فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الأول

من Jawdat Said

مراجعة ٠٧:٥٠، ١٧ أغسطس ٢٠٠٩ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

كن كابن آدم


Fuqdanaltawazon.jpg
تحميل الكتاب
مقدمة وتمهيد
فقدان التوازن الاجتماعي مقدمة
الفصول
فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الأول
الشُّعور بالمنبوذية
فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الثاني
أثر المُبرّر
فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الثالث
عالم الغيب وعالمَ الشهادة
فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الرابع
بين المبدأ وضغط الواقع



فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الأول


بين المبدأ وضغط الواقع


« إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ». النساء - 77.

… وأما خبر الأخت التي خلعت جلبابها، فليس غريباً عليَّ، بل هو الحدث الطبيعي، ومع اعترافي بذكاء الرجل وتديُّن المرأة فلا يكفي ما عندهما للسيطرة على الموضوع - لا هما ، ولا من هم أكمل منهما - بل كثيرون وكثيرات من خيرة من نعرفهم إذا تعرضوا لمثل هذه الظروف يحدث لهم الحال نفسها، فكرة وسلوكاً. فمن ناحية التصرف السلوكي يتغير وضعهم، وأما التصرف الفكري فيظهر في محاولة إيجاد المسوِّغ العقلي لهذا التصرف السلوكي، بل والشرعي أيضاً.

ولو فُهم ما يتطلبه اللباس الإسلامي من الثقافة أو الروح التي تعطي المبرر والمسوّغ له، لساعد هذا الفهم على حل كثير من المشكلات، ولكن الانفصام الاجتماعي الذي يعانيه مسلم اليوم الذي يفقده توازنه في هذا الموضوع، فلا يتمكن من أن يكيَّف ضغط الواقع مع مقتضيات المبدأ إلا بشيء من التلفيق، وبيان هذا بحاجة إلى شيء من الشرح.

وهنا تتوارد عليَّ أفكار كثيرة وخواطر تعين على تبيين الموضوع، لا أستطيع شرحها كلها، ولكن لابد من الإشارة إلى بعضها، لأن الحادثة كانت غريبة على الأخوات، والغرابة تأتي من خفاء بعض الأسباب، وهنا ينبغي أن أبادر وأقول: إني لم أغير رأيي في الأخ وزوجه، فهما نموذجان جيدان من مجتمعنا، ولا أزال عند تقديري لهما، وعندي أمل فيهما، فإن ما يتمتع به الأخ من الأخلاق والذكاء - أعني: الإخلاص والصواب - أكبر بكثير مما عند غيره. ومن شروط الحياة الاجتماعية أن الثغرات لا تُفْتَحُ إلا عندما يكون التخلُّف، كما في مجتمعنا، وإنه لمن النموذج الممتاز، وحتى حين يقوقع وينسحب من مجال الفكر والعمل الإسلامي لا يكون عمله غريباً، وإن كان ثباته مُتوقَّعاً أكثر من غيره.

ألا تذكرين الكثير من الرعيل الأول من دعاة الفكر الإسلامي: كيف انحسروا؟ إلا أن نوع الانحسار يختلف من شكل إلى آخر، وإن كان المآل في النهاية واحداً وهو الانحسار. وإننا كثيراً ما نعجز عن رؤية السبب الواحد للنماذج المختلفة، فالانسحاب من العمل الإسلامي إذا أردنا شرحه - كما يفعلون في البحوث النفسية الاجتماعية - نقول: إن الإنسان الذي فقد مُسَوِّغ عيشه في المجتمع، يترك المجتمع كما يترك أيّ إنسان الوظيفة التي لم تعدْ لديه مسَوِّغٌ للتعلق بها. ولهذا التصرف أمثلة كثيرة متفاوتة في الوضوح والغموض، إلا أن الانسحاب من المجتمع يأخذ صوراً شتَّى.

ففي بعض الأحيان يأخذ الانسحاب صورة الانتحار: كأن يلقي الإنسان بنفسه من جبلٍ، أو في نهرٍ، فهذه الحالة معناها أن الإنسان الذي فعل هذا، شعر بأنه أنهى دوره في المجتمع، ولم يَعُدْ لوجوده مبرر، لذلك أنهى حياته بشكلٍ ما، وانسحب من المجتمع على هذه الصورة. إن شعوره بأن الناس يرونه في وضع معيب، أو مليء باليأس، هو الذي يورطه، وإنه لو اقتنع بأن موقف الناس منه ليس بهذا، وإنه قادر على محو ماضيه، فإنه لن ينتحر.

ولكن بعض المنسحبين الذين أنهوا دورهم لا يفعلون هكذا، ولا يتصرّفون التصرّف نفسه، وإن كان الدافع واحداً في الحالين (وهو الشعور بأنه لم يعد له مبرر، ولا مهمة لوجوده في هذا المجتمع)، فهذا النوع الثاني لا ينهي حياته الاجتماعية انتحاراً بالسكِّين، ولكن يعتزل المجتمع، ويفرّ من أداء الواجب، لأنه لم يبق له مبرر. وهذا الذي قيل فيه، فهناك من ينتحر بالسيف، وهناك من ينتحر بالسّبْحَةِ.

