أن تكون أمة هي أربى من أمة
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
هذه الجملة جزء من آية في سورة النحل، وهي مكية في ترسيخ مبادئ الإيمان الأساسية في معرفة نظام الكون. وهذا يستلزم استبعاد العبث واستنباط الغاية من الوجود الذي يتحرك إلى الأنفع والأرحم. والقرآن منظومة فكرية تصورية للكون والإنسان، يدور حول الإنسان وتأويل ومآل الإنسان في هذا الوجود الذي لم تظهر لنا إلا مقدماته، وما رأينا يضيء لنا ما يأتي.
فإذا فهمنا النظام الذي يبثه القرآن سنشعر بالرحمة والود والحياة الطيبة، وسنخرج من الظلمات إلى النور، الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من النور إلى الظلمات، ومن القسوة والعذاب إلى الرحمة، ومن الكراهية إلى الود، ومن الحياة المعقدة التي ينتشر فيها الخبث إلى الحياة المطمئنة الطيبة. هذا ممكن وضروري وعلينا أن نكدح لكشفه. الناس سخروا المادة وسخروا الحياة الجسدية بمعرفة قوانينها، ولكن بقيت الحياة النفسية خفية علينا. ما زلنا لا نعرف الحياة المطمئنة السوية المبنية على الرحمة والود والسلام والصراط المسقيم إلى تحقيق الرحمة. وهذه كانت مهمة الرسل، "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، عالمية الرحمة وعالمية الرسالة ووحدة البشرية.
ما معنى أن تكون أمة هي أربى من أمة؟ كيف سنكشف أن هذا المعنى متصل بأركان الإيمان والتوحيد وكلمة السواء وكلمة التقوى؟ كيف سنكشف معنى "كرمنا بني آدم"؟ وكيف سنعرف معنى الخلق الآخر في الإنسان، والروح التي نفخها الله في الإنسان، هذه الميزة الإنسانية العامة في البشرية كلها والتي تميز الإنسانية عن سائر المخلوقات "ثم أنشأناه خلقاُ آخر فتبارك الله أحسن الخالقين". إن لم نبن تصورنا للكون والإنسان على أسس متينة راسخة فسيفسد كل شيء لأن الأساس الخرب يوهن البنيان كله، وهذا ما قال الله عنه: "فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم".
إنني كثيراً ما أضرب المثل بالفساد في قمة العالم بحق الفيتو، الفساد الأكبر في العالم والأساس الموهن لكل البناء البشري. وعدم سماع الناس بإنكار هذا الأساس، الخبث الجاهلي، وسكوت الناس وإعراضهم عنه نوع من الفساد . وهناك نوع آخر من المقياس الفاسد في العالم: الافتخار بالقوة البشرية والمالية، المعبر عنه في القرآن بالأموال والأولاد.
إن كثرة السكان وزيادة الدخل ليس هو الهدف الأساسي. فلم تأت على الأرض فترة أكثر سكانا وأعلى اقتصادا من الوقت الحالي، ولكن المشكلة ليست هنا وإنما في الفساد، وفي عدم المساواة بين السكان وعدم العدل في توزيع الأموال.
ويكرر القرآن "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً". الناس يفتخرون بارتفاع الدخل ولكن يخادعون في التوزيع ويخادعون في إهمال بحث هذا الموضوع، وسبب الفساد الذي ينتج عنه أن تكون أمة هي أربى من أمة هو نوع من الابتلاء والاختبار. لهذا يقول الله بعد هذه الجملة مباشرة "إنما يبلوكم الله به". هذا امتحان واختبار للقوة البشرية وقوة الإنتاج، أين ستوجه، وكيف ستستخدم، وهذا متصل بالمشلكة الإنسانية التي تزل عندها الأقدام ويسقط الناس صرعى لليدين وللجنب ويصيرون أحاديث لمن بعدهم. لهذا قال الله عن قوم موسى الذي قالوا: "يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا". فأجابهم موسى: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". وقال الله لأصحاب محمد (ص) في سورة محمد: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها". يقول لهم إن صرتم أقوياء وكثرت أموالكم وعزت أنفاركم كما قال الذي يحاور صاحبه: "أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا". إنه الفخر القديم، الفخر الزائف، الافتخار بالقوة والمال الجيش والأموال.
