بلال نموذجاً 2
من Jawdat Said
جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))
ماذا كان يقصد بلال بن رباح، العبد الحبشي المملوك الذي يباع ويشترى في مكة حين كان يقول: أحد! أحد! وهو يعذب من قبل قريش لأنه صبأ إلى دين محمد؟
لقد فشل المسلمون في فهم بلال بن رباح وصبره على تعذيب قريش، وفسروا هذا الصبر على أنه ضعف. وفسروا كل قصص صبر المعذبين في مكة كنتيجة لهوان المسلمين وقلتهم، وهذا يشوه أقدس ما في الإنسان إلى أسوأ ما يمكن أن يكون عليه الإنسان. الإنسان أكرم ما خلقه الله (ولقد كرمنا بني آدم) للإمكانات التي عند هذا الإنسان، وللقانون الذي يحكم هذا الإنسان. وقصة بلال تعطينا المثال وتبين سنة وقانون الإنسان الذي يعطي على الإقناع ما لا يعطي على الإكراه. فبلال بن رباح نموذج للإنسان الذي أعطى بالإقناع نفسه وماله ولكن كسب إنسانيته ولم يزيف ذاته ولم يسفه نفسه "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه". بلال كشف نفسه ولم يسفها، بينما المسلمون سفهوا قصته ومسخوها عندما فسروا صبره ضعفا.
أريد أن أزيل التزييف الذي لحق بقصة بلال وقصة آل ياسر وقصة محمد وقصة الأنبياء جميعا، الذين قال الله لنا أنهم قالوا: "ولنصبرن على ما آذيتمونا". أريد أن أرفع التشويه الذي لحق بقصة بلال وإخوانه وآل ياسر من أنهم لم يدافعوا عن أنفسهم لكونهم ضعاف لا قوة لهم في المقامة. إن هذا من أعظم التشويه، ويظهر هؤلاء الصابرين أن لا قدرة لهم على الشجاعة المعرفية. وسبب هذا أن المسلمين ربطوا الشجاعة بالغي والإكراه. فعندما خسروا الرشاد تقبلوا منظومة الغي وفسروا كل تاريخهم وتراثهم حسب قيم الغي والقوة، ودخلوا إلى مذهب الخوارج بدون شعور منهم، يجيزون تغيير الحكم وصنعه بالإكراه. ولقد حبست منظومة الإكراه هذه تفكير المسلمين، وفقدوا القدرة على الخروج من الإكراه والبغي إلى الإقناع والرشد. ولذلك فقد فشلوا حتى في فهم قوة الإقناع التي جعلت من بلال أقوى متحد للشرك، وأصبحوا يظنون أن استخراج أفضل ما في الإنسان يكون بإكراهه، تماما كما كان أهل قريش يفعلون مع بلال، إلا أني أعلن أن الذي آمن بهذه الطريقة لتغيير عقول الناس قد خرج من الدين الذي لا إكراه فيه ودخل في الغي والبغي. أريد أن أنبه وأفتح ثقبا على تفسير المسلمين التقليدي لموقف بلال بأنه كان ناشئا عن ضعف المسلمين وافتقارهم للقوة.
إن ثقافتنا التي دخلت البغي من قرون طويلة فسرت القرآن والحدث وسيرة رسول الرسول من خلال هذه المنظومة، وحذفت المواقف الراشدة، لأنها قبلت رهان الغي والبغي. وهذه الثقافة كتبت بعد أن فقد المسلمون الرشد وتكيفوا مع الغي، ولهذا سهل عليهم أن يفسروا أعظم ما أتانا من السيرة بالضعف والعجز، وسهل عليهم أن يعظموا لحظات الزلة والعودة إلى الغي. وهكذا جاءت تفاسير المسلمين بإخفاء قوة الإقناع، بل وجعلوها مستبعدا إلى درجة لم تعد لنا قدرة لأن نتصور غير الضعف في اختيار المسلمين لعدم الدفاع عن أنفسهم. لقد فهمنا قوة بلال الداخلية على أنها عجز بينما بلال بن رباح ضرب المثل الأعلى في حريته لأحرار العالم إلى يوم الدين. لقد مارس بلال الحرية الفكرية ولم يطلب من قريش أن يعطوها له.