كما أن هناك انتحاراً آخر يحصل عند البعض، حيث يتركون دينهم، ويتبعون الأهواء والشهوات، وهذا الانتحار غير صامت، بل له ضجيج، وصاحبه منسحب من مجتمع إلى مجتمع آخر، فهو لم يعد يخدم المجتمع الذي نشأ فيه وأنشأه، وكان هو ثمرة من ثمراته، بل يخدم مجتمعاً آخر ليس له أي فَضْلٍ عليه.

وبالرغم من اختلاف هذه الأشكال، إلا أن النتيجة واحدة، وهي: أن مثلاً معيناً قد خسر فرداً من أتباعه، وأنّ الدافع إلى الانسحاب واحد أيضاً في عنوانه العام وهو: عدم بقاء مبرر للوجود في هذا المجتمع الخاص، كما يبدو لهم، فهم يبحثون عن مكان آخر غير هذا المكان، والطرُّق إليه كثيرة، فهذا ذهب إلى قبره، وذاك ذهب إلى صومعته أو كهفه، والثالث ذهب إلى مكان يليق به أيضاً.

فقد يختلف هؤلاء أخلاقياً بالنسبة لمبدأ معين، ولكن النتيجة الاجتماعية واحدة، فمن الناحية الأخلاقية يقال للأول: منتحر، وللثاني: زاهد معتزل، وللثالث: مُتهتِّك أو تقدّمي، حسب الذوق الأخلاقي للمتحدِّث.

إلا أن كلاً منهم ترك مجتمعه، فالكل ماتوا اجتماعياً بالنسبة لمجتمع معين. فالأول أضاف إلى موته الاجتماعي موتاً عضوياً، والثاني أضاف موتاً فكرياً، والثالث أضاف إلى الموت الاجتماعي والفكري شللاً وظيفياً، فهؤلاء ماتوا كما تموت خلايا الجسد حين يصيبه الضعف.

والانسحاب من المجتمع يكون على درجات، والإنسان الذي ينسحب قد لا يخرج من المجتمع، أو عليه دفعة واحدة، وإنما على مراحل، والذي يهمنُّا هو الدافع الذي يحمل الإنسان على سلوك ما.

إن الضعف الذي أصاب الجسد الإسلامي، والذي من أعراضه موت خلاياه بالشكل الذي بيَّنَّاه هو فقدان المبرر، أو ما يسميه توينبي: الشعور بالأناقة. وهو الشعور بالتميُّز والتفوق الحضاري، ليس تفوق فرد على فرد، وإنما تفوق مجتمع على مجتمع، وحضارة على حضارة.

فالمسلم لم يعد يشعر بأنه يحمل شيئاً يحتاج العالم إليه، وهذا الأمر بحاجة إلى تأمُّل، ومسلم اليوم لا يشعر ولا يدرك، أي: لا هو مقتنع غيبياً ولا عقليَّاً، لأن غيبيتهُ فَقَدت السند العقلي، ومن يدرك الحقائق لا يغْتَرُّ بأقوال من زعموا الكمال، لأنهم يتكلمون بالبطولات وهم منهزمون، ولا يفطنون إلى الذي ينقصهم، أو ينقص آليتهم الاجتماعية، حتى يستطيع الفرد في المجتمع أن يكون منسجماً بين سلوكه وأفكاره، وهذا الوضع السيئ مصاب به مجتمعنا من أخمصه إلى مفرقه، ولكن العموم في البليَّة يخفِّف من الإحساس بالمشكلة، أو يضعف إدراكها، ولكن ضعف الإدراك للمشكلة ليس حلاً لها، إذ أن الحلْ المنجي للمشكلة يتطلَّب أرقى الاحساسات وأوعى المدارك لحلِّها لا التبلُّد فيها.

فكما أن الجسد الذي أصابه الخلل، وأخذت تموت خلاياه له دواء، كذلك الجسد الاجتماعي الذي أصابه الخلل، وبدأ أفراده يموتون الموت الاجتماعي الذي أشرنا إليه، له دواء أيضاً، ولقد ضرب مالك بن نبي - رحمه الله - مثلاً مضحكاً لمظاهر المجتمع المريض الذي يتجسد مرضه في قادته حين يحاولون أن يثبتوا شخصياتهم، بأن يلبسوا الطربوش مثلاً في المجتمعات الدولية: « وفي عصر شاع فيه الأسلوب العالمي بتأثير امتداد الحضارة الغربية التي وضعت طابعها على العالم كله، يصبح من المضحك في عصر كهذا أن نلفت النظر إلينا بطابع من طوابع القرون الوسطى، فمن الممكن أن نكون سلبيين من الناحية السياسية بمجرد تفصل بسيط لثيابنا، أو حركة نبديها، أو هيئة نرتديها، وحين نرى وزيراً مسلماً يرتدي البزّة الأوروبية، ويحتفظ بطربوشه الأحمر من قبيل النعرة الوطنية خلال حفلة ذات صبغة دولية، فإننا نشعر بأنه قد اختار السلبية مهما كلفه ذلك من ثمن، وهي سلبية معجونة من خليط العجرفة الصبيانية والجهل بالعالم الراهن في اتجاهه العام.

وتشعر أيضاً بأن الأمر يتصل بمجتمع بدأت حضارته من القدم ولم تصل بعد إلى الرأس.. ».

  • ابن نبي - مالك ، فكرة الأفريقية الآسيوية - ترجمة عبد الصبور شاهين ، (القاهرة : دار العروبة) ، ص 283 . الطبعة بدون تاريخ .

