أبو ذر نموذجا

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
مقالات ذات صلة
......................
انقر هنا لتحميل المقالات (Doc)

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

في المقالة السابقة تحدثت عن بلال كنموذج للإنسان الذي تحرر. وفي هذه المقالة أريد أن أسلط الضوء على نموذج أبي ذر الغفاري، الشخص الذي نقد ما عليه المسلمون عندما فقدوا الرشد.

كان أبو ذر يرى أن الوجود ينطوي على سر كبير وأن هذا الكون ليس العبث الذي يعيشه الناس فلما سمع بدعوة محمد أوصى أبو ذر أخاه أن يأتي له بخبر هذا الرسول الجديد، ولكن ما أتاه به أخوه لم يشف غليله حتى ذهب هو بنفسه إلى مكة وقصته مشوقة جدا.

فعندما وصل مكة خشي أن يسأل عن الإسلام صراحة حتى التقى بعلي ابن أبي طالب فأوصله خفية بالرسول (ص) فكان أن أعلن إسلامه، وكان من وصية رسول الله (ص) له أن يرجع إلى أهله فإذا بلغه أن الإسلام ظهر يأتي ويلتحق به، ولكن أبا ذر أبى وقد استنار قلبه ببشاشة الإيمان. إنه صار عبدا لله، وليس عبدا لمحمد. إن محمدا كان يوصل الناس بالله الذي خلقهم وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، الله الذي يعلم السر وأخفى، ومحمد نفسه هو عبد لله ورسوله فأبو ذر لم يأخذ بما أمره به رسول الله من العودة إلى أهله وإنما قال: والله لأعلنتها على رؤوس قريش، ومضى إلى الكعبة وأعلن بأعلى صوته إنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فقامت قريش إليه وطرحوه يضربونه حتى استنقذه منهم العباس وذكّرهم أن قبيلة غفار على طريقهم في التجارة.

إن أبا ذر تعلم الصدق والحق حتى نال شهادة أن ليس تحت أديم السماء من هو أصدق منه لهجة، وشهد له الرسول بذلك، وقال عنه أنه يعيش وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة أمة وحده. نعم إن أبا ذر حقق نبوءة رسول الله فيه، فقد عاش وحده حين بدأت المودة في القربى تداخل الرشد في الحكم. كان أبو ذر يذكر الحاكم بمن قبله في أن مودته لم تكن على القربى، فكان يرد عليه أنه إذا كان هو قطع رحمه لله فأنا أصل رحمي لله. إن أبا ذر الذي نور الله بصيرته لم يكن ليسكت على هذا، وكان عليه أن يعيش الوحدة في إنكار ما يراه منكرا والجهر بما يراه حقا حتى نفي من الشام حيث كان رابطا، ونفي من المدينة ومات في منفاه. إن إنكاره على عثمان وأقرانه لم يكن مثل إنكار من ثأروا على عثمان وقتلوه. إن القتل لم يكن أسلوب التغيير في بدء الدعوة كما كان بلال وآل ياسر وعبد الرحمن بن عوف الذين شهدوا شهادة الحق وكفوا أيديهم وأقاموا الصلاة وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، حتى جاءهم نصر الله والفتح من غير أن يقتلوا شخصا واحدا.

إذا كانت السنة أو القانون تتدعم بالأمثلة فإن الأمثلة تستنبط منها القوانين، ونجد نماذج عميقة واضحة لفهم الإسلام ونشوئه في نموذجي بلال وأبي ذر. فبلال رضي الله عنه كان مثالا فاقعا في تحرير الإنسان بالإسلام حيث كان وهو الرجل الغريب عن مكة وليس له فيها أهل ولا عشيرة يختار موقعه ويمارس حريته. لم يقل بلال ماذا يعنيني نزاع أهل مكة وأنا شخص طارئ فاقد الحرية يبيعني الناس ويشتروني ولا قوة لي ولا مال، وإنما فهم شأن رسالة الإسلام وهو يملك أن يشهد بما يراه حقا، وهذا ما كان يتعلمه المسلم حين يشهد لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة ويصدق ويلتزم أركان الإسلام. كان يؤخذ من المسلم العهد على أن يقول بالحق ولا يخاف في ذلك لومة لائم، فإن ما كان يقوم به أي مسلم جديد هو أن يشهد للحق ويقول به ولا يخاف لومة لائم. إن التوحيد والأحدية دخلت أعماق بلال، ودخلت أبا ذر.

لقد فهم كلاهما أن أكرم الناس عند الله أتقاهم ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وأن الناس لا يتفاضلون بالأنساب والألوان، وهذا الذي أكد عليه رسول الله في حجة الوداع، وهو يودع المسلمين. هذا هو بالذات ما كان فهمه بلال من الإسلام، إنه آمن به هو أما الآخرون فليس من شأنه أن يبالي بهم، قبلوا هذا أو رفضوه.