لم ينتظر بلال حريته من قريش في أن يختار ما يشاء من عقيدة، وإنما قال وشهد بأن ما جاء به محمد هو الحق وأن ما عليه قريش باطل، وأنه لن يكتم هذه الحقيقة والشهادة. تمسك بلال بعقيدته ورفض الدفاع عن نفسه، وكأنه يقول لقريش: يمكن أن تعذبوني، وتقتلوني، ولكن لا يمكنكم أن تجعلوني أشهد زورا في الشيء الذي أشهد أنه باطل بأنه حق. لقد أرانا بلال كيف تكون الحرية. لقد أرانا أن الحرية لا تُعطى، وإنما تمُارس ويتحمل الإنسان كل تبعات عصيانه اللاعنفي. فبلال مارس حريته وتمسك بها بقوة بدون أن يمد يده على أحد. وهو عندما تحرر فكريا عرف أنه لا توجد قوة في الأرض تستطيع تغييره بالإكراه. إن هذا نموذج جديد في الكفاح.
ألا أيها الشباب المسلم، اكشفوا هذه الأمور في تاريخنا. لقد آن الأوان للتخلص من الخضوع للقوة والإكراه. إن بلال لم يدافع عن نفسه، ولكنه دافع عن عقيدته بأعظم ما يمكن أن يدافع الإنسان عن إنسانيته. لقد دافع بلال عن عقيدته بأن تمسك بإنسانيته، لأن عقيدته أقنعته بإنسانيته.
إن بلالا لم يكن خائفا ولا جبانا ولا ضعيفا، بل كان قويا يحسده أمية بن خلف وأبو جهل على قوته واستعلائه عليهم. كان بلال يشعر بالعلو وهو يعَذب، ومعذبوه يشعرون بالذل والهوان. كيف يتمرد عليهم هذا العبد؟ من أين يستمد طاقته على الصبر؟
وأريد أن أختم مقالتي لهذا الأسبوع بما رواه ابن عباس من أنه عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له أتوا الرسول (ص) بمكة فقالوا يا نبي الله: كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة. قال الرسول (ص): إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم.
ماذا نقول عن موقف عبد الرحمن بن عوف؟ هل كان عدم دفاعه عن نفسه ناشئا عن ضعفه؟ أم أن الرسول كان يعلمهم موقفا استراتيجيا مختلف النوعية في ضرورة تحييد عالم الأفكار عن عالم الأجساد: لا إكراه في الدين، لا إكراه في الأفكار، لا إكراه في السياسة، لا إكراه في الرأي، لا إكراه في المذهب. يجب أن نفكر مليا بآية "لا إكراه في الدين". فإذا كان الله تعالى يقول لنا: "لا إكراه في الدين"، ففي أي شيء نتجرأ أن يكون لنا إكراه فيه؟
كثير من المسلمين لا يفهمون الحروب التي قام بها الرسول. وقد تختلط عليهم الأمور ويقولون أن الرسول مارس الإكراه في سبيل تثبيت الدين. ولكن الرسول صنع مجتمع اللاإكراه باللاإكراه. ويجب أن يبدأ المسلمون في فهم ما فعله الرسول (ص)، فهو كان يحارب بعد أن صنع مجتمعا شرعيا بالإقناع لإزالة الإكراه. فالرسول (ص) لم يعد ويكرر تجربة قريش، ولم يرد أن يعيد تكوين مدينة يعذب فيها الناس لعقيدتهم، كما كانت قريش تفعل مع بلال.
إن مجتمعا يأتي بالإكراه لا يزيل الإكراه، وإن لم تتمكنوا من فهم هذا فانظرا إلى التاريخ كله، بما فيه تاريخ المسلمين. هل أمكن لأحد من المسلمين بعد الراشدين بصنع مجتمع اللاإكراه؟ هل تمكن أحد من إعادة الرشد بالإكراه؟ أليس كل الذين أرادوا أن يصنعوا مجتمع الرشد بالإكراه باءوا بالفشل الذريع؟
لقد عظم المسلمون الإكراه وساروا في طريق الغي، وآخر حلقات هذا الطريق ما حدث في السودان والانقلاب الذي اعتمدوا فيه على العسكر والإكراه. انظروا ماذا حل بهم، وكيف تكررت الدوامة من جديد، وكيف جاء العسكر مرة أخرى في جنح الظلام وقلبوا الأمور بالإكراه. انظروا إلى الباكستان وانقلابهم. انظروا إلى الجزائر ودمائها. انظروا إلى كل خراب الغي الذي يحيط بنا باسم إعادة الرشد. فهل يتمكن الشباب من فهم هذا ويكفوا عن الإكراه، ويفهموا بأن مجتمع الرشد لا يأتي بالإكراه؟ هل يمكنهم أن يروا النموذج فيبلال؟