ولقد رأيت هذا المشهد حين ذهبت أول مرة إلى مصر، حيث كان الملك ورئيس الوزراء يلبسون الطرابيش الحمر، التي لها بقايا الآن في شوارع دمشق أيضاً. مع أنهم كانوا يلبسون البزَّة الإفرنجية، ويضعون رباط العنق.

ولكن نلاحظ أن هناك خروجاً على هذا الأسلوب من الاتصال مع العالم عند « غاندي »، فلقد كان غاندي يشعر أنه يملك شيئاً: العالم في حاجة إليه، فكان مقتنعاً بعقله، وبإيمانه الغيبي بضرورة حاجة الإنسانية إلى ما يدعو إليه، فكان لذلك يشعر بضرورة الانسحاب لأن له هذه المهمَّة، ولم يشعر أيضاً بضرورة التقليد للآخرين بأن يغيرِّ ن مظهره، لأنه لم يدخل إلى المجتمع العالمي ليقلده، بل لأجل أن يغيرِّه، فلا يمكن أن يحصل انسجام بين هذين الأمرين: بين محاولة تغيير العالم، وبين تقليده، فالمقلِّد لا يمكن أن يكون هادياً، ولا يمكنه أن يهدي من يقلِّده، لأنه إن فعل، فعمله هذا عَبَثٌ وسخرية، ويجلب له سخرية العالم، لهذا لم يغيرِّ غاندي لباسه، ولم يلبس بزَّةً إفرنجيةً بعد أن حمل مهمته العالمية، بل كان كثيراً ما يمشي حافي القدمين، حاسر الرأس، كأيّ هندي آخر من أبناء أمته.

ولكن هذا الشعور الذي كان يحمله زعيم الهند أنقذ الهند إلى حدٍّ ما، مما لم يستطع أن ينقذنا منه قادتنا الذين أشرفوا على قيادتنا. ون « نهرو » لم يغير لباسه الوطني، وإن ابنته أنديرا لا تشعر بالمنبوذية حين تمثل العالم الثالث بلباسها الوطني، مع أن لكلمة التي استخدمتها الأخت المسلمة في التعبير عن وضعها إن بقيت بلباسها كلمة: « الشعور بالمنبوذية ». هذه الكلمة موطنها الهند، ولا يتذكر أحد « المنبوذ » إلا ويخطر في باله منبوذو الهند، لأن المنبوذية من عقائد الهند. وليس منشأ المنبوذية في ارضٍ أو وطنٍ، وإنما هي حالة نفسية، وتخلُّفٌ نفسي في أساسها، هذا التخلُّف هو الشعور بالاستضعاف الذي هو « نفي الأنا » أو على حسب تعبير محمد إقبال - رحمه الله -: « رمز نفي الذات ».

إن الشعور بالأناقة (الشعور بالتميُّز الحضاري)، والشعور بالمنبوذية، شعوران يمثلان بدء الحضارة، وانهيار الحضارة، فالحضارة تبدأ بالشعور بالأناقة أو (بالاهتداء إلى الصراط السوي للخروج من الأزمات الملحَّة)، بينما الشعور بالمنبوذية شعور باليأس، وانسداد الطرق أمام المشكلات والأزمات.

وفي السير في الأرض، وفي النظر إلى سِيَرِ الذين خلوا من قبل، نجد هاتين الحالتين النفسيتين تلازمان النهوض والانحطاط، فقد ظلَّ العالم الغربيُّ حتى قرنين مضيا، يحمل شعور الأناقة، كما ظلَّ العالم الإسلامي ما يقرب من عشرة قرون يحمل هذا الشعور.

وهذان الشعوران يتناوبان البشر والمجتمعات، كما قال الله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ …) آل عمران - 140، في درجات متفاوتة، بحيث نرى بقايا الشعور بالأناقة في بداية دورة الشعور بالمنبوذية، كما نرى الشعور بالمنبوذية يبرز بدرجات متفاوتة قبل وبعد بدء الشعور بالأناقة، ويمكن تفسير كثير من المواقف التي تمثل أدوار الحضارة في نماذج معينة: فعند المسلمين نراه في نموذج ربعي بن عامر، وعقبة بن نافع*، وفي نموذج غاندي عند الهند، وفي نموذج نابليون عند فرنسا حين خطب في جنده بجوار الأهرامات ممتلئاً حماسة وشعوراً بالأناقة.

  • فربعي بن عامر حين دخل بلاد الفرس ، بل حين دخل على مالك الفرس ، لم يكن يشعر بالمنبوذية ، أو بالدونيَّة ، بل كان يشعر بأن هؤلاء الذين بيدهم حطام الدنيا وحكمها ، إنما هم مكبَّلون بغرائزهم ، وإن إنسانيتهم قد ضاعت باستبعاد بعضهم لبعض ، لقد دخل عليهم ربعي وهو يحمل حالة نفسية يمكن تسميتها : رسالة إنقاذ للآخرين ، ولقد استنشق ربعي هذه الحالة النفسية من مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان الإنسان يُربَّي على أنه صاحب رسالة وأن من واجبه الصعود ببني آدم إلى مستوى الإنسان المكرّم .

