أنشودة رمزية

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

لقد وضع مالك بن نبي، الكاتب الجزائري الراحل، في مقدمة كتابه، شروط النهضة، أنشودة رمزية: إن آدم لما أهبط إلى الأرض وجدها عامرة بالحيوانات الكاسرة ذوات الأنياب والمخالب وجاء هو إلى الأرض عريانا ضعيفا يدب على الأرض بينما يرى النسور والعقبان في جو السماء والحيتان في المياه العميقة والوحوش المفترسة في الغابات الكثيفة فرأى آدم نفسه أعزل عريانا أمام هذه الكائنات التي سبقت الإنسان في العيش على هذه الأرض فشكى أمره إلى ربه ، فقال له ربه: لقد أعطيتك عقلا يمكن أن تطير به في السماء وتغوص به إلى الأعماق وتحد من قوة الوحوش الكاسرة.

كان البشر يوما ما محصورين في زمان ومكان محددين بحيث لم يكن لهم القدرة على فهم كروية الأرض وكانوا محصورين في جزء منه، يبحثون عن نهاية العالم. وكذلك في الزمان، فلم يكن البشر يعرفون عمر الأرض وكم صار للإنسان على الأرض. ولكن الذي علم بالقلم فتح أمام الناس قدرة معرفية لا نهاية لها. وقدرة الإنسان على فهم نظام الكون وكشفه تكبر على مر الزمان. أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، وأتى على الكون حين من الدهر لم يكن مسخرا بوعي يكشف قانونه ويتدخل في تسخيره.

وليفهم الإنسان تاريخه بدأ يحفر عن آثار الإنسان التي انطمرت. فهناك الناس المختصون الذين يحفرون في الأرض ليستخرجوا البقايا العضوية –سواء الإنسان أو غيره من المخلوقات- وليعرفوا تاريخها والزمن الذي كانت تعيش فيه. ومن عهد قريب بدأ الإنسان يحفر عن المعرفة أيضا، كيف بدأ الوعي في الحياة البشرية، وكيف أوقد الإنسان النار، وكيف زرع الأرض، وكيف استأنس الحيوان، وكيف تعلم الكتابة، ثم كيف سخر الإنسان الطاقة وكبر عضلاته في خدمة الإنسان بواسطة الآلات التي اخترعها إلى درجة أنه اخترع أيضا الآلات التي تكبر معرفته وتحسب بدلا عنه.

إن تطور وسائل نقل المعلومات شيء مهم. ولم يزد على دخول القراءة والكتابة في حياة الإنسان خمسة آلاف سنة.

والكتابة كانت لصالح الحكام أو الطبقات والأقليات المهيمنة فقط، ولم تكن تصل إلى عامة الناس. لقد كانت ولادة الإنسان مع ولادة اللغة، الوسيلة الأولى لنقل الأفكار من شخص إلى شخص. كانت الملائكة توجه الاتهامات إلى آدم وزوجه في الاحتفال بميلاد الإنسان واستخلافهما، ولكن كان الشاهد على صدق الاستخلاف لآدم وزوجه وأهلية الإنسان لهذا الاستخلاف وإمكانية الخروج من الفساد وسفك الدماء أن آدم صار قادراً على وضع الأسماء ووضع العلامات والرموز.

إن قدرة الإنسان على الكلام تزامنت مع نمو جهازه العصبي، وقدرته على ربط الأسباب بالنتائج، ومقارنة النتائج النافعة بالنتائج الضارة، وإمكانية نقل نتيجة هذه القدرة في ربط الأسباب بالنتائج والمقارنة بين النتائج. لما تحققت هذه الإمكانية صار عند الإنسان قدرة التسمية والترميز، أي أن الإنسان أصبح قادرا على تسمية ما يراه ومن ثم نقل هذا من جهازه العصبي إلى الجهاز العصبي عند الآخر. بهذا الأسلوب وبهذه الإمكانية تتطور الحياة الإنسانية.

وصارت التجارب تتراكم بسرعة وتعددت الاختصاصات. إن التسمية والقدرة على النطق والكلام وسائل عجيبة عند الإنسان. إن الحيوانات تملك أشياء بدائية من هذا النوع. نرى مثلا أن طيرا يحدث أصواتا تحذيرية حين يظهر طائر مفترس ليدركه الجميع، وهذا شيء وراثي عندهم. ولكن عند الإنسان انتقلت الوراثة إلى إمكانية الإنسان على الترميز وينقلها بالتعليم إلى الآخرين. إن تقنيات القراءة والكتابة قدرات كامنة عند الإنسان ولكن تحويلها إلى واقع بالفعل يحتاج إلى جهد كبير. وجميع المدارس في العالم يهتمون بتسهيل اكتساب تقنية القراءة.

