إن الله يدافع عن الذين آمنوا

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

سأحاول تطبيق القراءتين، القراءة الإلهية والقراءة البشرية، على هذه الآية. علينا أن نكشف قوانين القرآن كما اكتشف الإنسان قارات الأرض والمجرات. علينا أن نكتشف قارة القارات، النفس الإنسانية، أبدع ما خلق الله، والخلق الآخر الذي سجدت له الملائكة، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً لخدمته مجاناً.

ما هذا الإنسان؟ وكيف يدافع عنه الله؟ وكيف يدافع هو عن نفسه؟ إن الله خلق الإنسان ولكن على الإنسان أن يؤمن ويكتشف ما هو الإيمان. هذا قلب للأمور. علينا أن نكشف النفس الإنسانية، النفس المسواة، المبدعة من الله بديع السماوات والأرض. علينا أن نكتشف مركزية الإنسان ونتخلى عن مركزية الإنسان، ونتخلى عن مركزية الآخر لنكشف عن مركزية الأنا، لنكشف قانون "من عند أنفسكم" ونلوم أنفسنا بدل الآخر عند المصيبة. إن النصر من عند الله وإن الهزيمة من عند الله. والنصر من عند الإنسان والهزيمة من عند الإنسان كما هما من عند الله. النصر له سننه والهزيمة لها سننها. إنهما ثمرة الأشجار التي نزرعها. هل يمكن أن تجني من الشوك عنباً ومن الحسك تيناً. فما لهؤلاء القوم لا يكاد يفقهون حديثاً. لا بد من كشف هذا التوافق. إن قوانين الإنسان خفية الآن مثل ما كانت قوانين حركة الشمس والأرض. فكما انخدع الناس بالحركة الفلكية فإنهم مخدوعون الآن بالحركة البشرية. لو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض. لو كانت الشمس هي التي تدور حولنا لفسد نظام الكون، لأن أهواءنا كانت تظن ذلك. واليوم تظن أهواءنا أننا يجب أن ندافع عن أنفسنا ولا قدرة لنا على الاستغناء عن الدفاع عن النفس.

لن تكون في أمان مادمت تدافع عن نفسك بالأسلوب الذي أشتبه علينا.

كيف سأعلم الناس هذا الجنون؟ ولماذا كل الرسل وصفوا بالجنون، "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون". الجميع ينكرون ما جاء به الرسل كأنهم تواصوا به واتفقوا على رفضه. الأمر ليس كذلك، بل هم قوم طاغون. إنهم نقضوا الميثاق، وعبدوا الطغيان، وآمنوا بالطغيان، وعبدوا الطاغوت في ذاتهم قبل أن يعبدوا الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به، يتحاكمون إلى الطاغوت، وإلى الإكراه، الذي هو شأن الطاغوت. لو أنني طوال حياتي ما كشفت إلا هذه الفكرة لكانت كافية. وأنا قضيت أكثر من نصف عمري في إبراز أن الأنبياء ليسوا مجانين وأن ابن آدم الأول لما قال لأخيه: "لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" أنه كان يقول، أخاف أن أنقض الناموس وسنة الله وانقض العهد والميثاق وأعبد الطاغوت الذي في داخل الإنسان فيتملكني الطاغوت الذي في داخل الآخر. إن سورة العلق، أول سورة نزلت، ذُكرت فيها ثلاث مبادئ كبيرة: أولا، أن القراءة وسيلة الفهم، لولا القراءة ما عرفنا الفلك ولما وصل إلينا العلم، لهذا آدم فقط الذي علمه الله الأسماء وجهلتها الملائكة، أي أن الإنسان تميز بقدرة التسمية. والفكرة الثانية، إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى. إن الطغيان موجود في قلوبنا وفي داخل كل واحد منا. ولكن الطغيان ليس مكتوبا علينا، وإنما هو داخل في قانون "ألهمها فجورها وتقواها"، أي أن التنشئة هي التي تجعل الإنسان يختار الفجور أو التقوى، الطغيان أو السواء.