والشعور بالأناقة قد يكون في صورة انتصار عسكري، أو تكنولوجي، أو عدالة اجتماعية، كما في الثورة البلشفية، أو في صورة حقوق إنسان كما في الثورة الفرنسية ن وأما عند المسلمين ففي صرة القيام بدور حمل رسالة إنقاذ للبشر، وإخراجهم من عبودية بعضهم لبعض، والمتمثلة في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلّا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ..) آل عمران - 64. وقد تجلىَّ هذا بوضوح في موقف ربعي بن عامر رضي الله عنه وعقبة بن نافع - رحمه الله - وأمثالهما كثير في التاريخ الإسلامي.

كما أنه يمكن العثور بوضوح على نماذج من هذا في الحضارة اليونانية والرومانية، والحضارة القديمة إذا ما رجعنا إليها.

كما نجد النماذج لحالات الشعور بالمنبوذية في هذه الحضارات كلِّها. وهنا ينبغي أن نذكر ملحوظة وهي: أن التماثل النفسي في الدوافع والسلوك لا يستدعي تماثلاً في الحكم الأخْرَويِّ، كما في قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ..) البقرة - 165. فالتماثل الموجود في الآية هو التماثل الذي نعنيه فيما يتعلَّق بالدوافع في الحياة الاجتماعية لأعمال الناس وليس تماثلاً في الحكم الأخلاقي، أو الأخروي، وقد بحث الأستاذ مالك بن نبي - رجمه الله - هذا الموضوع - في كتاب: « مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي » تحت عنوان: « صِدْقُ الأفكار وفعَّاليتها »، أي صحَّتها أخلاقياً، وإن فشلت في صلاحيتها لحل المشكلات في وقتٍ ما، وذلك لأمور ترجع إلى البشر وليس إلى المبدأ، أو أنها صالحة نسبياً لحل المشكلات ولكنها غير صحيحة تماماً.

فمن الخطأ أن نطلب من الأخت أن ترتفع إلى مستوى حالة الشعور بالأناقة (كرامة الإيمان)، وهي لا تزال في مرحلة الشعور بالمنبوذية، وهذا هو التعبير المطلوب من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد - 11.

كما يمكن التعبير عن هذا المعنى بعبارة أخرى، كأن نقول: من الخطأ أن نطلب من الأخت أن تُبِرزَ شخصية المرأة المسلمة في لباسها ومواقفها، قبل أن نطلب من زوجها أن يخرج من نطاق التقليد والتبعية للآخرين في لباسهم ومواقفهم، ولبيان ذلك نضرب مثالاً من الهند - منشأ كلمة المنبوذية -: لقد استطاعت أنديرا أن تلتزم بلباسها الشعبي، وبتراث ثقافتها، وتقاليد شعبها، عندما كان أبوها نهرو ملتزماً بالتراث الشعبي واللباس الوطني، محليَّاً وعالمياً. واستمرت أنديرا بالتزامها هذا عندما كان زوجها - وهو فيروز غاندي* - قد نشأ في بيت يلتزم ويحترم تقاليد أمته، ويظهر في المجتمع المحلي والعالمي بلباسه الوطني.

  • ينتسب فيروز غاندي إلى الباريسيين - أي المجوس - ولم تكن بينه وبين زعيم الهند المهاتما غاندي أية علاقة حيث كان غاندي هندوكياً .

ونحن حين يكون وضعنا، ووضع الأخ المسلم مثل (جون كنيدي) في مظهره في أمريكا، أو في شوارع دمشق، فمن الصعب أن تقتدي الأخت إلا بـ (جاكلين)*.

  • حبذا لو تمكن القارئ من فهم القانون والسنَّة مجردين من الأشخاص ، فقد تتماثل الدوافع مع تغير المكان والزمان والأشخاص ، ولا تتغير الحقائق ، ولا يتغير شيء من الحقائق أبداً ، وهذا ما قال عنه : ( تشابهت قلوبهم ) ولا نقصد هنا من ذكر الأسماء سوى الاستعانة لفهم الموضوع بالأمثال . وكما قال الأقدمون حين كانوا موضوعيين : (مناقشة الأمثال ليس من دأب الرجال) ، وإن الأشخاص المذكورين هنا هم الذين كانوا في بؤرة المسرح حين كتب هذا الموضوع

وحين أقول هذا، فأنا أبعد الناس من أن أحُطَّ من قدر أخٍ معين، أو أخت معينة، وإنما أصفُ مجتمعاً يعجز أن يمدّ الفرد الذي ينشأ فيه بالشروط الضرورية للتوازن الصحيح في المجتمع البشري الذي لا يشعر بأنه يساهم في بنائه بشيء مهما كان يسيراً..

وهذا المجتمع ليس ممثِّلهُ فلان وفلانة فقط، وإنما أُمثِّلهُ أنا، وتمثلهُ أنت، وحين يختلط الأمر علينا فلا نعرف جوانب النقص فينا، يحول ذلك بيننا وبين ن نتَّخذ الموقف الصحيح في كثير من أمور حياتنا، وإن إمكان إصلاح نقائصنا ليس بإنكارها، ولا بإخفائها، وإنما بمواجهتها بصراحة، لأن الكتمان ليس بدء الشفاء، وفي هذا الموضوع بالذات، وعند هذه النقطة أيضاً، أريد أن لا يُفهم الموضوع على أنه نقد لاذع مُوَجَّهٌ إلى شخص معين، فليس هذا موضوعي البتة، وإن كان سبباً في أن أتناول الموضوع على سعته وعمقه، وهذا الذي أريد أن أنَبَّهَ إليه كي يؤتي البحث أُكُلَهُ وفائدته، لا أن يُصرف إلى حادثة جزئية.