لهذا ألح وأكرر إن محمداً (ص) لم يأت ومعه المال والجند، وإنما جاء ومعه كلمة السواء وكلمة التقوى، أن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا. جاء ومعه كلمة الأمانة وكلمة الصدق فصنع بهذا الجند المنصورين، والأمة السواء المتساوين، وحفظ العهد والميثاق والأمانة والإيمان، لأن الإيمان بالله والإيمان بالأمانة هو العهد الذي أخذه الله على الإنسان حين نفخ فيه من روحه وكرمه.
وهذا العهد والميثاق بيولوجي في الإنسان، يولد معه مع "ألهمها فجورها وتقواها". هذه القدرة في الجينات التي تصنع الجهاز العصبي للإنسان الذي لا يكرر الخطأ ولا يمد يده إلى النار ثانية، يكفي أن يخطئ مرة واحدة. يخلق الله الأطفال ومعهم هذا، وهذا هو العهد والميثاق والإيمان والأمانة التي قال الله عنها: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين". هذا الميثاق ميثاق العهد والأمانة والمحافظة عليها هو لب القرآن ولب الرسالات ولب المشاكل الإنسانية. كيف ينقضون العهد! إن جملة "أن تكون أمة هي أربى من أمة" جاءت ضمن الوفاء بعهد الله، هذا العهد المبثوث في القرآن كثيراً، عَهْدُ أن لا نعبد الشيطان والشر وأن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا.
هذه الآية التي تتحدث في سورة النحل مع آية الأمر بالعد والإحسان وآية الوفاء بعهد الله الأزلي في عالم الذرة والجينات والوفاء بعهد الله الذي نقطعه على أنفسنا حينما نعقد المعاهدات، لهذا يقول الله: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به".
هذا هو البلاء العظيم والمبين. لا تخربوا ما بنيتم من عهد فيما بينكم اعتمادا على القوة، أن تكون أمة أربى من أمة. هذا هو الاختيار القاسي أمام العالم جميعاً. لهذا يقول الله في الآية التي بعدها مؤكداً هذا، أن لا نخادع ولا نعطي الوعود والعهود والمواثيق ونحن نضمر إمكان النقض اعتمادا على قوتنا، فيقول لنا: "ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم لا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذي صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
هذا الكلام ما كان حديثاً يفترى، وليس بالهزل، ونحن حين نقلل من قيمة العهود والمواثيق اعتماداً على قوتنا أو قوة غيرنا وننقض الميثاق ونفقد الثقة فإننا نفقد الإنسان ونصير عباد الأوثان بعنجهية. حين نستخف بالأمانة فإنما نستخف بأنفسنا، ويستخف بنا الآخرون أيما استخفاف. أنا أريد من القارئ العادي، من المرأة العادية، والإنسان العربي العادي أن نبلغه الإيمان حتى لا يفرح بالغادرين والناكثين العهد، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها. أين المواثيق العربية الإسلامية؟! أين المعاهدات؟ إنها تتبخر عند الاعتماد على القوة، سواء القوة الذاتية أو قوة الغير.
إن الاعتماد على ذلك أول التخريب للإنسان في أعمق أعماقه. كيف سأوصل هذا إلى الإنسان العربي والمسلم؟ كيف أعيد إليه الإيمان بالصدق والأمانة وعدم النفاق؟ كيف سنعلم المثقف والمتدين أن يخرج من هذه الملل مهما كثرت وتنازعت لنفهم ملة إبراهيم فنعتصم بحبل الله وميثاق الرشد والعروة الوثقى، لا نفرح بالذي ينقضون العهد والميثاق ويشترون به ثمناً قليلا بل دمارا مؤلما نتجرعه ولا نكاد نسيغه.