اخلع عنك الأوثان
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
كيف يمكن أن أمسك بعنق العنقاء؟ كيف يمكن أن أفهم ماذا كان يقصد الصحابي حين يقول للمشرك "اخلع عنك الأوثان"؟ ما هذه الأوثان التي نلبسها أو تتلبسنا؟ وما هو الوثن؟ ما معنى قول الله في القرآن "واجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء"؟ ما معنى هذه الكلمات؟ كيف يكون الاجتناب؟ هل أن نضعه في جنبنا أو نجعله في سويداء قلوبنا؟ وما هو الرجس؟ وما هو الوثن؟ وما هو الزور؟ وما معنى حنفاء؟ هل لهذه الكلمات وجود حقيقي في واقع الحياة؟
لا يمكن فهم معنى الوثن إلا إذا فهمنا قوة الوهم على عقل الإنسان. ولا يمكن السيطرة على الناس إلا إذا كانوا جاهلين بالسنن ويؤمنون بالأوهام، وصدق الله "بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون".
إن كلمتي الأرض والسماء مكررتان كثيرا في القرآن، ولكن ماذا كان يفهم الناس الذين نزل عليهم القرآن من هاتين الكلمتين؟ وماذا كان يوجد في ذهنهم أو تصورهم عن الأرض؟ الأرض حقيقة نقف عليها ونمشي في مناكبها ولها صورة في ذهننا أو عقلنا ولها صورة على الورق حين نرسمها، نرسم شكلها أو نكتب اسمها الألف والراء والضاد.
هذه الأرض التي منها خرجنا وإليها نعود ومنها نخرج تارة أخرى. لقد بقيت كلمة الأرض كما هي، الألف والراء والضاد، وبقيت الأرض التي نقف عليها ونمشي في مناكبها، ولكن تغير شيء آخر، تغيرت الصورة التي كانت في أذهاننا عن الأرض والشمس والسماء ذات البروج، لأنه حين ننطق "أرض" بألسنتنا ونكتب أو نرسم شكل الأرض بأيدينا نشير إلى صورة في ذهن الإنسان عن الشيء.
والاسم يختلف عن الصورة الذهنية والصورة الذهنية تختلف عن الحقيقة الخارجية. والكلمة المكتوبة تختلف عن الاسم. فهذه مراحل أربع وفي كل نقلة تحصل تشويهات. يتحدث القرآن عن الرياح الذاريات والسحب الموقرة بالمياه والسماء ذات الحبك ويتحدث عن الإنسان والآخرة ويقول "وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون". أي أن السماء والأرض وما بينهما والإنسان ومصيره وقدرته على الفهم، كل هذه الأشياء حق مثل ما تتكلمون، تنطقون، تتحدثون، تطلقون الأسماء على الأشياء. ولكن ما وجه الشبه بين المشبه والمشبه به في هذه الآية؟ يقول الله "إنه لحق"، أي حقيقة هذا مثل حقيقة هذا.
ما هذا الحق الموجود في السماء والأرض والإنسان في مبتدئه ومآله؟ وما هو ميزة الإنسان؟ إنها إمكانية انتقال ما في ذهن الإنسان إلى ذهن إنسان آخر.
هذه هي روح الله المنفوخة في الإنسان. إنه الحق. إن إطلاق الاسم على الشيء والمتكلم والمتكلم إليه والمتكلم عنه والمتكلم به والسماء والأرض تخضع لقوانين ثابتة. ونفس الإنسان التي يقول الله عنها "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" تحكمها قوانين مثل ما تحكم السماوات والأرض القوانين. هذه هي المثلية في تشبيه قانون السماوات والأرض وقوانين الحياة وقوانين وسنن النفس الإنسانية الفردية والاجتماعية. إن القرآن يؤكد على السنن النفسية الفردية والاجتماعية.
"فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون"، إنه لحق مثل ما يقول الله "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " ولما يقول الله "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" فهو يقرر سنة ومن لم يصدق فليرجع إلى وقائع التاريخ، "سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا".
والمجتمع الذي لا عدل فيه بين الناس سيهلك. هذه دعوى مكان كشفها التاريخ وأحداث البشر منذ أن صاروا يوقدون النار ويستأنسون الحيوان ويزرعون الأرض وينقلون ما يصلون إليه من كشف لسنن الله إلى الآخرين بالنطق، بالحروف، بالكتاب " ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين". المتقون هم الذين يكشفون السنن، سنن الهلاك الاجتماعي ولا يقعون فيها ولا يقعون في الظلم وذلك ينقل بالكلام والكتاب والحروف " اقرأ باسم ربك اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم".