وشيء آخر أشعر أنه ينبغي عليَّ التنبيه إليه أيضاً، وهو ضرب المثل بـ (غاندي) أو (نهرو) أو (أنديرا)، فالمسلم يشعر بوخزٍ في نفسه حين يسمع بهذه الأسماء، أو بنوع من الاستكبار، أو الترفُّع، أو الكبرياء المنحطة، ولا سيما حين يسمع ذلك في صدد البحث في المشكلة الإسلامية، فكيف اختار المَثَلَ - لموضوعي - من نماذج المجوس، وليس من نوع آخر؟!!

الواقع ؛ إن الموضوع إن لم يُشرح بشيء واقعي يصدم نفس المسلم، ويهزّه، لا يكون مجدياً في إيقاظه وشفائه، بل لا يساعده على تقريب الموضوع.

فإذا كان المجال الإسلامي الذي نعيشه في حالة منبوذية، فالأولى أن نُذَكِّر المسلم بما يشعره بذلك، وساعده على أن يخجل من نفسه، لا أن يستمر في غروره، فينبغي أن يعلم المسلم المستوى المتوازن الذي وصل إليه في هذا العصر، حتى المنبوذين من المجوس، بينما نحن نضطر إلى أن نذكر أسماءهم ومثالهم للمسلم ليتمكن أن يحصل (هو) على التوازن، أو الشعور بالذات الذي فقده، فالمسلم فقد ذاته، ونسي نفسه، وجعل العالم الذي يعيش فيه، فهو تائه حائر.

وهنا نستوضح الدَّرْكَ الذي انحدر إليه المسلم، فالذين يريدون أن يرفعوا من نفس المسلم المتهاوية، ينبغي أن يعرفوا أنها في القاع والقعر، ولا أعني أبداً استحالة انتشاله، بل أعني أن انتشاله لا يكون بشعوذات غبية، ولا بفرنجاتٍ عفوية، وإنما يكون بمعرفة سنة الله، فمعرفة السنة هي المعجزة، وبتطبيق القانون والسنة سنحصل على أكبر ما يمكن تصوّره عند منتظري المعجزات، أو ما تأتي به الظروف والحظوظ التي يحلم بها أصحاب أحلام اليقظة الذين: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ..) الكهف - 18.

أيتها الأخوات المؤمنات:

سرِنَ بجدٍّ ونشاط لفهم الحياة، ولفهم هذا الكون في الآفاق والأنفس، وستصلن بلك إلى نتائج حسنة، وإن هذه المرحلة التي نحن فيها، ونعالج فيها هذه المشكلات التي تعترضنا وتضطرنا إلى التفكير فيها، وإن هذه المشكلات وهذه الأسئلة المحرجة التي توضع أمامنا، إن هذا كله معناه: أننا نواجه المشكلة مواجهة سافرة، فلا تَراجُعَ، ولا تردُّد، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت - 69. فسْرِنَ والله معَكُنّ..

وإن زادنا في حل المشكلة، وفي هذه المواجهة، يكون بمقدار ما عندنا من صبر وجلدٍ على تَفَهُّم القضيَّة، ومصدر الصبر والجلد هو: (اليقين بأن الطريق الذي نسير عليه، يؤدي إلى الهدف الذي نسعى إليه) ـ (أي تأمل الأحداث البسيطة التي تقع تحت سمعنا وبصرنا ، ومعرفة أسبابها ، والانتقال منها إلى أحداث أخرى معقدة أكثر منها ، إلا أنها مثلها أيضاً في إمكان رؤية أسبابها ، وهذا ما نحن بصدده)، فقد يكون عندنا هدف، ولكن ليس عندنا اليقين بأن هذه الطريق موصلة إليه، فلا نصبر على السير فيها. وقد لا يكون عند أحدنا هدف واضح، فلا يرى أنه يستحق الفائدة من المسير، إذن مشكلتنا في النهاية ترجع إلى وضوح الهدف الذي نسعى إليه، وإلى اليقين بأن الطريق الذي نسير عليه هو المؤدي إلى هذا الهدف، هذا جوهر الموضوع. ومعنى وضوح الهدف يختلف حسب مستواه، سواء: في الأسرة، أو في المجتمع الخاص، أو في المجتمع العالمي.

فعلى مستوى الأسرة ينبغي أن يكون الهدف مما يرجعه بالعائد الحسن عليها، كأن يقلّلُ من مشكلاتها، ويرفع من مستواها. وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمع الخاص، أن يكون الهدف محقّقاً خيره، مزيلاً لشروره. وعلى المستوى العالمي ينبغي أن يكون تحقيق هذا الهدف هو الذي يحلّ المشكلة العالمية المعقَّدة اليوم.