وهذا ما يعانيه العالم الإسلامي ولا يوفر لكل مولود اكتساب هذه التقنية. وهذا مرتبط بالإحصاءات في نسبة الأميين. وعلى المجتمع الإسلامي أن يقوم بتعميم هذه التقنية، أي إتقان إمكانية القراءة. إن وضع العالم الإسلامي السيء المهين المذل لم يحدث عبثاً ولا يتغير إلا ببطء شديد إلا لأن المشرفين على ثقافة العالم الإسلامي لم يؤدوا دورهم.

لا تزال الإنسانية إلى الآن في مرحلة الطفولة لا تتمكن من ترشيد نفسها ولا تنظيف حياتها، ولا نزال نعيش ما توقعه الذين شهدوا ميلاد الإنسان من أنه مفسد في الأرض وسافك للدماء، ولم نحقق علم الله، وأنه يمكن لهذا الإنسان أن يسند إليه الاستخلاف في الأرض ليتغلب على الفساد وسفك الدماء، الفساد العالمي في توزيع المعرفة وتحصيلها والاستخفاف بالدماء وسفكها. ولكن سنكتشف نظام الكون وأنه لم يخلق بالباطل والعبث، وإنما خلق الله السماوات والأرض بالحق. ذلك ظن الذين كفروا. إن الذين كفروا هم الذين يخفون الحق في الوجود. ولهذا سمي الفلاحون في اللغة كفارا لأنهم يخفون البذور في التربة حين يزرعون. ويقال الكفر لقرية الفلاحين المزارعين.

لقد جد في حياة الناس من رؤية لآيات الله في الآفاق والأنفس ترك الأساليب التي تعيق النمو وتهدر الإمكانات إلى وسائل في ترشيد الاقتصاد وبناء الإنسان الذي بدونه تتحول كل الإمكانات إلى غثاء يذهب جفاء. الطاقات اللانهائية، المليئة في الكون، لا تساوي شيئا بدون بناء الإنسان وبدون تكون المجتمع، وبدون بناء المعرفة التاريخية، كيف بدأ الخلق وكيف نما الخلق، وكيف كشف الإنسان السنن الكونية والسنن الاجتماعية.

كأن المعرفة التاريخية لما حدث ليست متوفرة لنا. هناك قطيعة معرفية، ولم نتمكن من سد الثغرة التي قطعت التواصل المعرفي. كيف حدث ما حدث؟ هذا الموضوع هو الذي يصفه القرآن بنقض العهد، عهد الله من بعد ميثاقه، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، فيقول في سورة البقرة: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون". وفي سورة الرعد آية في نفس الموضوع عن "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار". إن الانقطاع في معرفة كيف بدأ الخلق وانقطاع تسلسل الخلق من الذرة الأولى إلى بقية العناصر الأخرى ومن أولى الكائنات الحية إلى الإنسان يؤدي إلى نظرة مبتورة للتاريخ. إن الذي يفقد التواصل يحدث عنده الانقطاع ويؤدي به ذلك إلى ضياع السننية وبروز الخوارق وعدم النظام والفوضى الذي يؤدي في النهاية إلى العبثية والعدمية.

ولابد من المحافظة على عدم الانقطاع فيما أمر الله به أن يوصل، وعهد الله وميثاقه أن لا نتخذ أربابا من دون الله فننسب سنن الله إلى غيره فتفسد كل حياتنا وتحبط كل أعمالنا. ولتجنب ذلك علينا أن نكشف سنن الله ونسخر الوجود للأنفع ولما هو خير وأبقى، ولابد أن يكون هذا واضحا وضوحا ساطعا لا لبس فيه ونكون على نهج سوي ومحجة بيضاء ليلها كنهارها.

إن الوعي الصحي ينـتج من معرفة قوانين الصحة الجسدية. فكما أن الوعي النفسي ينـتج من معرفة قوانين الصحة النفسية والتزكية النفسية علينا أيضا أن نكشف ذلك في واقع آيات الآفاق والأنفس ومن دلالات آيات الكتاب وبلاغ الرسل. علينا أن نحافظ على هذا الميثاق الذي أخذ الله العهد علينا وأن لا نكون من الغافلين بل من الذاكرين المذكرين والمبشرين المنذرين وأن لا نكتم آيات الله ونكون من الذين يبلغون رسالات الله.