إن الإنسان يمكن أن تخطئ عينه فلا تفهم العين ما ترى. لقد أخطأت العين البشرية في فهم حركة الشمس ولكن الشمس لم تخطئ في حركتها. إن نظام الفلك هو الذي صحح خطأ الإنسان، خطأ فهمه، خطأ تصوره، خطأ صوره الذهنية. لما يقول الله "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" فهو يشير إلى آلية تصحيح الخطأ الواقع العملي بالرجوع إلى الآفاق، إلى الفلك الدوار لنفهم سننه. وكذلك إذا أخطأنا في فهم وتصور المجتمع نرجع إلى المجتمع لنكشف قوانينه، وندرك أن في مخالفة هذه القوانين العذاب الأليم الذي سيرغم الجميع على الرجوع إلى الحق وقبول النور والخروج من الظلمات.
علينا أن نفهم الحق في السماوات والأرض والآفاق والأنفس "ما خلقنا السماوات والأرض إلا بالحق" والكون خلق على الحق والنطق حق وتصحيح الخطأ الذي يقع في فهم النطق أو في فهم النص يكون بالرجوع إلى العواقب. الحداثة بدأت تحلل نفسها وتحلل تصوراتها ووسائل نقل التصورات. وميشيل فوكو، الفيلسوف الفرنسي الراحل، يتحدث عن نظام الخطاب ويتساءل: "ما هو هذا الشيء الخطير جدا في كون الناس يتحدثون وفي أن خطاباتهم تتكاثر بلا حدود؟ أين هو الخطر إذن؟" هكذا يتساءل فوكو وهو الذي كتب كتاب بعنوان: "الكلمات والأشياء".
إن الخطر هو أن تنقطع العلاقة بين الواقع والكلمات. والشيء الذي يملأ هذه الفجوة هي العاقبة، لأن الكلام إن دخله النقص أو الخطأ فالعاقبة هي التي تصحح النقص والخطأ في الفهم. فمن هنا كان إلحاح القرآن في النظر إلى العواقب. وبدون الاطمئنان إلى هذا التكامل تظل الوقائع والنصوص خرساء لا تدل على شيء، وقد يحل مكان النصوص الآباء وتصورات الآباء. والخطر الذي يخاف منه فوكو هو عدم وجود الصلة الواضحة الجلية بين التصورات والعواقب فلهذا يتشكك فوكو ويقول ربما الحقيقة تكمن في البراغماتية.
ومصطلح "البراغماتي" يقابله في القرآن آية "ما ينفع الناس يمكث في الأرض"، ولكن يمكن أن يفهم المفكر الحداثي أن ما ينفع الناس هو ما ينفع 20% من الناس المسيطرين على العالم. ولكن ليس هذا هو النفع. والحاصل مهما تلاعب المتلاعبون في الكلمات ومعانيها والأحداث وتأويلها فإن العواقب هي التي تظهر درجة نفعها.
ولقد أدت فلسفة الحداثة إلى أخطار الضلال وضياع الحقيقة والوصول إلى العدمية السوفسطائية ونظرية اللايقين ودعمت هذه الأفكار العبثية التي هي ضد الإنسان. ويمكن أن يؤمن الإنسان بالعبثية ولكن لا يمكن أن يمنع من وقوع نتائج العبث.
والصحابي حين كان يقول للمشرك اخلع عنك الأوثان كان يعني اخلع عنك الأوهام والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجده شيئا. كيف نخرج من التلبس والتمسك بالأوثان والأوهام والخرافات؟ كيف نكشف الزيف العالمي، ووثن العنف، وخرافة أن الإنسان يعطي على الإكراه والتخويف ما لا يعطي على الإقناع؟ نحن الآن محاطين بأوثان مختلفة، فالإكراه وثن وخوف الإنسان من الوهم وثن، وضياع حبل الحق الموجود في الكون المادي والحياتي وثن.
إن الشرك يفسد الإنسان ويدسي نفسه وينمي فجورها، بينما التقوى يؤدي إلى الالتزام بالسنن والقوانين.