فيما سبق أشرت إلى جانب مما يفقده المسلم في مجتمعه الذي يعجز أن يقدم له توازنه ومسوّغات حياته في المجتمع البشري، ولكن أريد أن أشير هنا إلى جانب آخر يعجز فيه المجتمع أن يقدّم للفرد الذي ينشأ فيه مبرّر موته، فكما يعطي المجتمع للإنسان مبرر حياته، كذلك يعطيه مبرر الموت إذا اقتضى الأمر، فإذا عجز المجتمع أن يقدِّم لمن ينشأ فيه وظيفة معينة، يمكن أن يخدم بها المجتمع البشري، فإنه يجعل من الفرد الذي ينشأ فيه فرداً مقلِّداً، يبدأ التطوُّر، أو التقليد من عند رجليه، كالزعماء الذين أشرت إليهم، لا كما وقف غاندي شاهداً على العصر، ونذراً له بالثبور، إن لم يقلع عن أفكاره، فهذا الرجل استقى من مجتمعه ومن المجتمع العالمي ما أمكنه أن يحرّره من التقليد، فكان يوجِّه اللوم العنيف لمواطنيه الذين يقلِّدون الغرب في كتابه الذي أسماه: « هذا مذهبي » أو: (حضارتهم وخلاصنا)، وأوضح أن كُرههُ للإنكليز لم يكن بسبب لون بشرتهم، (كما يكره الأمريكيون البيض السكان الزنوج)، وغنما كان يكرههم بسبب أفكارهم التي يمثلون بها فرعون حين علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم، يُذبِّح أبناءهم، ويستحي نساءهم، كان غاندي يكره كل هندي يريد أن يصير مثل الإنجليز، وكان يقول للهنود: « إذا كان كرهنا للإنكليز أنهم في بلادنا، وإذا طردناهم سنصير مثلهم، فلا يقلّ كرهي للهندي الذي يستذلّ إخوانه عن الإنكليزي الذي يستذل الهندي »، لأن عدم التمييز بين هذين الأمرين والخلط بينهما يؤدي إلى عدم ارتفاع الذل، حين يرتفع الاستعمار عنهم، لأنهم لم يرفعوا الذل عن أنفسهم، فلم يكن سعيهم لرفع الذل، وإنما لطرد الإنكليز، فيمكن أن يُطرد الإنجليز ويبقى الذل مع ذلك، ولكن إن طردوا الذّلَّ، فلا يمكن أن يَحُلَّ الأمريكان محل الإنكليز بعد ذلك، وفي النهاية سيخلصهم ذلك أيضاً من اتفاق الروس والأمريكان على إذلالهم..

وأشعر أنه ينبغي أن أنَبِّهَ إلى شيء آخر في الموضوع أيضاً، وهو: أن مسلم اليوم لا يمكنه أن يفهم الشيء إلا طاهراً مُقدساً، أو دنساً حقيراً (ومن الاتجاه الثقافي الذي كون هذا الموقف : (إعطاء الأحكام مجردة من مبرراتها أو أدلتها) كما هو الحال في اغلب كتب الفقه والفتاوى). أمتا أن يعرف الفضل لأهله على حسب ما عندهم من الفضل والميزات ( فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى ) سورة النجم - 32، فليست عند المسلم هذه المقدرة، وهذا ما يهوّن عليه أحياناً أن يشهد شهادة زور على نفسه أو على غيره: على نفسه حين يحقَّرها، أو حين يُعظِّمها أكثر من اللازم، وعلى غيره كذلك حين يبخسه حقه ( وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) سورة الأعراف – 85، أو يقدّره فوق قدره، وبذلك يشوه الحقيقة في كلا الحالين، لأنه فقد المقياس، والذي يفقد المقياس يبتعد عن الإنصاف في الإفراط أو التفريط في أحكامه، وهذا ما جعلنا ننظر إلى الهند باحتقار دون أن نعرف لها ميزتها عن غيرها.

والذي يدعوني إلى هذا القول هو ما أريد أن أنبِّه إليه:

في أن يقف المسلم عَدلاً في الوسط، لا في جانب أحد الطرفين، فحين أذكر للهند فضلاً ليس معناه أنه صار مُقدساً عن الأخطاء، ولكن: أليس مما يمتازون به في الهند أن يكونوا في وضع يضربون لنا فيه المثل في إمكان إعطاء قدرة التوازن للمجتمع؟ أليس حسناً أن يمثل المقياس الذي يمكن أن يُرى فيه الفرق بين مجتمعين؟ لأن التفاوت يمكن أن يُلاحظ حتى في التقليد، فالغارق إلى أذنيه غير الذي يصيبه بعض الرذاذ.

وإلى جانب ما أبديت من ملاحظة في إمكان محافظتهم على توازنهم في لباسهم الوطني، كذلك لم تسقط الهند بعد في الديكتاتورية التي ركعت لها سائر الأمم، فإذا أمكننا أن نلاحظ هاتين الملاحظتين البسيطتين، والعيِّنتين الملموستين لكل مراقب دون كبير عناء، إلا أن وراء هذه الظواهر شيئاً يصعب على المسلم إدراكه.

لمَ كانت الهند هكذا؟ ولمَ استطاعت أن تحتفظ بتوازنها، ولو لمدة أطول قليلاً من غيرها؟ ولم تأخَّرت في السقوط ضمن الهوّة؟ - هذا إذا لم يكتب لها أن تتجاوز الهوّة بسلام أيضاً - إن ذلك يرجع فيما إلى أن موقف زعمائها وقادتها الروحيين لم يكن مثل موقف زعمائنا وقادتنا المسلمين، فإن إمكان رؤية الأسباب التي وراء هذه المظاهر، ه العقبة التي تتقطع عندها قوة احتمال المسلم في البحث عن أسباب الأحداث*.

  • كتب هذا الكلام في عام 1968 ، وإن أحداث عام 1977 في (محاولة أنديرا غاندي فرض الأحكام العرفية ثم سقوطها في الانتخابات) تدعم كلامي دون أن تنقضه .

