطحية، فالفكر الآخر المعارض غير مقبول إلى الآن، والناس في العالم الإسلامي لم يقبلوا حرية الفكر باطمئنان، بل قبلوها اضطراراً، وهي إلى الآن لم تنتشر بينهم، رغم بروزها دعوة عريضة في الدساتير المسجلة.
إنها لم تُسجل في القلوب، ولم يطمئن الناس إليها، وهذا دليل على حداثة عهد الإنسان في الدخول إلى عالم الأفكار، فضلاً عن قبول المرجعية الموحدة، أو قبول (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ولا إكراه في السياسة.
إن فكرة الإكراه، وفكرة الخضوع للطاغوت والخوف منه ومن تحديه، هاتان الفكرتان راسختان في لا شعورنا، موجودتان بقوة في مجتمعاتنا، إلى درجة أني قلت مرّة: إن العلم والعقل في مجتمعاتنا الإنسانية كلها، لا زالا مخلوقين قاصرين، ولا يرى أهل الهوى والطغيان في العالم كله أي حاجة إلى مدارتها، بل إن الهوى ليتربع على عرش القوة ويدعو العلم والعقل ليؤديا طقوس الاحترام والطاعة والثناء له وللإكراه، ثم يؤمران بالانصراف فينصرفان وهما يتمتمان بكلمات تدل على شيء من الامتعاض الداخلي، كما أن فيهما شيء من عدم الخجل، إذ لا يوجد وعي يجعلهم يخجلون من هذه الشهادة المظلمة التي لا يوجد فيها شيء من الضياء.
بل إن وَرَثَةَ الأنبياء من الآمرين بالقسط من الناس لا يزالون متفرقين ومبعثرين، لا تعارف بينهم ولا تآزر ولا تعاون، لم يشكلوا سلطة رقابة على الفساد في الأرض ليقوموا بدور الشهادة للحق والقوامة بالقسط، فكأنهم إلى الآن لا يشعرون بأي مسؤولية، ولا يعلمون أن عليهم مسؤولية القيام بدور الإنذار والتبشير وتوعية الناس إلى تاريخهم، وفتح أعينهم إلى مستقبلهم، وإشعارهم بأنهم يستطيعون أن يتحرروا من عبادة الخطأ، ويمكنهم أن ينصروا الصواب.
إن أقل ما يجب على الآمرين بالقسط من الناس هو أن يرشدوا الناس إلى ألا يدخلوا إلى المعارك الجسدية، وإلا يكونوا بنادق بأيدي حرّاس الامتيازات في العالم.
إن فكرة ألا يتحول الإنسان إلى بندقية وسوط بيد الجلاد، وأن يخرج من أن يكون مجرد أداة بيد أصحاب الامتيازات، هي فكرة مهمة وسهلة التطبيق مهما تراءى لنا أنها صعبة، ومن هنا كان المسيح عليه السلام يقول: « أيها المتعبون في العالم هلموا إليَّ، عن نيري خفيف ».
إن هذا البديل خفيف، وإذا انتبه الإنسان إليه وَجَدَهُ خيراً وأبقى، ويمكننا أن نكشف هذا البديل في المخبر، في التاريخ، وعلينا بعد الكشف عن هذا البديل أن نحوله إلى ثقافة، إلى علم راسخ، إلى لاشعور يهيمن عليه الشعور، لتتحول السلطة إليه، لا أن يكون لاشعوراً غير مضبوط، وقابلاً للانفجار دون ضوابط.
لابد من فهم هذه التقنية، لابد من كشف هذا المنجم الثر المعطاء، لابد من فتح الأسماع والأبصار، لابد من استثمار هذا الكنز!!..
إن الجيوش في العالم كله تعلم الجنود أن يطيعوا الأوامر وينفذوها قبل الاعتراض عليها، نعم العالم كله يربي جنوده على أن يكونوا بنادق مجردة من الإحساس والتمييز والفرقان، وأن يكونوا مجردين من المحاكمة الذهنية، والميزان الذي يفرق بين الخطأ والصواب، وعليهم فقط أن ينفذوا الأوامر التي تأتيهم من قادتهم وزعمائهم.
هذا الأمر أيضاً يؤكد الفكرة التي أقولها من أن عهد الأنبياء لم يبدأ بعد، نعم إنه لم يأتِ إلى حياة البشر، ولم يُفهم من قِبلهم حتى الآن.