إن المجتمع الذي بشر به الأنبياء هو مجتمع القانون ومجتمع السواء وأن لا يكون فوق القانون أحد من البشر. هذا هو التوحيد الذي جاء به الأنبياء جميعاً ضد مجتمع الشرك الذي يجعل بعض الناس أرباباً فوق بعضهم، القوي فوق القانون، حتى يأتي قوي آخر ويتغلب عليه ويأخذ مكانه. فكر الاعتماد على القوة في فرض القانون هو الشرك، ولقد جاء الأنبياء ليقلبوا هذه الفكرة.

ليست القوة والغلبة هي التي تفرض القانون. هذا المفهوم هو الشرك وهو عبادة الأقوياء وهو شريعة الغاب. والذي يعيش في مجتمع شريعة الغاب والشرك يجب أن لا يغير هذا الوضع بالقوة، لأن الاعتماد على القوة يلقيه في الحلقة المفرغة مرة أخرى، ويلغي الشرعية. ينبغي أن يحمي المجتمع أفراده من عدوان بعضهم على بعض، فإذا كان كل فرد يحمي نفسه فهذا يعني شريعة الغاب ومجتمع الشرك ومجتمع الطاغوت. لهذا منع الأنبياء الدفاع عن النفس حين يعتدي عليك ممثل المجتمع لأجل أفكارك، لأن دفاعك عن أفكارك بالعنف يعني أن تريد إثباتها بالقوة وهذا يعني أنك عدت إلى ملة الغاب. والأنبياء هم وحدهم الذي بدؤوا بتغيير مجتمع الغاب والإكراه بالإقناع والصبر على الأذى، أي مجتمع الرشد بالرشد. فالفرد في المجتمع الراشد ليس في حاجة إلى أن يدافع عن نفسه، لأن المجتمع يحميه. هناك قانون، وهناك قاضي، وهناك سلطة تنفيذية.

إن الخروج على المجتمع لا يكون إلا بالفكر والدعوة، ويجب أن يشعر الإنسان إذا ظُلم خارج القانون، حسب مفاهيم القرآن، كأن الناس جميعاً ظلموا، وينبغي أن نبين هذا للناس ولهذا يقول القرآن: "ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون…". عدم تطبيق القانون على كل الناس هو الشرك، هو الذنب الذي لا يغتفر. لما يصبح شخص واحد فوق القانون يفسد المجتمع وتهلك الأقوام. وهذا ما أوحي إلى جميع الأنبياء: "لقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين".

إن الامتيازات هو الشرك، ولهذا أقول وألح إن ما جاء به الأنبياء هو للناس جميعاً، أي رب العالمين أرسل رسالة عالمية للعالمين. ومن هنا فإن حق الفيتو هو الشرك العالمي الذي يعيق نمو العالم، وليس من رجل رشيد ينكر هذا بالفكر والبحث واستقراء التاريخ. كانت الأمم تهلك ولكن العالم جميعاً في مشكلة الآن. يجب على الناس أن يرفضوا أن يكون أحد فوق القانون، بحيث تصبح قرارات الأمم المتحدة متخذة بكلمة السواء وشريعة السواء من غير أن يكون من لأحد امتيازات. ينبغي أن يطرح هذا للاستفتاء في المجتمع العالمي وكل المجتمعات المحلية. فحين يصنع البشر مثل هذا المجتمع، فهناك يدافع الله عن هذا المجتمع الذي آمن بالسواء، ويحميه ويحمي فيه الأفراد.

إن الله يحمي الأفراد والمجتمعات التي تغير ما بأنفسها في فهم الطاغوت والشرك وشريعة الغاب والامتيازات. إن القبول النفسي لهذا الوضع هو الذي يجعل الناس معرضين للعدوان عليهم. يقول الله "يا أيها الناس إنما يفيكم على أنفسكم"، ويقول "من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها"، ويقول "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس". إن هذا كله يحكمه قانون: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". إن الصلاح والفساد يأتيان من تغيير ما بالأنفس. فالذين يغيرون ما بأنفسهم يدافع الله عنهم ويحميهم. يقول الله: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم المهتدون".