والذي أشكَلَ على الأخوات هو: « لِمَ لَمْ تستطيع الأخت المسلمة الاحتفاظ بالتوازن؟ وما الشيء الذي ينقصها؟ «. إن كشف هذا النقص في مستوى المجتمع يحلّ كثيراً من مشكلاتنا، وكذلك يعرفنا أيضاً: لِمَ استطاع الآخرون أن يحتفظوا بالتوازن في الموقف الذي لم تساعدنا فيه طاقتنا على التماسك؟ وهنا نعرف معنى سبب المناعة، ونعرف الطعم الواقي، أو نوعاً من التلقيح الثقافي والاجتماعي الذي يقي الفرد والمجتمع من الأمراض الاجتماعية التي رأينا من مظاهرها ما رأيناه.

هذا الموضوع هو الذي جهد فيه مالك بن نبي - رجمه الله - من أجل أن يُقرب فهمه للمسلمين، ولكن كثافة الحجب الموجودة على أعين المسلمين من جانب، وصعوبة الأسلوب الذي اتخَّذه مالك من جانب آخر هما اللذان حالا دون أن تُحدث كتاباته ذلك الأثر الذي كان ينبغي أن تحدثه.

إنني لم أختر في ضرب المثل الذي ذكرته مَثَلَ اليابان والصين، لأن كلاً منهما قلدا الغرب وما رفع من مستواه، وواقعنا نحن أسوأ من مثل اليابان والصين، لأن كلا منهما بدأ تقليد الغرب من الرأس (في التكنولوجيا)، بينما نحن بدأنا التقليد من الأسفل (استيراد الأشياء)، وكنا زبائن نشتري، وكانت الصين واليابان تلاميذ يتعلَّمون*، ووقفنا نحن عند العنق، مثلما المتحشرج الذي كاد يختنق.

  • راجع كتاب « في مهبِّ المعركة » فصل : (الأفكار الميتة والأفكار القاتلة) للأستاذ مالك بن نبي

إن موقف الهند يمكن أن يُرى فيه اختلافاً عنَّا، وعن الصين واليابان، وكذلك أكرّر أن الهند لم تكن النموذج الكامل في الموضوع، وإنما فقط كانت مثلاً يمكن أن يُقرِّب لنا حالة خاصة، وهي أن الهند لم تَقبلْ أن تُقلد: لا من الرأس (التكنولوجيا) كالصين واليابان، ولا من الرجلين (استيراد الأشياء) كالبلاد العربية والإسلامية، أقصد: استيراد الأشياء الاستهلاكية، بل أرادت الهند أن تُدين العالم في اتجاهه، وتُخطّ لهم خطاً جديداً في الحياة، غير الذي تعوَّده العالم، وهذا فضلاً عن أنه جديد لا عهد للناس به، فليس من السهل السير في مثل هذه الطرق الجديدة، وإذا أردنا التدليل على أن الهند لم تكن في المستوى المطلوب، فإننا نرى زعيمها الذي كان يدعو الشعب الهندي إلى (طريق الحقيقة) كما كان يسميه، قد مات مغتالاً على أيدي الهنود أنفسهم، كما إننا نَلتمس التردد الذي يصيبها في سيرها، والذي يمكِّن البعض من أن يتجاهل أو ينكر مزاياها.

وأرجع إلى الجزء الذي ينقص المسلم من الصحة الاجتماعية التي تمكِّنه من الاحتفاظ بالتوازن بين المبدأ والواقع مبتدئين من مثل يُقَرّب الأمر إلى أذهاننا.

وأنا أغتنم الفرصة التي تَنَبَهتْ فيها ملاحظةُ الأخوات لهذا الحدث الخاص، والذي دعاني للكتابة في هذا الموضوع، فمثلاً: إذا تصورنا الذي تجده الفتاة حين تريد أن تلبس اللباس الإسلامي من عقبات، فإننا نجد:

1- والدتها، وأفراد أسرتها.

2- وإذا ما استطاعت أن تجتاز المرحلة الأولى بسلام، تأتى العقبة من المجتمع في المدرسة، والشارع، والوظيفة و … الخ.

3- وإذا ما اجتازت ضغط جو الأسرة، وجو المجتمع والبلد الذي تعيش فيه (مع التفاوت في مقدار الضغط)، وتيسر لها الانتقال إلى المجتمع العالمي، فإنها تكون أمام جو جديد بقيمِهِ، وعاداته، وأفكاره، وأخلاقه.

ففي هذا المجتمع العالمي ستشعر بضغط أشد من ضغط المرحلة السابقة، وهنا تكون ذروة الضغط، وربما يرفع الشيطان مستوى الضغط (لكل على حساب مرحلته)، لأن حرص الشيطان على منع نشر الحق شديد، فإبقاء الأمر في جو الأسرة فقط أهونُ من الخروج إلى الشارع والمدرسة والجامعة، والبقاء في المجتمع العالمي، وإن أقوى إغواءات الشيطان آخرها، فمن لم يتغلَّب عليه الشيطان في مرحلة ما، يحاول أن يتغلَّب عليه فيما بعد في مرحلة أخرى، وسُبُلُ الشيطان كثيرة:

(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) الأعراف: 16 - 17.