هذا نموذج بلال الذي اخترقه سحر محمد حسب رأي قريش. ولكن الإسلام هو الذي اخترق بلال وحوله من إنسان يملكه رجل من أهل مكة إلى إنسان يملكه رب العالمين، فلا يبالي بملكية الناس لأنه صار مملوكا للخالق الأعظم رب العالمين. يمكنهم أن يعذبوه ولكن لا يمكنهم أن يجعلوه يكتم شهادة الله وأن يكتم الحق الذي أنار جوانحه، تماما كما حصل مع أبي ذر أيضا، الذي رفض أن يكتم الحق عندما بدأ المسلمون يفقدون الرشد.

إن هذا الالتزام هو الذي نسخه المسلمون. إن تغيير معتقدات الناس ونشر الإيمان لا يكون بالقتل وبالإكراه. فهذا الذي التزمه المسلمون، لا لضعفهم، وإنما للتغيير الذي حدث في إنشاء المجتمع والالتزام به والامتناع عن ممارسة شريعة الغاب، شريعة المجتمع الجاهلي.

إن مجتمع الرشد لا يمكن إنشاؤه بعقيدة مجتمع الغي والبغي والإكراه، ومن لم يصدق هذا فلينظر إلى التاريخ. هل الثورات الدموية جاءت بمجتمع الرشد ومجتمع اللاإكراه.

إذا كان الذين من قبلنا لم يشاهدوا حدثا تاريخيا في أسلوب إنشاء مجتمع الرشد بالرشد، والحكم الشرعي بالأسلوب الشرعي، فما عذرنا نحن الذين نعرف التاريخ. لقد أوّلنا أن ما حدث في بداية ونشأة الإسلام واستعمال الأسلوب الشرعي كان ناشئا عن ضعف المسلمين. هذا التفسير لكف اليد الذي حدث والصبر على الأذى في الدعوة هو الذي سبب الخراب إلى يومنا هذا في العالم الإسلامي.

إن الذين لم يتبين لهم هذا الالتزام الصارم باللاإكراه وبالرشد والإقناع أضاعوا الرشد. إن هذا الاختلاط، أي اختلاط الدنس بالمقدس في العالم الإسلامي هو الذي يحرم المسلمين اليوم من أن يقبلوا الديمقراطية التي ساق التاريخ الناس إلى اتباعها في هذا العصر.

إن المسلمين يعجزون عن فهم مغزى الديمقراطية. فكما شوه المسلمون السعي الأول في الإسلام للطاهر المقدس والرشد والتزام سبيل الرشاد فهم يشوهون الآن معنى الديمقراطية. لقد علم الرسول (ص) أتباعه أنهم لا يحمون أنفسهم حتى يصنعوا مجتمع الرشد الذي لا يحمي الفرد فيه بالدفاع عن نفسه، وإنما المجتمع يحميه ويحمي عقيدته، وماله ودمه ما لم يمارس المحرمين عند الأنبياء جميعا (القتل والتهجير لأجل الأفكار)، فكل من مارس هذا فهو مجتمع شريعة الغاب، ومجتمع مضاد للأنبياء جميعا. قال آزر لابنه إبراهيم، "لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا"، وأصحاب الكهف قالوا عن قومهم، "إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ويعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذن أبدا".

هذه هي ملة الأنبياء وتلك ملة معارضيهم. هذه هي ملة إبراهيم الأواه الحليم وملة آزر الذي يهدد بالرجم والتهجير. هاتان الكلمتان، "القتل" و"التهجير" للمخالف في الرأي مبثوثتان في القرآن. وإذا وجد مجتمع الرشد عليه أن يكف المجتمع الجاهلي الذي يقتل ويهجر الناس لأفكارهم، لتحرير الناس من القتل والتهجير. هذان العملان هما المنكران في القرآن بصرف النظر عن دين وأفكار المجتمع.

فمجتمع الرشد هو الذي يحمي عقائد الناس وبهذه الحماية يترك أمر الأفكار لقانون التاريخ ببقاء النافع في الأرض وانتشاره وذهاب الأفكار الغثة. فحسب القرآن، الزبد يذهب جفاء وغثاءا، أي تموت الأفكار الخاطئة موتا طبيعيا، ولا يجب أن نحرص على قتلها.

هل لكم قدرة يا مسلمون على تفهم هذا الموضوع؟ يا مسلمون لا تخطئوا. إن المشكلة ليست في غياب الحاكم الراشد، ولكن المشكلة هي في غياب الأمة الراشدة. كان على بن أبي طالب راشدا، ولكن الأمة كانت فقدت الرشد فخذلته واغتالته.

يا أبا ذر لا تزال وحيدا في فهمك للإسلام وستظل وحيدا حتى يفهم المسلمون قانون المجتمع الراشد.