ولكن يمكن أن نرى الأسباب التي تُيسِّرُ وتهوِّنُ عمل الشيطان الخفي، والذي لا يمكن أن يراقب أعماله ومداخله إلا المخلصون من عباد الله، والذين هم على بصيرة، والذين يسيرون على قدم رسول الله ، وبالتالي هم الذين يمتلكون سبُل تجنُّب إغواءات الشيطان، فهذا الباب الذي فتحه الله لنا للهرب والتخلص من الشيطان، بل ولطرد الشيطان منه، وهذه القدرة على التمرد على الشيطان هي هِبَةُ الله العظيمة للبشر، ومكانة كرامة هذا الإنسان عند الله رب العالمين:

(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِين) الحجر - 42، إلا من اتبعه باختياره واستسهاله لطريقة الشيطان، والشيطان يعترف: (وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) إبراهيم - 22. فهذا الشيطان الذي يفقدنا توازننا في هذه المواقف، يمكن التغلُّب عليه، بل ويمكن طرده من مجتمعنا، فإنه لا يستطيع أن يمشي في الطريق الذي كان يمشي فيه عمر رضي الله عنه، لأن عمر يملك توازناً صحيحاً واعياً، لقد فتح عمر العالم ولم يُقلِّد العالم المعاصر له، بل نقل إلى العالم ما العالَمُ محتاجٌ إليه، فأخرجهم من أن يكونوا عبيداً للشيطان، أو لبعضهم بعضاً، وإن عمر كان قد أخذ هذا التوازن من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أسلم شيطانه، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته والناس: كيف يتحرَّرون من غواية الشيطان، فأنار للناس الظلمات التي نحن فيها الآن، ورجعنا إليها من زمان بعيد، وصار الشيطان فينا دولة وسلطان، ولقد كان الشيطان يائساً من أن يعبد، وكان يخاف من عمر، فإذا سلك عمر فَجاً، سلك الشيطان فَجَّاً غير فَجِّهِ، كما كان رعب الشيطان عظمياً عندما كان ربعي بن عامر رضي الله عنه يتحدِّث في مجلس قائد الفرس، وحين كان هذا الصحابي يمزق الحُجُب التي تمكِّن الشيطان من التسلُّط على البشر، ومن جعل سلطانه عليهم مُحكماً.

كأني شردت عن الموضوع الذي كنت أبحثه، وهو الضغط الذي يلاقيه المسلم من الجِنَّةِ، ومن الناس الذين حوله يوسوسون إليه حين يريد أن يسلك سبيل الله.

إن فهم الضغط على المسلمة في لباسها واضح للأخوات، لأنهن يعشنَ هذا الأمر، ويَفْهَمْنَ مهمة الشيطان التي مارسها مع آدم عليه السلام أبي البشر وزوجه، ويَشْعُرْنَ بوسوسته، ولكن كم يكون مفيداً لو عرفنا السبب الحقيقي لهذا الضغط الذي ليس على الجلباب فقط، ولا على التي تلبسه، وإنما على المسلم أيضاً حين يصير ممثلاً للمجتمع الإسلامي وللبلاد الإسلامية، فإن الضغط الذي يرفع الشيطان مستواه إلى درجة عالية قد يضطر البعض إلى تقديم القرابين للشيطان رُعباً منه أو تَقَرباً إليه.

هذه الضغوط المختلفة الدرجات هي خطوات الشيطان التي يخطوها في بسط سلطانه على أتباعه، فنرى من آثارها: هنا خلعُ جلباب، وهناك تَركُ فريضة الصلاة، وهنا فرارٌ من تعليم القرآن، وهناك هروب ٌ من الأمر بالمعروف، وهنا تقديم للقرابين على قدمي الشيطان.. خطوات متتابعة، كلها حلقات آخذ بعضها برقاب بعض، إن فكرة عبادة الشيطان ليست فقط في الأخبار التي نسمعها من بعض المجتمعات المتخلِّفة، ولكنها طريقة معينة، وموقف خاص من الشيطان، وهي أيضاً تمارس عنده مستويات مختلفة، وإن أشد إغواءاته آخرها، والشيطان أيضاً يَتَحَضَّرُ، ويترقى مع ترِّقي العصر، فيبتكر أساليب شيطانية راقية مناسبة للقرن العشرين، وكيف لا يكون ذلك؟ وقد تمكن بالفعل من إحياء عادة تقديم القرابين البشرية في القرن العشرين، على أعتابه، وهو باسمٌ قرير العين، بل صار يختار نماذج من القرابين لا يرضى بغيرها، وهكذا كان شأنه فيما سبق، فلم يكن يقبل إلا أجمل الفتيات في القرون الغابرة، حين كان يمارس الفراعنة هذه العبادة له، فيُقدمون قربانهم على نموذج معين حين يلقون ملكة الجمال في مياه النيل.. إلى القاع والموت..

ولكن ينبغي أن لا ننسى أن الشيطان تمكن من هذا لأننا لم نَتَفَهَّمْ سُنَّةَ الخلاص من مكائده، مع أن كيد الشيطان ضعيف، ولا يقابله في الضعف إلا الغفلة والبلاهة التي نبديها إزاء دراسة سنة الخلاص من غواية الشيطان وطرقه الملتوية، التي يُلبس بها الأمر علينا، فيظهرُ لنا في كل مرة بلون، كما بين ذلك محمد إقبال - رحمه الله - فقال:

تلَوَّن(1) في كل حال مناة(2) شاب بنو الدَّهر وهي فتاةُ

(1) أي تتلوَّن.

(2) مناة: اسم صنم اتخذه المشركون إلهاً.